العين الأميركية “محمرّة” على المصارف اللبنانية أكثر مما يقول المسؤولون اللبنانيون! وقد وردت خلال السنتين الماضيتين تحذيرات أميركية مخيفة، ومتكرّرة، بأن قطاع المصارف قد يواجه كارثة على غرار كارثة “دبي”. ومع أن التحذيرات لم تتحقّق، فالأرجح أن الحذر يظل ضرورياً سواءً في وجه الودائع الروسية في قبرص (بما فيها ودائع السيد “بوتين” شخصياً) أو بالنسبة لمحاولات إيران و”وسوريا الأسد” لاستخدام النظام المصرفي اللبناني!
علماً بأن أحداً لا “يتعلّم” من دروس الآخرين في ميدان المصارف! فالكارثة القبرصية سبقتها كارثة “إيسلندا” البعيدة. وسيظل النظام المصرفي العالمي عرضة للإهتزاز طالما ظلت هنالك كميات هائلة من الأموال “السوداء” (أموال المافيات، وأموال الأنظمة المافياوية بما فيها النظام الروسي الحالي) المتنقلة بين مصارف العالم!
الأفضل أن تحذر المصارف اللبنانية من هذه الودائع “الخطرة” لأنه إذا تكرّرت الأزمة القبرصية في لبنان، فإنه يُخشى أن تأتي عروض الإنقاذ من “محور الشرّ” الإيراني-الروسي الذي يلعب الآن أخطر أدواره في سوريا. وقبل ذلك، فقد يهدّد دخول المصارف اللبنانية في هذه اللعبة الخطرة بفقدان ثقة المودعين الخليجيين الذين قامت عليهم ثروة شارع المصارف في بيروت.
الشفاف
*
المركزية- حذّر مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الإقتصادية الدكتور شادي كرم من استقطاب الودائع الهاربة من المصارف القبرصية إلى لبنان، متخذاً بذلك موقفاً مناقضاً تعليقات المحللين المحليين على الأزمة المالية في قبرص.
وقال في حديث لـ”المركزية”: شكّلت زراعة البطاطا في السابق المحرّك الاقتصادي في قبرص، وتطوّر فيها النموذج المالي بعد انقسام الجزيرة عام 1974. واستغلّت قبرص الأحداث في لبنان مدة عقدين كما استفادت من تدفق الأموال الروسية بعد العام 1990. ويعود نجاح هذا النموذج إلى وجود شبكة محترفة من الأخصائيين (محامون، محاسبون، الخ …) في مجال تفادي الضرائب ارتكزوا على منصّة اتصالات وتكنولوجيا متطوّرة. احتضنت هذه البيئة 320 ألف شركة “أوف شور” مسجلة في سجلّ الشركات وهو رقم ضخم جداً في بلد لا يفوق عدد سكانه الـ860 ألف نسمة. وهذه الشركات في معظمها، قشرة فارغة يديرها محامون قبارصة وتمرّ خلالها بعض الصفقات التجارية الدولية وتملك جبلاً من الودائع في المصارف المقيمة في قبرص، قبرصية كانت أم أجنبية.
واستشهد بمقال في “نيويورك تايمز” أكد مضمونه خلال اتصالات بمصرفيين قبارصة، أن “هناك عدداً من البلدان المشابهة لقبرص، تقوم بحملة اتصالات مع الذين يديرون مصالح المودعين في المصارف القبرصية لجلب الودائع الهاربة من قبرص إلى ربوع قطاعاتها المصرفية. ومن عداد هذه البلدان سويسرا ومالطا واللوكسمبورغ، وجزر الكيمن وحتى دبي وسنغافورة”. وأمل كرم أن “يقاوم المصرفيون اللبنانيون هذا الإغراء لأن الاستسلام له سيكون مثابة قنبلة موقوتة في صميم القطاع المصرفي الوطني”. وشرح هذا الموقف بالقول:
– أولاً، كان لبنان في الفترة الأخيرة، عرضة لحملة شرسة تتهمه باحتضان عمليات تبييض أموال وتمويل الإرهاب عبر مصارفه. وتصدّينا لهذه الحملة بصعوبة وبعد جهد كبير ونجحنا في إسكاتها ربما موقتاً، مستندين بذلك الى مصداقية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمؤسسة التي يترأسها. في ظل الظروف القائمة، يسهل تقدير الأذى الممكن أن يتأتى من عناوين الصحف الغربية التي ستركّز على تدفق الودائع الروسية المشبوهة إلى لبنان. ونحن في غنى اليوم عن فتح “علبة بندورة” إضافية.
– ثانياً، إن تطبيق واجب التحقق من مصادر هذه الأموال صعب جداً نظراً الى الهيكليات المعقدة التي يضعها الأخصائيون في تفادي الضرائب والحفاظ على السرية. فستتكبّد المصارف نفقات إضافية وعناءً خاصاً إذا التزمت تعليمات مصرف لبنان بالتحقق من ملكيّة الأموال المعنية ومصادرها.
– ثالثاً، الودائع مكلفة ولا تتحوّل إلى ربحيّة إلا في حال تسليفها أو استعمالها لشراء سندات خزينة. واضطرت المصارف القبرصية نظراً الى تدفّق مبالغ كبيرة وبشكل سريع عليها، إلى القيام بتوظيفات غير مدروسة انتهى معظمها الى الكوارث اليونانية التي نعرفها. كما أن التوظيف في سندات الخزينة يتضمّن في حدّ ذاته مخاطر ويُشكّل مجازفة إذ أن استخدام مطلوبات بأمد قصير للتوظيف بموجودات على الأمد الطويل، وهذا التفاوت بالاستحقاقات يهدّد سيولة المصارف في حال سحوبات كثيفة ومفاجئة.
أضاف: إن تحركات رؤوس الأموال السريعة، إيجابية كانت أم سلبية، تُحدث خضّات تؤثر في استقرار الميزانيات المصرفية، ومن الأفضل تجنّبها.
ورأى كرم أن “لو أردنا العمل على استقطاب الودائع من قبرص، فإنه أمر شبه مستحيل اليوم وفي المستقبل المنظور بسبب التدابير الصارمة المتخذة للحدّ من سحب رؤوس الأموال وتحويلها. وأحدث الحل المتبنّى في قبرص صدمة في الأوساط المالية الدولية لما يشكّل من سابقة خطيرة أسفرت عن “مصادرة” 60% (بين ودائع وموجودات) من ادّخار عملاء المصارف في قبرص ونسف مفهوم ضمان الودائع في أوروبا. ماذا يضمن اليوم حماية الودائع في إيطاليا أو إسبانيا أو حتى في فرنسا أو اللوكسمبورغ؟”.
وختم: إن “نفخ” ميزانيات المصارف ليس دليلاً على نجاحها، كما تجاوز القطاعات المصرفية حجم اقتصاداتها الوطنية بأضعاف (لبنان 3 أضعاف، أو مالطا 8 أضعاف أو اللوكسمبورغ 22 ضعفاً)، ليست بالضرورة دليلاً على صحة اقتصادية.