الحرية هي السبب الوجيه للعيش المشترك في الكيانا السياسية وبدون ذلك تفقد الحياة السياسية معناها الحقيقي، وإنّ السبب الرئيس لوجود السياسة هو الحرية لا غير. (Hannah Arendt)
عندما بدأت الدولة الحديثة في إيران تطفو الى السطح خلال عام 1925، بدأت هذه التجربة تشيّد على أنقاض الحكم الإتحادي الفدرالي أنذاك في إيران بعد إزالة حكم “السلالة القجرية التي حكمت طيلة قرون من الزمن. وجاء ذلك التغيير من أجل مسايرة ما إقتضته المصلحة الدولية، وتحديداً دول الطوق الغربي في تلك الحقبة، وهو أن يتغير الحكم في إيران من دولة تقليدية إتحادية غير مركزية الى دولة حديثة المعالم تحمل لواء المركزية والقومية (ذات مواصفات شوفينية والتي تسعى لخلق شعب واحد ومسح هوية الشعوب الايرانية الاخرى من خلال القضاء على لغتهم وتراثهم وثقافتهم غير الفارسية بإستخدام أليات التفريس التي تستولي عليها الحكومة المركزية) ولمواجهة المد الشيوعي الذي كان يطمح للوصول الى المياه الدافئة. ونظراً للنفوذ المتصاعد لأليات الحداثة في عالمنا اليوم وضرورة الحاجة الماسّة للشعوب في إيران لمواكبة هذا الحدث التاريخي ومواجهة التحديات الفكرية المتمثلة بالحداثة وما بعد الحداثة في الفلسفة السياسية الحاضرة والحصول على معلومات حول هذين الحدثين الهامين وأعني الحداثة وما بعدها، لذلك نسعى لتعريف هذه المقولات في موجز هذا المقال.
معنى الأمة: الأمة تعني جماعة تضمّ أفراداً لديهم أواصر محددة وقيم واحدة وأرض ولغة وثقافة وتاريخ مشترك.
معنى الشعب: مجموعة أشخاص ينتمون الى أطر محددة وحدود جغرافية وإقتصادية وحكومية واحدة وحياة إقتصادية وقضايا مالية وتجارية و… مشابهة الى حد ما.
معنى الدولة ـ الأمة: ظهرت هذه الحكومات في بداية مرحلة ما بعد الحداثة وواكبت صناعة الأمم. مبدئياً فإنّ الحكم السياسي للأمم يصنع نفسه على أنقاض شعوب وقوميات عديدة يرمي الى قاسم مشترك ولا ينظر بعين الاعتبار الى التعددية إذا ما إقتضت الضرورة.
معنى الدولة ـ الشعب: هذه النظرية تسعى للتنظير الى نظام وحكم سياسي يسعى الى تجميع عدد من الشعوب والقوميات المختلفة في بوتقة واحدة ليصنع منها حكومة موحدة وخلافاً لنظرية الدولة ـ الأمة يسعى الى التأسيس الى إبادة الشعوب ولغتها وثقافتها ويواكب إفرازات إنصهارها في هذا الاطار.
معنى الدولة القومية: ينظّر لحكم سياسي ينشأ من رحم أمة واحدة تسمّى الدولة القومية.
بادئ ذي بدء ومن أجل الإلمام الكامل بالمفاهيم المذكورة أعلاه يجب معرفة مفهوم الأمة والشعب في العلوم السياسية من منظار علماء العلوم السياسية والايديولوجيات المطروحة على الساحة الدولية في الوقت الراهن. توجد معانٍ عديدة للأمة في العلوم السياسية حيث يرى البعض أنّ الأمة تعني القوم الذين يعون أنفسهم ووصلوا الى مرحلة من معرفة الذات. ولكن، بسرعة فائقة، ويمكننا دحض هذه المقولة في الإستلهام بالفكر الماركسي الذي يرى بأنّ” الأمة عبارة عن مجموعة أفراد يعتنقون فكرة واحدة وهي أنّهم ينتمون الى نفس المبادئ والحدود الجغرافية والاقتصادية والمالية والتجارية.. بظروف مؤاتية “. ويعتقد المفكر الايراني السيد “أشوري” بنفس الأفكار ويمكن نقد الفكرة بهذه الصورة وهو أنّه هل أنّ الشعوب الفرنسية والبريطانية والشعوب الأروبية الاخرى التي لديها تعامل إقتصادي وتجاري وثيق تنتمي الى أمة أو شعب واحد؟ لكنّ العلماء المطالبين بالديمقراطية والتي تحمل مبادئ اللبرالية يرون بأنّ الشعب مجموعة قوميّات متعددة تمتلك لغات وثقافات مختلفة يعيشون في إطار حدود جغرافية واحدة وبطبيعة الحال لديهم تعامل إقتصادي وثيق ويسمون بالشعب. وينطبق هذا الأمر على دول ذات تعدد قومي أمثال إيران وأمريكا. وإنّ الشعب: مجموعة أفراد ذو لغة وتاريخ وثقافة موحدة في إطار جغرافيا واحدة. يجب الأخذ بعين الاعتبار بأنّ اللغة لا تعني اللهجة أو اللكنة الواحدة بقدر ما تعني اللغات المختلفة.
في نظرية الدولة ـ الأمة، تظهر الحكومة أولاً وتقوم هذه الحكومة بخلق أمة لها. وفي واقع الأمر تقوم بخلق وصناعة أمة أو شعب لها، ولكن في نظرية الحكومة القومية، تسعى الأمة لخلق حكومة مؤاتية لها. على سبيل المثال أثناء الثورة الفرنسية قام الشعب الفرنسي بكل مكوناته وأطره الشعبية ومكنوناته اللغوية والثقافية الموحدة والأرض المشتركة بصناعة دولة حديثة له. لكن على نقيض من ذلك في الدول الاروبية الاخرى مثل المانيا وإسبانيا وبريطانيا ظهرت الحكومة أولاً ثم الشعب. لكن فيما يتعلّق بإيران سواء بحكوماته المركزية أو غير المركزية، أو حكوماته الهشة أو غير الهشة، بتيارات ثقافية ولغوية وقومية مختلفة عملت على خلق هوية قومية مستثنية الشعوب الاخرى من معادلاتها وعمدت على إبعاد الاخر الايراني غير الفارسي أو تفريسه. وإنّ ألية “إيرانيزاسيون” أو “أيرنة” أو بالاحرى “تفريس” الشعوب الايرانية مستمرة الى يومنا هذا. كما عمدت الحكومات الايرانية في مختلف توجهاتها منها الملكية الايرانية السابقة على إنتهاج هذا النهج واستمرت على قدم وساق في بناء شعب حسب الطلب وتصر على نفي التعددية القومية والثقافية واللغوية الى يومنا هذا.
ولكن يجب أن نتظر ما سيؤول اليه هدا التوجه وما يبقى من فتات هذا الشعب المنصهر في المرحلة القادمة لو استمر هذا السلوك في دمج وصهر الشعوب التي صنعت حسب الطلب في المستقبل المنظور؟ أثبتت التجارب السياسية في تكوين الشعوب والحكومات التي ظهرت بعد ثورة ما بعد الحداثة الأروبية أنّ هذه التجربة كانت فاشلة لا محالة. وتوحي التجارب ذات الصلة بأنّ هذه الدول لم تستوعب ظاهرة التعددية العرقية والثقافية حيث أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم. ولكن بالنسبة لإيران فكانت التجربة الملكية “البهلوية” تجربة مستنسخة عن الظاهرة التي باتت تعرف بما بعد الحداثة والتي كانت إحدى إفرازاتها “الجنوسايد” و”الإبادة الثقافية” للشعوب. وعمدت على إستخدام “الروماتيسم ” لتغليب الامر الواقع. وخلق الاساطير التي تستند على أسس هشّة. ولم تكن هذه النظريات في إيران من إفرازات فكر “رضا شاه” ودولته القومية وإنما كانت نتيجة لما تملي عليه الارادة الغربية أنذاك وتنفيذاً لأوامر الغرب بالحرف الواحد.
تصاعدت وتيرة نظرية الأمة ـ الدولة في دوامة مستمرة أثناء الحرب العالمية الثانية وظهور القوى القومية الاوربية أمثال الفاشية والنازية وهذا الامر يعتبر منعطفاً مصيرياً في إتجاه الاستعمار الخارجي والدكتاتورية الداخلية. ويمكن وصف الحكم الملكي في إيران على أنه الإبن بالتبني للحكم النازي الالماني الذي يستند على العرق الأري في الحكم ولا يأخذ بعين الاعتبار الأخر. ومع شديد الاسف، نلاحظ نفس الفكرة تنتهج اليوم في إيران لكن من منظار ديني وطائفي.
نظرية ما بعد الحداثة وظهور نظرية الأمة ـ الدولة (Nation state theory ) من صلبها:
لنبدأ بقول مأثور عن “كاهون” في كتابه “من الحداثة الى ما بعد الحداثة ” والذي يؤكد فيه أنّ إحدى أهم أوجه الشبه الموجودة بين نظرية ما بعد الحداثة ونظريات سبقتها هو ظهور الدولة الأمة التي أدّت الى تأسيس إمبراطوريات تحمل مواصفات ما بعد حداثوية أو كما يقول البعض إمبراطوريات حداثوية. وإنّ نظريةما بعد الحداثة في واقع الامر مزيج من نظريات سابقة تحدّث بها “نيتشه، ويتغنشتاين، هايدغر، لاكان، دريدا وفوكو”. ويذكر المفكّر الايراني “حسين بشيريه” في كتابه ” الليبرالية والتيار المحافظ ” وهو يلخّص مواقف “ما بعد الحداثة” في خمسة نقاط:
1_ نقد تمثيل الواقع والتأكيد على صناعة الواقع.
2_ عدم القبول بمبدأ و الرضوخ للظواهر.
3_ عدم الإعتراف بالوحدة.
4_ عدم الاعتراف بالخصائص الاستعلائية للقيم.
5_ العقل الأخر بمثابة تحديد الذات.
وفي نظرة عابرة للبند 3و5 يمكن الوقوف على ولادة نظرية الدولة الأمة من رحم نظرية ما بعد الحداثة والتي تتحدث عن تغيير مسار الآخر و السير في رحى الإخنزال. وتشبه نظرية ما بعد الحداثة الى حد بعيد نظرية الأمة الدولة والتي تؤكد على ضرورة أن ازدهار أمة ما يجب يجب القضاء على الهوية والكيان لباقي الشعوب والأمم التي تشكلت منها هذه الدولة.
نظرية الدولة ـ الشعب (PEOPLE state theory ):
يمكن النظر الى هذه النظرية بإعتبارها تسعى الى تأسيس حكومة مبنية على الشعب وليس على صناعة الأمة. وبالأحرى لا تنوي هذه النظرية القضاء على مكونات الشعب الاخرى على سبيل النثال لغتها وثقافتها وكيانها القومي والعرقي في حين تقف نظرية الدولة الشعب على نقيض مع نظرية الأمة الدولة والتي تخطط لصهر الشعوب والقوميات التي تتواجد داخل حدود هذه الدولة ولا تنوي الى تأسيس شعب على أنقاض شعب أخر في بوتقة الحكومة المراد تدشينها. يعتبر “علي أكبر ناطقي ” من بين المنظّرين لنظرية “الدولة الشعب” في إيران. ووردت إنتقادات لاذعة لأفكاره التي تبناها وينظر الى نظرية الشعب الدولة التي كانت في البداية نظرية تبنتها في السابق بعض الشخصيات في الثورة الاسلامية في إيران واليوم يتبناها بعض الاصلاحيين المطالبين بحقوق الشعوب الايرانية الاخرى على أنها تنطوي تحت إطار أخلاقي. وتقف هذه النظرية بوجه نظرية الدولة القومية التي تبنّت مسار إصهار الشعوب الاخرى في بوتقة ثقافة واحدة في إيران ألا وهي الثقافة الفارسية على حساب الثقافات الاخرى مثل الثقافة الكردية والبلوشية والعربية والتركية في إيران. ويمثّل هذا التيار الشوفينيون والملكيون في إيران، ولكن نظرية الشعب ترفض الإنصهار.
من هنا فإنّ السبيل الوحيد لحل المشاكل العالقة في إيران كنموذج والدول التي تتكون من شعوب وأعراق في عالمنا العربي والمخرج الوحيد للخروج من أزمة فقدان الثقة وإزدواجية “الإنفصال وقمع الآخر بذريعة الإنفصال” هو الرجوع الى مبدأ التعددية وإعتماد الفدرالية العرقية ليس بهدف تمزيق واقعنا وتفتيته الى دويلات وإنما الهدف وراء ذلك نيل الشعوب حقوقها في إطار الدول الموجودة بعد إزالة عقبات دمقرطة مجتمعاتنا وفدرلة دولنا و إزالة الدكتاتورية وبناء حكم الشعب الذي يشيّد على إحترام الأخر وهوية وثقافة ولغة وتراث وتاريخ الأخر.
falahiya25@yahoo.com
• طهران