شهدت الساحة الثقافية والسياسية السورية في شهري نيسان وأيار فعاليات فكرية وسجالات سياسية تركزت حول العلاقة بين الدين والسياسة. ففي ذات الوقت الذي بلغت فيه الحملة الإعلامية للاستفتاء الرئاسي، الذي كان تاريخ إجرائه قد حدد يوم 27/5/2007، ذروة غير مسبوقة بمشاركة علماء دين بعامة وأئمة المساجد بخاصة في دعوة السوريين للمشاركة في الاستفتاء والتصويت للمرشح الوحيد رئيس الجمهورية، دعت دارا “أطلس” و”بيترا”، وبالتعاون مع المعهد الثقافي الدنمركي والمركز الثقافي الأمريكي والفردوس تور، مثقفين ونشطاء سياسيين وحقوقيين سوريين لحضور ندوة فكرية في المعهد الثقافي الدنمركي في دمشق تحت عنوان:”العلمانية في المشرق العربي” يومي 17و18/5/2007 .
لقد كان تديين السياسة وتسييس الدين العامل المشترك في هذه الفاعليات وما أثارته من حوارات وسجالات. فقد استدعت السلطة السورية الدين إلى حقل السياسة عن طريق استخدام علماء الدين وأئمة المساجد في طول البلاد وعرضها للمساهمة في الحملة “الانتخابية” لرئيس الجمهورية بينما هدفت الندوة الفكرية المذكورة التبشير بالعلمانية وبفصل الدين عن الدولة.
في الصورة الأولى علماء دين من كل المستويات والأصناف يوظفون “ثقافتهم” الدينية وبراعتهم اللغوية والخطابية في خدمة السلطة وبرامجها السياسية يروون آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة وأقوال فقهاء من عهود النظم السلطانية التي حكمت العالم الإسلامي، والتي ينفرد فيها الخليفة بتقرير مصير الأمة، والتي امتدت لقرون طويلة، يؤولون النصوص بتجاهل تام لمنطوق النص ومناسبته وظروف طرحه ودلالته في هذا الإطار وشروط اشتغاله مثل:”أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم “(آية كريمة)، إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم” ، أو “من مات دون أن تكون في رقبته بيعة فقد مات ميتة جاهلية”، أو “أطيعوا ولو تولى عليكم عبد أسود رأسه زبيبة”(أحاديث نبوية). ويحثون المواطنين السوريين على المشاركة في الاستفتاء الرئاسي، باعتبار المشاركة “فرض عين” كما قال الدكتور عبد السلام راجح (أستاذ أصول الدين في معهد إسلامي، “نجح” في انتخابات مجلس الشعب الدور التشريعي التاسع التي جرت يومي 22و23 نيسان 2007) في برنامج إذاعي في إذاعة صوت الشعب السورية، ويدعونهم للتصويت بـ “نعم” للرئيس، المرشح الوحيد، لان الرئيس “ظل الله على الأرض” كما قال خطيب الجمعة (يوم الجمعة:20/4/2007) في أحد مساجد قطنا، ما دفعني إلى مغادرة المسجد، فهذا الكلام “العظيم” أقنعني بحرمة الصلاة خلف إمام من وعاظ السلاطين.
أما الصورة الثانية،المقابلة،المعاكسة، فتتكون من مثقفين، ومن مستويات متباينة، يدعون إلى فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين عن طريق تطبيق المنظور العلماني الذي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ويعرضون لتبرير موقفهم ودعوتهم أحداثا تاريخية قديمة وحديثة شهدها العالم العربي والإسلامي تبرز الخلافات الفكرية والسياسية بين المسلمين وما أدت إليه من انشقاقات مذهبية وطائفية وما نجم عنها من مواجهات دامية ذهب ضحيتها عدد لا يحصى من المسلمين من كل المذاهب والطوائف والمناطق.
لقد كان لافتا السجال الفكري والسياسي الذي تلا انعقاد الندوة (كرر منظمو الندوة وصفها بـ”مؤتمر العلمانيين” دون تفسير ذلك علما أن عددا كبيرا من الحاضرين ليس بعلماني) حول موضوعها وما طرحه المشاركون فيها حيث تناولها كتاب وناشطون سياسيون وحقوقيون بالتعليق، والصمت الداوي وعدم الاكتراث بمجريات الصورة الأولى واستخدام الدين في الدعاوى السياسية من قبل سلطة تصف نفسها بالعلمانية وتحّرم قيام تعبيرات سياسية، أحزاب أو منظمات سياسية أو جمعيات ثقافية، ذات مرجعية دينية(؟!).
إنها ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها السلطة الدين والعواطف الدينية في خدمة برامجها وأهدافها حيث سبق واستدعت الدين إلى حقل السياسة في إطار استخدام نفعي وانتهازي واضح. فقد شهد العقد الأخير ليس غض طرف عن نشاطات وممارسات مشايخ وعلماء دين ومجموعات إسلامية من دعاة طاعة أولي الأمر والقبول بالخليفة بعد تغلّبه على السلطة حتى لو كان فاجرا، والترويج لأطروحة الشورى معلمة وليست ملزمة فقط بل وتشجيع ومباركة ظواهر دينية يمكن وصفها بالمتخلفة كالقبيسيات اللواتي يتبنين رؤية دينية تستند إلى عدد من كتب الفقه التقليدي لا تتناسب مع روح الإسلام وقابلية الفقه الإسلامي للتجدد وفق الظروف والعصر، ويشعن بين المنتسبات إليهن نزعة استعلائية تحت ذريعة الزواج من الرجل المكافئ اجتماعيا وإيمانيا وهذا انعكس عليهن سلبا بتفشي العنوسة بينهن. ناهيك عن دفع عشرات المشايخ وعلماء الدين للترشح لمجلس الشعب وتسهيل نجاح عدد غير قليل منهم في انتخابات الدور التشريعي التاسع وتوظيفهم في إعطاء انطباع ايجابي حول موقف السلطة من الدين الإسلامي.
كما استدعت – السلطة – الإسلام عن طريق استخدام بعض الأصوات الإسلامية في مهاجمة قوى المعارضة الديمقراطية والناشطين والناشطات في مجال حقوق الإنسان والمرأة والغمز من عقيدتهم باسم الدين (نذكر هنا بتصريحات الدكتور البوطي ضد الجمعيات النسوية والدكتور محمد حبش ضد المعارضة الديمقراطية) ناهيك عن رعايتها للمناسبات الدينية (مولد النبي عليه السلام ورأس السنة الهجرية وصلاة العيدين والجمع. . . الخ.) وحضور مندوبيها لها.
كل هذا والسلطة تلاحق وتتهم وتدين كل ظاهرة إسلامية ذات بعد سياسي مهما كانت درجته ومستواه وطبيعته وتحرم تسييس الدين وقيام أحزاب تتبنى مرجعية دينية/المقصود إسلامية.
لماذا تجاهلت الندوة الفكرية التي عقدت للتبشير بالعلمانية هذه الممارسة الرسمية؟ ولماذا ثار الحوار والسجال بين المثقفين والناشطين داخل جلسات الندوة وخارجها حول محتوى الندوة دون التفات إلى هذه الممارسة السلطوية؟ أهي المفاصلة أم التواطؤ أم الخوف؟
يبقى أن بعض ما قيل حول العلمانية وفصل الدين عن الدولة في الفضاء العربي الإسلامي يحتاج إلى تدقيق وتصويب. من ذلك ما ذهب إليه الأستاذ جورج طرابيشي في مداخلته باعتبار العلمانية الحل الوحيد للصراع الطائفي وهي فكرة شديدة الهشاشة لان في التجربة الإنسانية عشرات المخارج لهذه الآفة الفتاكة مثل سيادة القانون، ودولة العدل والمساواة، والنظام الديمقراطي. واستخفافه بأطروحة الدكتور محمد عابد الجابري الذي تبنى حلولا وسيطة ترتكز إلى استبعاد العلمانية والقول بالعقلانية والديمقراطية كإطار لإخراج الوضع العربي والإسلامي من عنق الزجاجة. لقد تجاهل الأستاذ طرابيشي أننا في قبضة الإسلام وأن الحل الموضوعي يقتضي أخذ الواقع بعين الاعتبار بحيث يشترط في الحل الناجع توفر العقلانية والعملانية فيه ولما كان الإسلام صاحب رأي ورؤية في بعض مسائل السياسة والاقتصاد وفي الكثير من القضايا الاجتماعية ما يجعل حضوره في النظام السياسي حتميا، ولكونه عقيدة إيمانية فإن إدارة الظهر له والبقاء على وفاق مع المسلمين في حكم المستحيل. وهذا حتم التعاطي معه بذكاء ومرونة والبحث عن مخارج ممكنة مثل التمييز بين دور الإسلام في الدولة وبين دوره في النظام السياسي حيث يمكن فصله عن الدولة كونها شخصاً اعتبارياً يخص كل المواطنين وفسح المجال أمامه ليأخذ فرصته في النظام السياسي وفق مشيئة المواطنين التي تجسدها صناديق الاقتراع . أو قراءته الساذجة لاتفاقية حقوق الطفل، حيث قال في سياق رده على بعض المتداخلين “أنها تقضي بعدم التحدث إلى الأطفال بقضايا العقائد والإيمان حتى يبلغوا سن الرشد فيختاروا”(؟!) وكأن هذا ممكن . وما ذهب إليه الأستاذ حسام جزماتي في تعليقه على مواقف العلمانيين من الإسلام (كلام عن العلمانية السورية – أخبار الشرق27/6/2007) برفضه الاستناد إلى مواقف وممارسات الإسلاميين غير السوريين في تقويم موقف الإسلاميين السوريين. إذ الواقع يسمح بمثل هذه المقاربة بسبب التشابه الكبير بين الظروف في الدول العربية والإسلامية من جهة وبسبب الجذر المشترك لحركات الإسلام السياسي من جهة ثانية. وما ذهب إليه الأستاذ ياسين الحاج صالح بالمطالبة بـ “قيام سلطة تدير شؤون الإيمان وشرائطه العبادية والسلوكية والاجتماعية، وتشرف على الشؤون الدينية للمؤمنين” وما اعتبره علاقة طردية بين مأسسة الدين والعلمنة وقوله إن الشيعة لهذا أكثر قابلية للعلمنة من السنة (في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة – موقع الحوار المتمدن الاليكتروني- العدد: 1947- 15 /6/2007). حيث إن فكرة إدارة شؤون الإيمان والإشراف على الشؤون الدينية تتعارض مع النظرة الإسلامية للعلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض كما صاغها القرآن الكريم (لست عليهم بمسيطر). وقيام سلطة دينية مستقلة يمكن أن تقود إلى الحداثة (من حديث) والتنظيم الإداري وليس إلى العلمنة. المأسسة لم تؤد إلى علمنة الكاثوليك مثلا، وهي موجودة في الفضاء السني وإن بشكل بسيط تجسدها دار الإفتاء، وهي تحتاج، إذا كانت مفيدة في حل مشكلات المسلمين مع العصر، إلى تطوير وتوزيع أدوار مناسب وعصري. والمأسسة الشيعية العريقة لم تؤد إلى علمنة الدولة في الفضاء الشيعي (إيران) لان طبيعة المؤسسة الشيعية لا تنفصل عن طبيعة المذهب الشيعي القائم على تقديس أشخاص( فاطمة، علي، الحسين، الأئمة، آل البيت، مراجع التقليد. . . الخ. )- في حفل ديني بذكرى عاشوراء أقيم في قرية “حطلة” قرب مدينة دير الزور شرق سوريا حيث تم تشييع عدد من السوريين ألقى رجل دين إيراني قصيدة عكست طبيعة وجوهر المذهب الشيعي قال فيها: لولاك لولاك – الحديث موجه من الله إلى الرسول عليه السلام – ما خلقت الأفلاك. ولولا علي ما خلقتك ولولا فاطمة ما خلقت علي- ما يجعل قيام علاقات أفقية وندية بين المسلمين، وهي من مستدعيات العلمانية، في حكم الهرطقة والتجديف.
*كاتب سوري.