بالرغم من التطور الذي حصل على مستوى التفهم والقبول بالآخر في العالم، فإن قبول الأخر(الثقافي والمجتمعي) والتعايش والتفاعل معه في منطقتنا (الشرق الأوسطية) مسألة تتطلب المزيد من العمل والتفكير،.وهي تصطدم بعدد من الحقائق والوقائع ولعل الإشكالية تكمن في الذهنية المجتمع، وهي إحدى معوقات التعايش السلمي بين المجتمعات سواء أكانت في دولة واحدة أو في المجتمعات في دولة مع دولة أخرى المجاورة، ويبدو انه ما زال ينقصنا في عالمنا أشياء كثيرة حتى نرتقي إلى مستوى تلك الثقافات العصرية. ففي حين كان الأكراد يشكون من الشعوب العربية بأنها تضطهدهم، يشكو الآن التركمان أو مكونات أخرى (دينية وعرقية وسياسية) بان الأكراد يضطهدونهم في كردستان العراق مثلاً. وطبعا هذه الإشكالية ليست موجودة فقط في منطقة الشرق الأوسط إنما في سائر البلدان. ولعل ما رأينا قبل عام في فرنسا خير دليل على إن الإشكالية موجودة لدى الكل. لكن هناك من يتحدث بان مركز هذه الإشكالية هو في حامل الثقافي لأبناء منطقة الشرق الأوسط (أوالمنطقة الإسلامية). فما جرى في فرنسا ( مثلاً) من أحداث شغب كان بين طرفين: من جهة، أبناء الشعوب الوافدة (من المغرب ومن الشعوب الإسلامية) ومن جهة أخرى قوانين الحكومة الفرنسية. إن الوافدين العرب أو المسلمين ما كان بامكانهم التحرر من الثقافة التي نشأوا فيها، أو لم يستطعوا التأقلم أو التكيف مع شعوب أكثر تحضرا منهم، وهكذا..
ثمة من يرى بان أصحاب الخصوصيات المختلفة( القومية أو الدينية أو المذهبية أو الفكرية أو الدينية أو بين الأحزاب السياسية) كانوا على خلاف دائما وعلى مدى التاريخ . قديما شهدت المنطقة حروبا بين الشيعة والسنة وكذلك بين السنة وبين من خرج من خيمتهم. وقبل ذلك بين الجماعات التي تشبثت بعبادة الأصنام وأصحاب الديانات الكتابية (أهل الكتاب)، مرورا بالحروب القبائل والعشائر.. الخ. أما حديثا، فقد نشأت حكومات حديثة لم تستطع الشعوب أن تميز نسقها عن الحكومات، إذ هي تنظر إلى الحكومة على إنها لا علاقة لها بالهوية المجتمعية إنما هي إطار وظيفي يحرص على سير القوانين ويحافظ على ضبط المجتمع. ولبست هذه الحكومات لبوسا عرقية تارة ودينية تارة أخرى الأمر الذي أدى أن الأقلية (الدينية والعرقية) تتقوقع على ذاتها وترى في الأكثرية بأنها تضطهدها، وبالتالي صار الطغيان الاكثروي على الاقلوي هو سيد الموقف في العلاقة بين أصحاب الخصوصيات الثقافية والمجتمعية. وهذا ما رأينا بين الأكراد والعرب، وكذلك بين الأكراد والفرس والترك وبين الامازيغ والشعوب العربية في القرن الإفريقي، وكذلك بين الشيعة والحكومات السنية في الخليج العربي، وبين الأقباط والحكومة المصرية والآن نرى بين المعارضة والموالاة في لبنان وبين الحكومة الكردية والتركمان والإسلام السياسي في كردستان العراق. إلى متى سيبقى هذا السؤال (سؤال التعايش) قائماً؟
لا نستغرب منذ حوادث الشغب في فرنسا أن السؤال بشأن التعايش يأخذ صدارة الاهتمامات سواء من قبل الإعلام أو من قبل علماء الاجتماع أو علماء الاجتماع السياسي. بيد إن هذا السؤال كان يطرح بشكل دائم في منطقتنا، والسبب كما هو معروف كون منطقتنا منطقة الشرق الأوسط تعج بتلوينات وتكوينات متمايزة. لكن ويجب أن نعرف إن السؤال الذي كان يطرح دائماً هو على مستوى القوميات في دولة واحدة ولا يطرح بين تكوينات سياسية أو بين المذاهب الديني. والحق إن مسألة التعايش تلفّها جملة من التعقيدات وتكبلها التصورات والمواقف المسبقة. وربما لهذه الأسباب يكون التعايش شبه مستحيل، ولذلك تتكرس معضلة التعايش في مجمعاتنا. وإذا أسقطنا هذه المعضلة على الجغرافية السكانية وحتى السياسية الكردية نلاحظ ان هناك ثمة ملاحظات على هذا التعايش والاندماج أيضا، ولعل السبب يعود إلى إن الأقليات (القومية، الدينية، المذهبية) في كردستان في كثير من الأحيان كانت أسيرة لماضيها، ولهذا لم تستطع الاندماج، فأصبح ذلك عقبة أمام اندماجها مع الأكثرية، رغم إن البقاء والحياة الفضلى يتطلبان التكيف مع الوضع العام (السكاني والسياسي).
ثمة من يرى إن مسألة الاندماج والتعايش مرتبطة بمستوى الوعي والمعرفة والثقافة لان لها علاقة بالتكيف. والتكيف مرتبط بشكل مباشر بمستوى الوعي الفردي أو المجتمعي، وهو ما يسهم في اندماج المجتمعات، وخلق مناخات وبيئات جديدة أكثر انتعاشا، وهذا ما يؤسس للتعايش والعيش المشترك. والحق ان العلة تكمن في امكان التحرر من التراث الثقافي السلبي الذي يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر علي انفتاح التلوينات على بعضها بعضاً، فإذا وجدت الإمكانية والإرادة والتطلع إلى مرحلة جديدة فان هذه العوامل الثلاثة (الإمكانية والإرادة والتطلع) تسهم في خلق بيئة مندمجة ومتماسكة ومتعايشة.
بيد إن الكثيربن من أبناء منطقة الشرق الأوسط يعتقدون (في كثير من الأحيان) بحكم التجربة إن مسألة الاندماج كذبة كبيرة، ولا تتم بسهولة، والدولة لا تستطيع ان تساهم في الاندماج مهما كانت مستوى أدواتها وثقافاتها ومنهاجها التعليمي. ولعل تجربة أكراد سورية والعراق، وكذلك مسألة الأقباط في مصر والامازيغ أو الشيعة في الخليج كلها شواهد على ذلك. ملحوظة : يجب ان لا ننسى ان العراق وسورية كانتا تسعيان إلى الانصهار وليس الاندماج.
بقول آخر، يبدو أن المعضلة في جانبين: في الأقليات التي تشكو دائما من الأكثرية حيث هي (والحق يقال) أسيرة ثقافاتها الماضية وإحساسها بخوف غير مبرر وفي علاقاتها فيما بينها… وفي الاكثريات: لأنها لم تقدم للأقليات الاطمئنان وتساعدها على التكيف، وهنا مسئولية الاكثريات تكون اكبر.
كان من المفترض وبدلاً من البحث وراء أدوات، وآليات لصهر الأقليات(القومية) كان مطلوب من الحكومات أن تساعد الأقليات في إنشاء بيئة مندمجة، حتى بالامكان أن نستطيع ان نتحمل المسئولية للأقليات على أنها تتحمل مسؤولية في عدم اندماجها في المجتمع والدولة.
وعندما نتحدث عن حكوماتنا وأقلياتنا ومسؤولياتهما في عدم الإسهام الطبيعي في خلق حالة من التعايش نذكر دائما ما جرى في فرنسا (أحداث الشغب) ورؤية الكتّاب الذين كتبوا عن الاندماج والتعايش. فبعض من الكتاب قالوا في الصحف العربية: «إن دولة مثل هولندا، أخذت بالتعدد الثقافي، تبين لها أن ذلك لم يحل مشكلة الأقلية المسلمة. لماذا؟ الجواب لأن الأكثرية الهولندية المسيحية احترمت سائر الثقافات وعاملتها بالتسامح، أما الأقلية المسلمة في المقابل، فلم تكن على استعداد للنظر في آراء الآخرين».
خيار الدمج أو الانصهار
في الحقيقة ليس بالامكان الإستفادة من النقاشات في أوروبا بخصوص إندماج الشعوب الوافدة لها لان ما جرى هناك لا يمكن إسقاطه على واقع مجتمعاتنا ودولنا في الشرق. فالدول والأقطار في الشرق لم تساهم في نقل الأقليات من حالة عدم الدمج إلى حال الدمج بل اردات أن تنسي الأقليات ثقافتها بشكل قسري غير مريح، الأمر الذي دفع الأقليات إلى التشبث بتراثها والالتفاف حول نفسها لأجل البقاء ولأجل عدم انصهارها، لأنها اعتقدت أنها في طريقها إلى الامحاء والانتهاء وليس إلى بلورة أفكار ومناخات وبيئات أخرى أكثر صحية.
من هنا نرى ان كل اقلياتنا منطوية على نفسها، ومشروع الدولة المندمجة والمتماسكة فشل في بداية التفكير به. التعايش شيء جميل ومحبب لدى الطرفين في المعادلة سواء أكانت الأقلية أم الأكثرية، لكن الطريق إلى التعايش يتطلب الخوض في تجربة أخرى أكثر غنى.
ان التعايش المطلوب ليس كما نعرفه بل هو مرحلة متقدمة من التعايش: أن نعترف بوجود الآخر وبضرورة التعايش معه، ونتفهم قصة اضطهاده ونتفهم مظلوميته وتطلعاته.
التعايش ليس كما نعتقد بأنه تعايش جارين مع بعضهما بعضاً، وهذا أيضاً يبدو صعباً لأنه لا يتحقق بسهولة أيضاً. فمثلاً عند قراءتنا الخريطة السكانية في كردستان العراق نصل إلى نتيجة تقول ان مشكلة التعايش أو الاندماج هي هاجس لدى الأقليات وليس بالضرورة لدى الاكثريات. فليس هناك مشكلة مثلاً لدى الأكثرية اللغوية أو القومية عندما تقوم بشتمها، لكن ستصبح المشكلة كبيرة عندما يسمع احد المنتمين إلى الأقلية في بلد ما بان قوميته تشتم. ولذلك لا نراه يتكيف مع المناخ ويصبح عقبة كبرى أمام الاندماج في المشهد السياسي أو الدائرة الوطنية.
والأمثلة من هذا النوع كثيرة، وربما هي احد الأسباب التي دفعت إلى الاضطرابات في فرنسا مثلاً. ربما تكون العلة في الأقليات وليس شرطاً ان تكون في شكل تعاطي الحكومة الفرنسية معها، لأنه في الجمهورية الفرنسية كانت «الفكرة التأسيسية هي ان جميع المواطنين الفرنسيين متساوون، بغير فرق في الدين والعنصر، وبغير أي تمييز. فالجميع فرنسيون. لكن الجميع يجب عليهم أن يعترفوا بعلمانية الجمهورية التامة. توجد ثقافة واحدة، وواحدة فقط، هي الثقافة الفرنسية. لا تنوع، ولا كثرة للثقافات. الكلمة السحرية هي الاندماج. لهذا لا يوجد في فرنسا «تمييز تقويمي» للأقليات، كما يوجد في الولايات المتحدة» ولا يمكن الإتيان بقناع للرأس إلى مدرسة رسمية، كما لا يمكن في واقع الأمر الإتيان إلى محكمة بالطربوش» كما قالت إحدى الصحف العربية.
وعموماً… كل كلامنا ليس على فرنسا وعلى الأقليات في أوروبا، إنما نستحضر هذا فقط لأجل ان نقترب من المشهد.
في كردستان (على سبيل المثال)، ومنذ فترة ليست بقليلة يظهر هنا وهناك ان الأقلية الدينية الايزيدية مضطهدة من قبل الأكثرية الإسلامية وحتى من قبل الحكومة العراقية. وقبل اقل من شهر هددوا من قبل الإسلاميين وحدث الشغب في منطقة تواجد الايزيدين حتى وصل الأمر بهم إلى نقل أبنائهم من جامعات في الموصل إلى جامعات كردستان، و أكثر من مرة قاموا بالتظاهر مطالبين بتثبيت حقوقهم. لا نقول بان هذه المظاهرات طبعاً عرفتهم للرأي العام العراقي والكردي الى درجة تثبيت ديانة اليزيدية لأول مرة في الدستور، بل المهم هنا انهم يضطهدون. وسبب الاضطهاد، كما هو معروف، هو أنهم أقلية لا تؤمن بالإسلام، وطقوسهم غير طقوس الإسلام ولا يشجعهم عامل واحد ليندمجوا مع الإسلام. وهذا الشعور أيضا موجود لدى المسلمين هناك. للأسف حتى الآن خيار التعايش ليس خيارهم، إلا أن الطرف الذي يحمي طرفي الخلاف هو العلمانية، هو التفكير بدولة علمانية صحيحة وحديثة نحمي حقوق وخصوصيات جميع المكوّنات. عندها لا يحتاج الايزيدي الكردي ان يقول بأنه ينتمي إلى القومية العربية او شيء آخر(نظام صدام حسين اشتغل في هذا الاتجاه، بل كان يعلن عن ذلك). وهناك عوامل أخرى دفعت بالايزيديين ألا ينسجموا مع بقية الحالات المجتمعية الأخرى في العراق. البقاء في خانة إنهم ايزيديون، وان هناك من الإسلام ما يعاديهم، وكذلك الإسلام الذي يريد أن يسلخ الايزيديين من جلدهم ومن خصوصيتهم، كان سببا لعدم الانسجام أو الاندماج حتى مع أسس التعايش التي وضعتها حكومة إقليم كردستان أيضا. لذلك رأينا في أكثر من مرة وعلى رغم تقديم مساعدات حكومة الإقليم لهم بأنهم مضطهدون ومهمشون من قبل الحكومة العراقية ومن قبل المجتمعات العراقية.
هذا الوضع ينطبق على تركمان العراق أيضا ، فعلى الرغم من حصولهم على حقوقهم، ورغم تكرار الأكراد دائماً ان كردستان ليست للأكراد فقط بل لكل من يعيش فيها (من التركمان والعرب والمسيحيين وغيرهم) فهم لم يهتموا بما يقوله الأكراد، لذا نرى تعايش التركماني مع العملية السياسية الكردية تعاني من إشكالات، ولعل السبب شعورهم بالخوف غير المبرر، ولعدم انفتاحهم على الأكراد وتبعيتهم الثقافية والسياسية لدولة أخرى هي تركيا، التي ساهمت بشكل كبير في خلق معوقات أمام اندماجهم في المشهد الاجتماعي والسياسي الكردي.
بقي القول إن مسألة التعايش مسألة غاية في الأهمية خصوصا في هذه المرحلة التي تنذر بالحروب وبالصراعات دموية قاتلة. فالتعايش وحده يمكن أن يخلق بيئة اجتماعية وسياسية مستقرة ومنتجة، ومن الطبيعي إن احد ركائز لبناء التعايش السلمي هو التحرر من المواقف المسبقة، وان ندرك أهمية مستقبل الأجيال والحفاظ على بقائها وذلك من خلال تعزيز التوازن الاجتماعي والسياسي وخلق وفاق والتوافق وطني واجتماعي.
faruqmistefa@hotmail.com
* سوريا