كتب مثقفون، وبينهم أصدقاء، أقيم وزناً لما يُعبّرون عنه من مواقف وآراء، عن الإسلاموفوبيا في الغرب. وقد جاء هذا كله في سياق التعليق على، وتحليل، الهجمات الإرهابية في باريس. وأشار البعض إلى كتابين صدرا في فرنسا عشيةّ الهجمات، أولهما رواية بعنوان “الخضوع”، وثانيهما تحليل نقدي بعنوان “الانتحار الفرنسي”.
لم أقرأ الكتابين المذكورين، وأنتظر ترجمة إلى الإنكليزية قريباً. ولكن قرأت في الأثناء رواية بعنوان “جني لندنستان” صدرت في أواخر العام 2013 لشاعر وروائي بريطاني اسمه جاك بولدن. ولن يجد أحد، على الأرجح، صعوبة في وضعها إلى جانب “الخضوع” و”الانتحار الفرنسي” على قائمة أبرز تجليات الإسلاموفوبيا. ولعل في هذا ما يمثل سبباً كافياً في نظر ما لا يحصى من المعلّقين في العالم العربي لإدانتها، وغالباً دون عناء الاطلاع عليها.
ومع ذلك، فهي رواية ممتعة، يزاوج فيها الكاتب بين الخيال العلمي، والأنثروبولوجيا الثقافية، وتدور أحداثها في لندن أواسط القرن الحالي. ففي ذلك التاريخ تكون الجاليات المسلمة قد حققت نفوذاً سياسياً واسعاً في بريطانيا، ويتمكن ممثلوها السياسيون، وهم جهاديون وأصوليون متعصبون من انتزاع الحق في إنشاء مناطق تتبع “الخلافة” في لندن، وغيرها من المدن البريطانية، يحظر على البيض دخولها، وتجوب الشوارع دوريات مسلحة، وتُرغم النساء البريطانيات غير المسلمات على ارتداء العباءة والحجاب، احتراماً لمشاعر المسلمين.
أما الحبكة فتدور حول زرع دماغ موظف حكومي، يهوى الموسيقى، قتُل في حادثة تفجير استهدفت حفلاً موسيقياً، في جسد بنت في الثامنة من العمر أصيبت في حادثة إطلاق نار، على باب مدرستها، والمشكلة أن ثمة فتوى تلاحقه وعليه التفكير في كيفية العيش في، والتعايش مع، جسد البنت الصغيرة.
وعلى طريقة جورج أورويل في “1984” تحتل لغة الخطاب اليومية، وطريقة الناس في التعبير عن أنفسهم، مكانة مركزية. فأعمال القتل والاغتصاب والترويع التي يرتكبها المتشددون تندرج تحت باب أعمال “الأكثر ورعاً وتقوى”، والمستشفى الذي تُنقل فيه الدماغ اسمه مستشفى سيد قطب، والعلامات التجارية، وإشارات الشوارع، واللافتات أغلبها بلغة الأوردو. وبالقدر نفسه يخشى الناس التعبير عن حقيقة مشاعرهم، وأغلب الوظائف غير متاحة لغير المسلمين، لذا ينتحل أحد الأشخاص صفة المسلم للحصول على وظيفة مترجم من الإنكليزية إلى الأوردو وبالعكس.
كوميديا سوداء، بالتأكيد. ويمكن، دائماً، أن نعثر في أعمال كهذه على صور كاريكاتورية، وعلى قدر من الصور النمطية والتنميط. ومع ذلك، تنتسب هذه الأعمال إلى جنس الأدب القيامي، الشائع في الآداب الأوروبية. وقد نجح الأكثر كفاءة بينها في احتلال مكانة يصعب تجاوزها في ذاكرة القرن العشرين السياسية والثقافية. وهنا تحضر أسماء مثل ألدوس هوكسلي، وجورج أورويل. وربما كان كافكا هو الجد الأعلى لهذه السلالة.
والمهم في تاريخ هذه السلالة (إذا بقينا في القرن العشرين) أن ثمة إحساساً بالقلق الوجودي انتاب الناس (الأوروبيين)، حين أصبحت عقلانية القرن التاسع عشر، ووعوده العلمية، وطمأنينته التاريخية، وقناعاته التقدمية، في مطلع القرن الجديد، وكأنها في مهب الريح. إحساس برهنت على صوابه حربان عالميتان، وشموليات غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وكارثة نووية محدقة.
والمهم، أيضاً، أن إحساساً بقلق مشابه ينتاب الناس في مطلع القرن الواحد والعشرين، إلى حد تبدو معه مُسلّمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، معطوفة على وعود بفتوحات ليبرالية وديمقراطية دائمة ومُستدامة، بعد انتهاء الحرب الباردة، وكأنها في مهب الريح. فلنتذكر كيف كان إحساس العالم في زمن الثورات المٌخملية، وثورات الربيع العربي، وكيف يبدو الآن.
في ظل القلق الجديد، والمُستعاد، تستعيد السلالة القيامية قيمتها، وضرورات وجودها. فالخوف من صعود الأصوليات، ونجاحها في تدمير الديمقراطيات والليبراليات، كما عرفناها حتى الآن، وبداية عصر جديد من عصور البربرية على صعيد العالم، يبدو اليوم واقعياً تماماً. وهذا لا يقتصر على، أو ينحصر في، الأصولية الإسلامية، بل يشمل الأصوليات الدينية والقومية الأوروبية، أيضاً.
مَنْ كان يصدق، حتى قبل عام مضى أننا سنصل إلى زمن تُباع فيه النساء في الأسواق، ويُقتل فيه أشخاص لأنهم أتباع ديانة غير كتابية، ويُطرد فيه مسيحيون من مدن عاشوا فيها على مدار قرون، وتُخاض فيها حروب بين “سنة” و”شيعة” في مطلع قرن وألفية جديدين. لم يعد كل ما سبق مجرّد احتمال بل أصبح واقعاً مقيماً. ولكي لا تأخذنا العزة بالإثم، فلنقل إن كل ذلك كان يلوح في الأفق، في العالم العربي، منذ أربعة عقود على الأقل.
وما يلوح في الأفق، أيضاً، أن استفزاز الأصولية الإسلامية يمكن أن يقابل باستفزاز مضاد من جانب الأصوليات الدينية والقومية الأوروبية، التي ستبدو معها بربرية الدواعش مجرد لعبة أطفال سخيفة. فجز الرؤوس على شاشة التلفزيون، والعمليات الانتحارية، وفرض الشريعة، وعودة واستعادة حسابات وثارات تاريخية مضت وانقضت، ليس حكراً على أيديولوجيا دينية بعينها. ولنفكر في مصير العالم، إذا انهارت فيه القيم، وتناطحت البربريات.
لذلك، فلنفكر في جنس الأدب القيامي، عموماً، باعتباره نوعاً من المقاومة في الحقل الثقافي. ولنفكر، أيضاً، في حقيقة أن تكديس أشياء مختلفة تحت عنوان عريض اسمه الإسلاموفوبيا، يحتاج إلى إعادة نظر. ولنفكر، أيضاً وأيضاً، في حقيقة وضرورة أن نقوم نحن، في العالم العربي، بواجباتنا المنزلية، بدلاً من شق الجيوب ولطم الخدود، كلما ذكّرنا أحد بضرورة النظر إلى وجوهنا في المرآة.
khaderhas1@hotmail.com