في عادة موروثة من أيام الدكتاتورية السابقة حين كان الإنشاء و البديع و الجناس و الطباق بديلا عما قل و دلّ، و في صياغة ركيكة فكريا وصمت “رئاسة إقليم كردستان” جميع من رفض قرار الكونجرس التافه، وصمته بالشوفينية و الجهل، قائلة “إما أنهم لم يقرؤوا القرار بتمعن ودقة، أو أنهم يقومون باستغلال الوضع العراقي وبث أفكارهم الشوفينية وإيمانهم بعودة المركزية المقيتة إلى الحكم ومحاولتهم الإجهاز على الدستور العراقي والمبادئ الفدرالية”. كما رأت تلك الرئاسة بأن ” أن الواقع الحالي للمجتمع العراقي يظهر أن الهويات الدينية والمذهبية باتت تعبر عن نفسها في أطر سياسية دينية، “فالعراق العربي وبصورة خاصة مقسم أيديولوجيا إلى نظرة سنية وشيعية للدولة والحكومة والأمور الاجتماعية والسياسية”، هذا ما قاله البيان الكردي!
و في تبادل مؤسف للأدوار وصف الرئيس جلال الطالباني- و هو المثقف و الكاتب و اليساري السابق- المعارضين بشكل مهذب و غير مباشر بأنهم لا يحسنون القراءة و عن القرار بأنه “لا يتضمن إلا ما يعزز الوحدة الوطنية العراقية ويعارض صراحة محاولات تمزيق العراق وتقسيمه، مبديا أسفه لردود الفعل المعارضة، التي قال إنها “عاطفية ولم يتمعن أصحابها في المشروع” (!) و وصف آخرون من مختلف الأصناف من عارض القرار بالمزايدة السياسية تارة و بالجهل تارة أخرى، و بالصدامية و ( رديفتها العلاوية نسبة إلى الدكتور أياد علاوي وفق التثقيف السياسي الحالي لأحزاب السلطة ) ثالثة ، و كتب آخرون يفترض بأنهم عراقيون عن تقسيم واقع فعلا و عن حل جذري يحمله القرار لمشكلة العنف الطائفي، ساخرين بمن تمسك بمؤشرات التمسك بالوحدة الوطنية العراقية من الموقف “العاطفي” من فوز الشابة شذى حسون حتى فوز منتخب العراق ببطولة آسيا،.. الخ.
ملخص الخطاب الآنف الذكر هو أن من لا يؤمن بكيان شيعي و آخر سني في العراق هو شوفيني و جاهل و صدامي و لا يعرف القراءة و يحلم بعودة ” المركزية المقيتة” ، و في تحليل ملغوم للحالة العراقية ينبئون الجميع صراحة بأن الفدرالية من و جهة النظر الرئاسة الكردية هي تكديس العرب الشيعة في ركن و العرب السنة في ركن آخر لأن الهويات الدينية والمذهبية باتت تعبر عن نفسها في أطر سياسية دينية، و لأن العراق العربي وبصورة خاصة مقسم أيديولوجيا إلى نظرة سنية وشيعية للدولة والحكومة والأمور الاجتماعية والسياسية. إذن، ترى تلك الرئاسة بأن “المبادئ الدستورية و الفدرالية و الديمقراطية”، ناهيك عن التطلعات القومية الكردية ( التي لا نزال رغم كل شيء نرى بأنها مشروعة) لا تتحقق إلا بتمزيق العراق العربي طائفيا، أو عمليا إنهاء الكيان المسمى بـ “العراق” نهائيا و بصورة تدريجية و لكن على مدى منظور و ليس مؤجلا. و قد رافق هذا التوجه خطاب تثقيفي تضليلي استعدائي موجه للشعب الكردي على كل ما هو عربي يحاول تصوير الرافضين للمشروع الأميركي بأنهم إنما رافضون لحقوق الكرد فحسب، أما مسألة الكيانين الشيعي و السني فلم يمر عليهما أحد إلا نادرا، و لم يفسر أحد لجمهور الكرد ما علاقة تقسيم العراق طائفيا بالحقوق الكردية إلا بالادعاء بأن عراقا قويا نقيض طبيعي لتحقق تلك الحقوق.
في لحظة ما، رأى ساسة الكرد بأنها فرصة تاريخية، و لا أراها كذلك، بأن إلغاء العراق هو الحل الوحيد لتحقيق الحلم ، و كأن الحلم لا يبنى إلا على بقايا جثث الآخرين و أحلامهم. و ربما لم ير هؤلاء الساسة مخاطر قيام كيانات مذهبية متناحرة على حدودهم، و ربما جاءت حساباتهم على أساس أن ما هو قائم هو حال دائم و نهائي، و بأن ثمة وعود غربية ستحقق لهم الحلم على حساب تحالفات و علاقات سياسية متشابكة في أخطر منطقة على هذه الأرض، و لم يحسبوا بالتأكيد ، و هم ينظرون من علو زائف غير مبرر، بأن العراق و شعبه بعمقه الضارب في التاريخ حتى بدون كردستان مارد هائل القوة و ليسوا بمجموعة من البدو مثلما يحاول بعض صغار الكتبة تصويرهم، و إن الدويلات الطائفية السنية الشيعية سراب زائل ، و إن هناك حلم عراقي أصيل بوطن جميل يسع الجميع لا يقل سموا عن الحلم الكردي لا يزال قائما في عقول و قلوب غالبية العراقيين، حلم رفعه الوطنيون العراقيون منذ أجيال و دفعوا حيواتهم ثمنا له في ساحات كردستان ذاتها، و كانوا يرونه دوما متوافقا مع نظيره الحلم الكردي و ليس نقيضا له كما يحاول ساسة الكرد تصويره، و السيد جلال الطالباني و أقرانه يعرفون جيدا ما أعني. و لا أزال في حيرة من موقف الكثيرين من مثقفي الكرد الحقيقيين التقدميين الذين تقاسموا ذلك الحلم مع نظرائهم من العراقيين الآخرين ذات يوم، و هم بين الصمت المخجل و التبرير لدويلات الطوائف السنية و الشيعية، أهو خوف من معاكسة التيار، أم أن كل ما مضى كان كذبا؟
و أمام كل هذا العزف الجاري من طرف واحد و بإيقاع واحد، يقف الآخرون ، شركاء السوء، حائرين بين حلم الدولة الإسلامية بشقيها و الذين حصلوا على تفويض مطلق به من الطرف الكردي و السيد الأمريكي كل من منظور مصلحته، و بين نبض شعبي يعرفون جيدا بأنه معارض لتقسيم العراق، و يحتاجون بعض الوقت لترويضه باستخدام سلاح الدين الذي يكفي لتجنيد بضعة ملايين لملء أي صندوق استفتاء قد يجري لإكمال مسرحية التقسيم. و ها هي مهرجانات “فدرالية جنوب بغداد” قد بدأت. و لا عجب أن لا يتظاهر أحد بحماس ضد تقسيم الوطن، فالمثقفون و العلمانيون و المتمسكون بالعراق وطنا و دولة لا حامي لهم في عصر العمائم والميليشيات و الأمريكان و البلاك ووتر.
و اليوم، إذ يتناثر العراق من بين أيدينا، يستعيد المرء الوطن و مفهوم الوطن و كيف سرقته الأنظمة المتتالية عبر أيديولوجيات و حروب و استبداد و تقتيل و تهجير كان الوطن دائما خارجها، فلا عجب أن تظهر أجيال لا تكترث بالوطن و لا تحمل همومه بل و تبحث عن أوطان بديلة ، فقد كانت هي الأحرى دوما خارج الوطن فعليا لأنه لم يكن حاضرا معها إلا بالحروب و الدمار و الواجبات، فلا حقوق و لا مكتسبات و لا حياة كريمة و لا خبز و لا حرية، فوجدت ضالتها في أوطان بديلة أصغر داخل الطائفة و المذهب و الدين و الأثنية إذا تعذر أيجاد وطن بديل في الخارج. ثم جاء عهد القتل اليومي، الذي لا يمكن أن نبرئ فيه أحدا، لتوفر لها الأمان النسبي و العزلة المطلوبة لقتل الوطن الأكبر الذي غدا مرادفا للموت المجاني، مترافقا مع تهجير طائفي منظم تحت أعين الحكومة و أجهزتها و ميليشيات الطائفيين القدامى و الجدد من كلا المذهبين و “المحررين” الأمريكان و عصابات اطلاعات و القاعدة و كل تلك المسميات الكابوسية . وأخيرا لعب الدين المسيس دوره بالتثقيف ألإقصائي و اختزال الأوطان في طوائف و مناطق بعد أن كان مختزلا في أفراد. و ما أسهل إقناع المؤمن البسيط بالابتعاد عن الآخر (الكافر أو الفاسق) إلى واحة الدين والمذهب حيث يشعر بالأمان و لا يحتاج للتعاطي اليومي مع “الآخرين” في الوطن العلماني الواحد، و حيث سيشرب البترول و يأكل الذهب في الوطن المزعوم الجديد.
هكذا قضت الاسلاموية السياسية العمياء و الطائفية القومية القصيرة النظر على كل ما تبقى من أحلام كبرى بعراق جميل مزدهر مرفه ، حر و ديمقراطي و منفتح، ثري و متقدم و متسامح، و لم يبق هنالك سوى أولئك “الشوفينيين” الحالمين الذين لا يحسنون القراءة وفق التوصيف الكردي.
نعم أنا شوفيني اذا كان الأمر يتعلق بالعراق الوطن و مهزلة الكيانين السني و الشيعي، و أتمنى أن يظهر على الأرض حزب شوفيني عراقي بحت ينادي بالمواطنة العراقية كقيمة عليا ، و ما سواها كاختيارات حرة لمواطنين أحرار في وطن ديمقراطي واحد، و لا مقدسات غير وطن دجلة و الفرات ، و كل ما سواها ثانيا، وطن يحكمه دستور عصري يكتبه حقوقيو العراق و ليس إنشاء مترجما بأسلوب تلميذ ابتدائية يستنكف، دون أغلب دساتير الكرة الأرضية، حتى الإشارة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فما فيه يستحق القداسة التي يحاولون إضفاءها عليه حتى و لو صوت عليه مليار أمي دون أن يقرءوه.
علينا بالوطن الآن .. فإن فقدناه اليوم لحساب الخزعبلات السياسية و الدينية السائدة ، فقد لا نسترجعه بعدئذ أبدا .
skhalis@yahoo.com
إعادة اكتشاف الوطن..لفتة ذكية في التحليل للموقف الكردي (المؤسف). وأجد نفسي متفق مع الأستاذ سعد صلاح خالص في تحليله وأفقه. وأعلن أنتمائي أنا ايضا ومسبقا للحزب “الشوفيني” العراقي الذي يتطلع اليه الكاتب المتنور والشجاع ولمّا يظهر هكذا حزب بعد. أما الرئيس الطالباني فرغم أن القرار غير الملزم ب (تقسيم العراق) واضح لكنه يفهمه بأنه يؤكد على (وحدة العراق). ربما مرجع ذلك عدم تمكنه من اللغة العربية؟؟؟؟؟ أو انه فهمه على الطريقة الكردية ضمن المفهوم الشعبي لهذه الطريقة. فالرئيس الطالباني حفظه الله يفهم الديمقراطية بأن الرئيس نفسه يروي نكات على نفسه ويضحك الأخرين عليه من على شاشة التلفزيون. مع أنّ بلدان… قراءة المزيد ..