“خريف حكم المرشد” لا يشبه إلا في العنوان العريض “خريف البطريرك”، أي تلك القصة الشهيرة لغابرييل غارسيا ماركيز. نحن لسنا أمام أحد طغاة أميركا اللاتينية الذي لا يعرف أي شيء عن ظروف السياسة العالمية.
بل على العكس من ذلك، نحن أمام الحاكم الفعلي في إيران الذي يدرك فعلاً ما يجري حوله. لكن مسارات “الجمهورية الاسلامية” في الداخل والخارج تؤشر إلى منحى انحداري على عكس ما يوحي به التمدد الإقليمي القسري من القُصير إلى ضفاف الخليج.
قبل أيام من توجه الناخبين الإيرانيين، في 14 حزيران الجاري، إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم السابع، نجح حزب الله في معركة القُصير. وسرعان ما أعلنت إيران على الفور تهنئة النظام السوري على إتمام هذا الانجاز.
وللمزيد من ربط الاستحقاق الانتخابي بالحدث السوري اكد رجل الدين الإيراني المتشدد احمد خاتمي أن “الانظار في سوريا وانظار “حزب الله” وجميع الثوار في العالم باتت متجهة صوب الانتخابات الرئاسية الايرانية ويتطلعون الى معرفة نتائجها”.
لكن الكل يعلم سلفاً بعد غربلة المرشحين عبر مصفاة “مجلس صيانة الدستور” أن التمرين الداخلي محسوم بشكل او بآخر لصالح أحد المرشحين الستة المتشددين (ابرزهم محمد باقر قاليباف وسعيد جليلي وعلي أكبرولايتي) بينما تبقى حظوظ المعتدل حسن روحاني او الاصلاحي محمد رضا عارف ضئيلة حتى لو تجمعا في آخر لحظة تحت مظلة حلف جديد يضمهما إلى الرئيسين السابقين المستبعد من الترشيح رفسنجاني والمغضوب عليه محمد خاتمي.
ضمن اللعبة الانتخابية المرتبة تحت عباءة ولي الفقيه، أتت المناظرات التلفزيونية لتبرز الخروج عن المألوف وفقدان السيطرة على المرشحين المحسوبين مباشرة على الدائرة الاولى. إذ مقابل تضامن غير معلن بل ملموس بين روحاني وعارف، لاحظ الإيرانيون صعود نبرة الانتقاد من ولايتي مستشار القائد ضد الدكتور سعيد جليلي (أمين المجلس الأعلى للأمن القومي والمفاوض النووي ومرشح اللحظة الاخيرة، المدعوم من جناح في جبهة الثبات المحافظة ومن أحمدي نجاد، وله نفوذ في هيكل الحرس الثوري علما ان ساقه اليمنى بترت بعد إصابته خلال الحرب مع العراق).
برزت اذن انقسامات عميقة لدرجة يجب معها إعادة تحديد الاصطفاف السياسي بعد الاقتراع الرئاسي، لكن ذلك يكشف ايضاً عن تضاؤل في هيبة القائد نتيجة زلزال الحركة الخضراء عام 2009 وما تبعه إضافة إلى الازمة الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الدولية. ومن هنا لم يتردد ولايتي في الغمز من قناة احمدي نجاد وجليلي قائلاً إن “فن الديبلوماسية هو إنقاذ حقنا في النووي وفي الوقت نفسه الحد من العقوبات”.
من حيث المبدأ إن الصلاحيات وصنع القرار في السياسة الخارجية محصور بالمرشد الاعلى، لكن المسائل الاجرائية لناحية المفاوضات والانعكاسات الداخلية والاقتصادية يتحملها الرئيس وفريقه.
ولذا تبين وجود رؤيتين حيال الملف النووي: الأولى ترى تقديم تنازلات للحصول على منافع. والثانية تشدد على اتخاذ موقف حازم حتى يرضخ الجانب الآخر.
هكذا بعد ثلاثة عقود واربع سنوات، يجد نظام الولي الفقيه نفسه أمام المأزق، إذ إن الثورة الإيرانية لم تصدر إلا بواسطة الأدوات الامنية والعسكرية ولم تجلب للإيرانيين إلا عداء وعقوبات قسم لا يستهان به من أصحاب القرار في المجتمع الدولي وكذلك نقمة وحذر شعوب الجوار. والادهى من ذلك، تقلص قاعدة المرشد الاعلى (بعد خروج الكثير عن طاعته او مشاكسته من امثال رفسنجاني وخاتمي ونجاد ورموز الحركة الخضراء واجزاء من البازار) ونظرا إلى تداعيات انتفاضة عام 2009 على سلطة المرشد الاعلى وقدسيتها، شهد معسكر خامنئي تشرذماً ولا سيما في تجمعات رجال الدين وقوات الحرس الثوري حيث إنه خلافا للسنوات 2005 و2009، لم تحدد قيادة الحرس لعناصرها أو للباسيج (قوات التعبئة) اسم المرشح المحبذ من المرشد والتي تتبناه (قائد الحرس اللواء محمد علي جعفري واللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس وعدد من قادة ومراتب الحرس ميالون الى عمدة طهران قاليباف، ولكن قادة اخرين في الحرس ومراتب من المستوى المتدني في الحرس ميالون الى مرشحين آخرين وخصوصا سعيد جليلي).
إزاء الغموض السائد، يضمن مكتب المرشد حصول اقبال يتجاوز في الحد الادنى الستين بالمائة لأن الانتخابات الرئاسية ستجري بالتزامن مع الانتخابات البلدية، وهكذا تسقط دعوات المقاطعة. لكن من باب الاحتياط يشكك بعض المعارضين في امكان “التزوير” عبر رفع نسبة المشاركة وذلك لتفادي دورة ثانية اذا كان هناك من حظوظ للمرشح المعتدل حسن روحاني.
من خلال الترتيبات المسبقة في هذه الانتخابات، يفترض ان تبقى الامور تحت السيطرة لكي لا تتكرر انتفاضة 2009. لكن هذه الحسابات لن تمنع من تحرك الجمر تحت الرماد.
إن غياب الحركة الدستورية المقموعة وتراجع دور الحوزات الدينية الروحي التاريخي وتقهقر مشروع التحديث يعطي مؤشرات على اقتراب خريف حكم ولاية الفقيه. في مواجهة سيناريو الانحدار تزداد فرص الهروب إلى الامام في التوتر الاقليمي وفي الحرب التفاوضية مع واشنطن على الساحة السورية.
لكن الداخل الايراني سيكون له كلمته ولا يمكن استمرار حجز إرادة مجتمع شاب يريد بناء ايران عصرية بعيدا عن سطوة الاساطير وكلفة الحلم الامبراطوري.
khattarwahid@yahoo.fr
المستقبل