موقف جمهورية إيران الإسلامية من مطالب الشعب السوري بالحرية والعدالة وتقرير المصير، وثورته منذ عام 2011، وتدخلها مع حزب الله اللبناني وبقية الميليشيات الشيعية لقمع تلك المطالب، لم يكونا على أسس صحيحة دولياً وإنسانياً.
هل طبقت إيران فتاوى قائد ثورتها الإسلامية، “آية الله السيد روح الله الخميني” في تأييدها للمواقف والسياسات السورية؟
موقف جمورية إيران الإسلامية من مطالب الشعب السوري بالحرية والعدالة وتقرير المصير، وثورته منذ عام 2011، وتدخلها مع حزب الله اللبناني وبقية الميليشيات الشيعية لقمع تلك المطالب، لم يكن على أسس صحيحة دولياً وإنسانياً، ولم يكن كإجراء عسكري وسياسي، مهدداً مصالح الشعب الإيراني ومسيئا على وجه الخطورة لسمعة ومكانة وتراث الشيعة عموماً، بل كان إلى جانب هذا كله متعارضا كل التعارض حتى مع آراء وفتاوى قائد الثورة الإيرانية ومؤسس الجمهورية “السيد الخميني” نفسه، كما سنرى بعد قليل!
كان التدخل الإيراني تدخلاً استراتيجيا شاملا. تم توظيف كل القوى والميليشيات التي يمكن الاستعانة بها، وتُوِّجَ، بعد حرب بالغة العنف والدمار واللا إنسانية، بتدمير “حلب” عاصمة سورية الثانية وسقوطها كاملة، وهي بمثابة مدن إيران الكبرى مثل “شيراز” أو “أصفهان” أو “تبريز” أو “مشهد”! وقد رافق ذلك الهجوم الدموي الضغطُ على أغلب الفعاليات والأقليات الشيعية العربية والخليجية للوقوف في صف الظالمين ضد المظلومين، في تعارضٍ صارخ مع ما يردده الشيعة دوماً في كتبهم، وفي الحسينيات من أن مدلول “مأساة كربلاء” لا يتعلق بمرحلة وقوع المأساة قبل قرون، بل يستوجب الوقوف والتعاطف مع كل طالب حق، ومناصرة كل شعب ينهض مدافعاً عن نفسه، أو مطالباً بحقوقه وحريته ضد الظلم والإكراه و”الباطل” كما يسمى عادة.
قيمة “دروس كربلاء”، كما يردد الإسلام السياسي الشيعي، وكما قال ولا يزال المتحدثون والوعاظ الشيعة منذ أن كتبوا أو اعتلوا المنابر، بل حتى مؤيدوهم الكثر من المفكرين والأدباء السنّة المتعاطفين مع “ثورة الحسين”، دلالة هذه الثورة الرمزية وتجاوبها في خطبهم ومؤلفاتهم وقصائدهم ومسرحياتهم الأدبية، مع مأساة الشعوب المقهورة وكل المظلومين. وأثمن ما في تلك الأحداث التي جرت في القرن الهجري الأول تحويل الواقعة التاريخية المحزنة، من بطون الكتب وتراكم السنين إلى “تعرية واقع معاصر”، ومن ظلم وقع بالإمام الحسين ومن معه، إلى التعاطف مع أي كوارث ومظالم تحل اليوم ببقية العرب والمسلمين، وربما كل شعب ودين، والوقوف ضد كل متجبر وظالم، أو كما ردد قادة الثورة الإيرانية مراراً ضد كل “مفسد في الأرض”.
لقد غدا هذا “المفهوم العصري” لمأساة كربلاء، وبات التوسع في تأويل ذلك الحدث التاريخي المحزن في عموم التراث التاريخي والدين الإسلامي، بمثابة ركن ثابت في الأذهان، وبخاصة في الثقافة الشيعية المعاصرة قبل أن تعصف بها المصالح العقائدية والسياسات التي جاءت بها الثورة الإيرانية.
ويعرف كل من عاصر الثورة الإيرانية أن ربط رجال الدين وقادتها ومفكريها، من السيد الخميني إلى د. علي شريعتي وآية الله المطهري، بين مأساة كربلاء والظروف السياسية والمعيشية في زمن الشاه قبل 1979 و”الحكام الظلمة” والتغلغل في الأوساط الشعبية باستخدام سائر الرموز الشيعية التراثية والمأساوية، فكان ذلك الربط من أهم أسباب بلورة الإجماع الشعبي حول الثورة والالتفاف حول قيادتها الدينية، بل تفويضها شعبيا بقيادة “مسيرة الشعب الإيراني المظلوم”، الذي صُور يومذاك بأنه يعيش في وطنه كغربة الإمام الحسين، ويعاني ظلم الطغاة أنفسهم، وتسير به هذه القيادة نحو الحرية –”آزادي”- والعدالة، والأهم من ذلك كله الإطاحة بحكم “الطاغوت” و”النظام الطاغوتي”.
راج في إيران وخارجها في سنوات الغليان والثورة وبعدها مصطلح “الطاغوت” وكذلك “النظام الطاغوتي” لوصف الشاه ونظامه الملكي، ولوصف كل نظام حكم اعتبره رجال الدين الشيعة ومعظم الإسلاميين السنة “نظاماً ظالماً” أو “غير إسلامي” أو “لا يحتكم إلى الشريعة”.
وردت كلمة “الطاغوت” مراراً في الآيات القرآنية، ومنها البقرة 256، النساء 51، النحل 36 وغيرها، وينقل “تفسير الطبري” في معاني الطاغوت “الشيطان” و”الكاهن” و”الساحر”، ويفسر الكلمة “معجم ألفاظ القرآن الكريم” لمجمع اللغة العربية، مصر 1990 بأن الطاغوت “كل ما عُبد من دون الله”، ويفسر “محمد إسماعيل إبراهيم” الكلمة في “معجم الألفاظ والأعلام القرآنية”، القاهرة 1968، فيقول: “الطاغوت يذكر ويؤنث” بمعنى الطاغي المعتدي، أو كل رأس في الضلال يصرف الناس عن طريق الخير، سواء أكان شيطاناً أم كاهناً أم ساحراً، أو هو كل ما يُعبد من دون الله من الجنّ والإنس والأصنام، وكلمة الطاغوت معرّبة من الحبشة”.
ويفسر أحد المفسرين اللبنانيين الشيعة وهو “محمد جواد مغنية” في “التفسير المبين” آية “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ” بمعنى “تتولى أمورهم الشياطين”، ويقول “الطبري” ملخصاً الرأي “والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعُبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً أو صنماً، أو كائنا ما كان من شيء”.
لقائد الثورة الإيرانية “السيد الخميني”، كتيب معروف بعنوان “الحكومة الإسلامية”، احتوى أفكار القائد والإمام عن الثورة والحكومة وفق الشريعة الإسلامية، وقد طبع في مطابع “صوت الخليج” في الكويت عام 1979، طالب “الخميني” في هذا الكتاب بالتصدي للطاغوت قائلا:
“علينا بمحاربة حكم الطاغوت، لأن الله تعالى قد أمر بذلك، وهو قد نهى عن طاعة الطاغوت والسير في ركابه، وعلى السلطات غير العادلة أن تخلي مكانها لمؤسسات الخدمات العامة الإسلامية، لتقوم تدريجيا حكومة إسلامية شرعية مستقرة. وقد ندبنا الله في كتابه الكريم إلى الوقوف صفا كالبنيان المرصوص في وجه سلاطين الجور، وأمر موسى بمعارضة فرعون ومقاومته. وأئمتنا وشيعتهم كانوا على مدى الأحقاب يقاومون سلطات الجور في كل مكان، ولا يهادنونها وبسبب من ذلك فقد نالهم من الخسف والأذى الشيء الكثير، يظهر لنا ذلك من خلال حياتهم التي يحدثنا عنها التاريخ”.
وأضاف السيد الخميني: “لم يكن الأئمة وحدهم في مقاومتهم لسلطات الجور، بل كانوا قد دعوا المسلمين جميعا إلى مثل ما كانوا عليه”. ( ص146-150).
والآن كيف رأى السيد الخميني، قائد الثورة الإسلامية: “الطريقة الشرعية” للتعامل مع الحكومات والأنظمة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ومنها بالطبع آنذاك أنظمة كالنظام السوري والنظام العراقي وغيرهما؟
قال في ص33 من الكتاب بالنص ما يلي: “الشرع والعقل يفرضان علينا ألا نترك الحكومات وشأنها، والدلائل على ذلك واضحة، فإن تمادي هذه الحكومات في غيها يعني تعطيل نظام الإسلام وأحكامه، في حين توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت، ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، ونبعدها تماماً عن حياتنا”. (ص33-34).
ولا يغرب عن البال طبعاً خطورة مبدأ التدخل بالسياسة أو القوة في شؤون الآخرين بالطريقة التي يدعو إليها هذا النص الذي يقول بصراحة: “الشرع والعقل يفرضان علينا ألا نترك الحكومات وشأنها”، وقوله “توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك والحاكم أو السلطة فيه طاغوت”.
وقوله ثالثاً عن كل دول العالم الإسلام وأنظمته، “ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم”… إلخ.
وللقارئ أن يتصور حجم الاضطرابات والقلاقل والحروب التي سيبتلى بها العالمان العربي والإسلامي إن هيمنت هذه الأفكار العقائدية على سياستها العسكرية وأهدافها الدولية، حيث إن كل هذه الدول تقريبا “غير إسلامية” بمفاهيم الإسلاميين الشيعة والسنة، بل يحكمها بالمفاهيم والمقاييس نفسها “طواغيت”، وأنظمة تختلف عن “النظام الشرعي” و”الحكومة الإسلامية”.
ولنتجاوز الآن كل هذه الأسئلة والاحتمالات، ولكن هل طبقت جمهورية إيران الإسلامية اليوم في تعاملها مع “النظام السوري” ودعمها له، هذه “القواعد الشرعية” المعادية لـ”حكم الطاغوت”؟ وهل اهتدت حقا بتراث أئمة الشيعة الاثني عشر، وتذكرت “دروس كربلاء؟ وإذا كان كل نظام “غير إسلامي” مجرد نظام “شرك” وحاكمه “طاغوت”، فلماذا حاربت إيران الإسلامية نظام حزب البعث في العراق سياسياً وعسكرياً ومذهبياً، واستماتت في الدفاع عن نفس النظام والحزب في سورية؟ ولماذا جندت كل هذه القوى والمؤسسات والمواقف المحسوبة على عموم الشيعة، للدفاع عن نظام اعتبره “السيد الخميني” داخل دائرة الشرك والطاغوت، بل التي حذر قائد الثورة من “ترك مثل هذه الحكومات وشأنها”، دع عنك أن تدعمها عسكرياً وتتدخل لحمايتها سياسيا؟ ولماذا وجدنا هذه الفجوة والتناقضات بين موقف إيران من قطاع غزة والقضية الفلسطينية، والتي لم تتعرض لدمار حلب، وبين موقف إيران في سورية؟ ولا ندافع هنا عن سياسة العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، ولكن أما استحقت كل كوارث سورية عاماً بعد عام، ودماراً بعد دمار، وقتلا بعد قتل، أي محاولة إيرانية لرفع الظلم ومسح دموع الأيتام والأرامل والمطرودين؟
وإذا كانت إيران متورطة ومحرجة وملتزمة بمصالح معينة، فلماذا لا يقول مراجع الشيعة في العراق والكويت وبلدان الخليج ولبنان شيئاً حول هذه المأساة الطاحنة؟ ولماذا لا يعلن أحد هؤلاء لنا وبصراحة، أن ليس من واجب الإيرانيين والشيعة أن يقروا شكل الحكومة في سورية ومن يحكمها؟ أما تكفي إيران والعراق مثلا بكل إمكاناتهما “للدفاع عن الشيعة”؟ ولماذا القفز إلى سورية والتدخل السياسي والعسكري والبشري الواسع في سورية ولبنان بل غيرهما؟!
هذا الحصار الطائفي، والضياع المذهبي، وخلق عداء بهذا الحجم بين الشيعة والسنّة، هو بعض ثمار تسييس الدين وتحويل المذهب إلى أيديولوجية والطائفة إلى حزب وأداة قتال وحرب دعائية.
هذه العزلة الطائفية التي ستدمر مصالح ومستقبل أبناء الشيعة وحياتهم الاجتماعية المشتركة في مجتمعاتهم، هي بعض نتائج مغامرات ربط مواقف طوائف شيعية لا ناقه لها ولا جمل، بالقرارات السياسية والعسكرية، والقرارات التي تتخذها جهات متشددة وتوسعية في إيران ضد هذا البلد العربي أو ذلك، وضد هذا النظام أو الذي يليه، ويدفع ثمنها قريباً كل الإيرانيين وكل الشيعة، ممن تحاصرهم اليوم الحملات الإعلامية من كل لون، وتنذر بأسوأ العواقب مستقبلاً.
كيف نخرج جميعا من هذا الحصار وهذه الدائرة؟ وكيف نسترد العقل والواقعية السياسية؟ ومن يتحرك من أجل ذلك كله؟ ومن يرفع صوته؟