ـ 1 ـ
تأقلمنا، بلا احتجاج تقريباً، مع تقنين الكهرباء في بيروت، المنتظم وغير المعلن. تماماً كما تعوّد اللبنانيون في كل المناطق، وإن بغضب، على انقطاع الكهرباء معظم ساعات النهار والليل. والدولة التي أنفقت مليارات الدولارات (ما يشكل أكثر من ربع رصيد الدين العام) طوال عقدين، على هذا القطاع، تجد نفسها حتى اليوم عاجزة عن توفير الكهرباء، عدا عجزها عن إصلاح المؤسسة نفسها.
يروي أحد القاطنين في الضاحية الجنوبية أن جاره سرد على مسامعه أخباراً يتداولها السكان، بأن حزب الله يفكر إما بإنشاء محطة توليد كهرباء صغيرة لتوفير حاجة الضاحية، أو بشراء مولدات عدة يوزعها على مناطق الضاحية ويشرف عليها ويجبي كلفتها بأسعار رمزية أو متدنية.
ولما سأل الراوي جاره: لكن مشكلة الكهرباء يمكن حلها إذا ابتدأ السكان بوقف “التعليق” (أي السرقة من الخطوط العامة) وبدفع الفواتير. أجابه الجار: طالما أننا نعيش في دولة غير إسلامية، فلا بأس من سرقتها ومن عدم دفع الفواتير.
وعلى منوال هذه الحكاية، يأخذ حزب الله بيده، دون الدولة أيضاً، تدبير إعمار الضاحية بعد تدميرها في تموز ـ آب 2006 إثر عملية أسر جنديين إسرائيليين، وكذلك يقوم مشروع إعادة البناء هذا وفق عقيدة “المال الحلال” من غير الامتناع عن حث “رعاياه” على أخذ ما يمكن أخذه من مال الدولة (المشبوه) ومال الواهبين الأجانب (المشبوه جداً الى حد الحرام) وكسبه، من دون التعبير عن أي امتنان.
ـ 2 ـ
تأقلمنا سريعاً مع حال غياب وسط المدينة عن حياتنا ويومياتنا. كل جهودنا لإعمار صرّة بيروت ومركزها التاريخي وأسواقها، وبالتالي استعادة العاصمة لدورها وتأليف نسيج جديد لمدينيتها وابتداع طرائق حياة وسبل تواصل عمل وتطوير، منذ العام 1992 وحتى العام 2006، باتت الآن مهددة بالزوال. فما يسمى بـ”الاعتصام” بات عملياً يتعدى بأشواط سببه المعلن. فهو تحوّل الى أكثر من احتلال، صار عملاً “تدميرياً” بارداً، غير مرئي. وهو تدمير ليس للمباني أو للساحات أو للمؤسسات، بل للمشروع برمته. المشروع العريض الذي شمل لبنان كله، وعنوانه “إعادة بناء وإعمار لبنان”، والذي توقف قسراً لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أهل “الاعتصام” بقيادة حزب الله لا يحملون المعاول ويهدمون ما تعمّر وأنجز بناؤه، بل الأدهى أنهم حجزوا العاصمة، في عمل لا يوقف السياسة برمّتها فحسب، بل يعلن نهاية حقبة كاملة ومسار طويل من تعب اللبنانيين كلهم وجهد الأب الروحي لمشروعهم ما بعد الطائف. والأسوأ ليس فقط الانقضاض على “المشروع”، كمقصلة تضرب قدميّ رجل راكض، بل هذا الخروج العلني رفضاً لاستقلال الكيان والإصرار على استعادة زمن الوصاية السورية، وبالإضافة عليها التبعية الإيرانية. وهذا لا يطيح بالطائف فقط، وإنما بجدوى بقاء لبنان كـ”وطن نهائي”.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ لا شيء يعطي فاعلية تامة لاغتيال الحريري، بقدر ما يعطيه تحطيم مشروعه ووقف مسار التطوير الاقتصادي، وإبطال الطائف، وشلّ الدولة أو محاصرتها.
مع ذلك تأقلمنا سريعاً مع واقع تقويض كل ما بنيناه.
ـ 3 ـ
في 27 شباط 2001، كان مؤتمر باريس ـ1، وفي 2 كانون الثاني 2003 أطل رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري على اللبنانيين ليطمئنهم الى النتائج المتحققة في مؤتمر باريس ـ 2. وفي 2 كانون الثاني 2007 أطل رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على اللبنانيين ليقدم إليهم برنامج حكومته الى مؤتمر باريس ـ3.
بين هذه المؤتمرات الثلاثة، قاسم مشترك جوهري، هو أن التعطيل السياسي المقصود، والحروب المفتعلة أودت بكل مفاعيل هذه المؤتمرات وعطّلتها عمداً.
نسينا بخفة باريس ـ3 وهو لم يكمل عامه الأول. بتنا قبل أي باريس وأي مؤتمر، هناك في الخلف. وتقبّلنا ذلك بسرعة مذهلة. وذهبنا الى الوراء، الى حال “أن نعيش كل يوم بيومه”. انتقلنا بسجالاتنا من معالجة المديونية والإصلاح المالي الإداري، الى تساؤلنا عن “العيش المشترك” وعن بقاء الدولة أو ترميم “الوفاق الوطني”. بل وذهبنا أبعد، الى التساؤل متى تبدأ الحرب الأهلية مجدداً فيما نحن خارجون من حرب تموز المهلكة وداخلون في حرب نهر البارد للشهر الثالث. وما بين الحربين، سبعة اغتيالات محققة، وثلاث محاولات اغتيال فاشلة، ونحو 20 عملية تفجير أو أكثر.. كلها أودت بالاستقرار والأمن وضربت الحياة السياسية والاقتصادية في مقتل.
مع ذلك تكيّفنا بسهولة، ونحن ماضون الى مستقبل لا يشبه أبداً ذاك “المستقبل” الذي رفعناه شعاراً لمسعانا في العمل والتنمية وتدبير البلد وفق أحلام كانت تراودنا قبل العام 2005.
ـ 4 ـ
نحن الآن نتقبّل بيسر وأريحية هذه العودة الحثيثة الى “تقنيات البؤس”، التي اختبرناها سبيلاً للبقاء والعيش أيام الحروب المتعاقبة، ماحين بقدرة عجيبة على النسيان كل ما كسبناه طوال 15 عاماً من السلم الأهلي، وكل ما حققناه من بنى تحتية وقدرات إنتاجية وفرص عمل وتطوير تشريعي، ومناخات استثمارية، وعوامل جذب سياحية وثقافية ومالية. وها نحن اليوم للصيف الثالث على التوالي من دون اقتصاد تقريباً، ومن دون دخل أو أرباح. موقوفون إما على ما أدخرناه وإما على هبات عاجلة وإما على عطايا “المال الحلال” وتبرّعات “المال الحرام” ومساعدات الدول الصديقة.
ـ 5 ـ
إحتفى الإعلام ومعه اللبنانيون بكثير من الانبهار والدهشة بإحياء مهرجان جبيل الفني. والأصح القول استعظم اللبنانيون عدم توقف المهرجان أو تأجيله، طالما أن المهرجانات الأخرى (بعلبك، بيت الدين، صور) لم تقم للسنة الثانية على التوالي، ما عدا المهرجانات الأقل أهمية والكثيرة التي كان يتم إحياؤها في مدن وقرى وبلدات الاصطياف.
بتنا، على عكس سنوات سابقة، نندهش أن يتجرأ أحد على استئناف الفرح والبهجة والاحتفال. ذاك المناخ الذي وسم روزنامتنا منذ أن رعى رفيق الحريري حفل السيدة فيروز في وسط بيروت المدمر منتصف التسعينات، مدشناً تلك الحقبة المفعمة بالتفاؤل والطموح.
لم نعد كما كنا آنذاك. تأقلمنا مع التشاؤم اليومي والخوف من الغد والقلق على المصير. راضين بأقل المسرات، متنازلين عن تلك الطموحات برغد العيش والتألق والرفاهية. واستبدلنا مشهد المهرجانات، بمشهد الاحتفالات شبه الميليشياوية، والتي لا غرض لها سوى الاستنفار والتحريض على الدولة وعلى أغلبية المواطنين. احتفالات يقول أصحابها أن خراب الدولة ومؤسساتها وتقويض الاقتصاد وضرب الثقة بلبنان وإفقار اللبنانيين وتراجع النمو الى حد الكارثة… ما هي إلا “تفاصيل”.
ـ 6 ـ
في أقل من 15 عاماً، كان المواطن العادي قد بدأ بقطف ثمار مشروع إعادة إعمار وبناء لبنان. ها هو يحصل على امتيازات وتسهيلات مصرفية لم تكن متوفرة أبداً (قروض سكن، قروض شخصية، شراء سيارة، بطاقات اعتماد..). ها هو يخطط لعمل تجاري، استثماري، شراء سيارة، زواج، إنجاب، سفر سياحي، مشاريع ترفيهية.. إلخ. ها هو العاطل عن العمل، من غير رصيد يجد فرصة لشراء “ان” بالتقسيط ليعمل في شبكة المواصلات. وها هو المتخرّج الجامعي يحصل على صفة “مدير تنفيذي”. وها هو الشاب الطموح يتحوّل الى “رجل أعمال” جديد. وها هو المستثمر الأجنبي والعربي يجد ضالته عندنا موفراً مئات فرص العمل. وها هو موظف الدولة يجدد إدارته ويحدّثها ويطوّرها ويحصل على مكاسب حياتية جديدة. وها هي القرية الجبلية تعود مرتعاً للسياحة. وها هي المعامل والمصانع تطوّر شروطها التنافسية وتتوسع إنتاجاً. وها هي العاصمة.. عاصمة حقاً للثقافة والاقتصاد والسياسة وللتواصل مع العالم. وها لبنان منذ زيارة البابا يوحنا بولس الثاني يستعيد ألقه بوصفه “الرسالة”. بل ولنتذكر كيف عدنا الى الملاعب، الى المدينة الرياضية المجددة بأبهة، وإلى ساحات زحلة وبرمانا وبعلبك وطرابلس وصور وجبيل وبحمدون وعاليه وراشيا وإهدن وبشرّي وصيدا. كيف إننا ما عدنا نطيق سياراتنا العتيقة ونلهث الى آخر موديلاتها، كيف إننا نزهو بانتخابات جمال الفتيات أو عروض الأزياء، وكيف إننا شكونا من قلة المسارح نسبة الى كثرة المسرحيات، وكيف بدأنا نفتخر بموجة أفلامنا السينمائية الجديدة وسينمائيينا الجدد. بل كيف صرنا نروّج لـ”صنع في لبنان”.
تأقلمنا مع خسارتنا لكل هذا، من غير محاسبة للمسبّب.
ـ 7 ـ
عدنا الى الخلف، الى جوار غزة تقريباً. هكذا أراد النظام السوري أن يظهر لنا فاتورة إجباره على الانسحاب. هكذا أراد حزب الله أن يظهر لنا إخلاصه لحلف غزة ـ دمشق ـ طهران. هكذا يتخيّل ميشال عون لبنان من دون شخصه. وهذه هي النتيجة المرتجاة من قتل الحريري ورفاقه.
(المستقبل)