إبراهيم عيسى حالة خاصة بين الكتاب والصحافيين المصريين المعارضين لا يشبهه أحد، لا فى أسلوب كتابته ولا لغته ولا جرأته ولا فكره ولا شخصيته. ولهذا احتل مكانة فريدة وحميمة فى قلوب الآلاف، وربما الملايين من المتابعين لمواقفه وكتاباته وبرامجه التليفزيونية المميزة ليس فى مصر وحدها ولكن فى العالم العربى كله، وهى مكانة لا يتمتع بها معظم الكتاب والصحافيين والشخصيات العامة فى مصر الحديثة. إذ استطاع إبراهيم عيسى أن يتخطى حدود عالم الكاتب والصحافى والإعلامى التقليدية ليفلت من هذه الحدود نحو عالم أرحب يصبح فيه تواصل جمهوره معه نوعا من الانحياز الغريزي والانتماء الوجدانى والمبايعة الشعبية لشخص بدأ يأخذ فى الوعى الوطنى والشعبى المصرى حجم وصورة البطل- الأسطورة الذى يدافع عن المسحوقين والبسطاء والفقراء من أهله وشعبه.
فإبراهيم عيسى فى زمننا الحاضر هو “أدهم الشرقاوى” فى زمن مضى. وهى مكانة شعبية لم يحصل عليها كاتب آخر فى مصر منذ وقت طويل، ولم يكن يقترب منها عادة سوى شعراء العامية مثل الأبنودى وأحمد فؤاد نجم – هؤلاء الذين يكتبون بلغة الناس البسيطة الجميلة التى تلمس القلب قبل العقل، والذين انحازوا للبسطاء والمسحوقين ضد النظام وبطانته فدخلوا لذلك السجون وخرجوا منها ليتربعوا فى قلوب الملايين من المحبين. ومثلهم دخل ابراهيم عيسى السجون و”تمرمط” فى محاكم مصر فى قضايا بلغت أكثر من ستين قضية، لأنه لا يكف عن مهاجمة وفضح وتشريح النظام، واقفا وحده أمام قوى هائلة وحشودا طائلة لديها العتاد والرجال والأموال يبارزها عاريا إلا من قلمه الدامي ولسانه القاطع كالسيف.
هذه المكانة الحميمة التى لإبراهيم عيسى فى قلوب ووجدان المصريين لم يدركها ولم يفهمها رجل الأعمال والسياسة والإعلام الدكتور سيد البدوى رئيس حوب الوفد العريق، وصاحب مصانع الأدوية الضخمة، وأحد ملاك قنوات تليفزيونية مثل قناة الحياة فى مصر. لم يدركها حينما وقف فى استعلاء يعرفه أصحاب المال جيدا بعد أن شارك هو وزميله وصديقه رجل المال رضا إدوارد فى إقالة إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير “الدستور” – الجريدة التى أنشأها عام 1995 وصعد بها – رغم إغلاقها من قبل النظام- لكى تصبح أحد أهم الصحف المستقلة فى مصر- بل وتصبح مدرسة صحفية مميزة لها أسلوبها الخاص ولغتها الجريئة الفريدة التى سرعان ما شدت إليها قطاعا عريضا من القراء مثقفين وبسطاء على حد سواء. كما أصبحت مدرسة صحفية تقوم باكتشاف وتدريب وتنمية الصحافيين الشباب الذين تلتقطهم بعد ذلك الصحف الأخرى القادرة على أن تدفع لهم، أضعاف ما كانوا يحصلون عليه فى “الدستور” ذات الموارد القليلة والهمة العالية النبيلة، فيتركونها على مضض ولها فى قلوبهم مكانة لا تندمل.
وقف رجل المال والأعمال والسياسة سيد البدوي أمام عدسات الاعلام يتهم الشباب من صحافى الدستوربعد أن اشتراها بمبلغ قيل أنه ستة عشر مليونا من الجنيهات بأنهم أرادوا “إبتزازه”!! وراح يشير إلى رئيس تحريرهم الذى أقالوه بإسمه مجردا “ابراهيم” عدة مرات، فى لغة تحقيرية لم تغطها قوله “مع حفظ الألقاب” أكثر من مرة!! وراح يقدم بعد ذلك فى مؤتمره الصحفى وفى مقابلات لاحقة سببا لا يمكن أن يقدمه سوى رجل من رجال المال لإقالة عيسى ولغضب واعتصام الصحافيين بالستور. إذ قال أن الأمر كله كان بسبب خصم الضرائب من مرتبات الصحفيين!! ولم يوضح أبدا كيف يكون من المنطقى أن يثور الصحفيون لخصم الضرائب من مرتباتهم الجديدة التى قال انه قام بمضاعفتها، رغم أن الضرائب كانت تخصم أيضا من مرتباتهم القديمة!! ولذلك علق إبراهيم عيسى فى مقابلته بقناة “الجزيرة” أن على من يريدون تقديم أسباب لإقالته أن يكون ما يقولونه على قدر من المعقولية ولو الشكلية كي لا يكون كلاما مجنونا تماما يحتاج إلى مجانين لتصديقه!!
أما المالك الجديد الاساسي للدستور بعد شرائها – السيد رضا إدوارد – الذى قالت المذيعة المتألقة منى الشاذلي فى “العاشرة مساء” أنه ظهر فجأة على مسرح الاحداث دون أن يسمع به أحد من قبل، فقد تكرم بالوقوف أمام الشباب من صحافىي الدستور الغاضبين لإقالة رئيس تحريرهم والمعتصمين احتجاجا وقال أنه يستطيع أن يصدر جريدة الدستور بقدمه- أو حذائه- لا فرق كبير!! ثم فى تصريح عنتري أخر قال أنه لو اجتمع الرئيس مبارك مع رؤساء العالم كله وطلبوا منه إعادة ابراهيم عيسى لما استمع لهم!
بعد اقالة ابراهيم عيسى من قبل أصحاب المال والأعمال انقلبت الدنيا على رأس الملاك الجدد وانهال كتاّب مصر من كل حدب وصوب يهاجمون الإقالة ويفضحون الأساليب والتصريحات الفجة للملاك الجدد. بل هرع المئات من شباب مصر للتظاهر أمام دار “حزب الوفد” مندّدين بما فعله رئيسه. فسارع الحزب إلى التصريح بأن رئيس الحزب فى شرائه للدستور وإقالته لعيسى قد فعل ذلك بصفته الشخصية وليس الحزبية!! وسارع رئيس الحزب بالتصريح بأنه قد باع حصته فى الجريدة لشريكه ادوارد وأنه لم يعد مالكا للجريدة ولا علاقه له الآن بها. ثم راح يؤكد أنه استقال من مجلس إدارة الجريدة قبل صدور قرار إقالة ابراهيم عيسى، أى أنه ليس مسئولا عن ذلك، كما راح يؤكد أنه علاقته بالأستاذ “إبراهيم عيسى” علاقة اعجاب كبير واحترام متبادل!! وسبحان مغير الأحوال!!
بعد الخطيئة الصحفية والسياسية الممثلة فى إقالة عيسى من جريدته، راحت التنديدات والمظاهرات والاعتصمامات والاستقالات تتوالى. فاستقال من “حزب الوفد” شخصيات سياسية وثقافية هامة مثل السيد سامح مكرم عبيد، والشاعر أحمد فؤاد نجم، وتعزز موقف المناوئين للسيد بدوى داخل حزب الوفد، وكتب بعض المعلقين أن رئيس حزب الوفد قد ارتكب ما يعادل الانتحار السياسى بموقفه فى فضيحة إقالة إبراهيم عيسى، وراح لذلك يحاول بشتى الطرق أن ينأى بنفسه عن هذا المنزلق الخطر لكى يمكنه إنتشال ما تبعثر من رصيده السياسي فى الشارع المصرى.
اعترف الدكتور البدوى فى لقائه مع منى الشاذلي فى العاشرة مساء أنه لم يكن يتوقع حجم رد الفعل الشديد لإقالة إبراهيم عيسى- وقال ما قاله للصحفيين فى مؤتمره الصحفى بعد الإقالة بيوم، إن رؤساء التحرير يجيئون ويذهبون كل يوم فى كل مكان بلا مشكلة!! وهو بهذا يظهر لنا كم أنه غير مدرك لقيمة إبراهيم عيسى ولمكانته الخاصة فى الوجدان الشعبى المصرى. نعم قد يجئ ويذهب كل يوم رؤساء تحرير صحف قومية يعيّنهم النظام ولا يفعلون سوى تدبيج المقالات فى مدحه وتلميعه وتحسين صورته، فلا يهتم أحد فى مصر بمن جاء ومن ذهب منهم وهؤلاء لا وجود لهم فى الوجدان الشعبى المصري.
ليس المهم هنا متابعة تفاصيل ما حدث. فمهما كانت النتائج فالمؤكد أن إبراهيم عيسى سيبقى هو إبراهيم عيسى، ولن تزيده هذه الحادثة سوى قوة ومكانة وشعبية، فى الوقت الذى فضحت فيه المستوى الثقافى المخجل والعزلة السياسية البائسة لخصومه المشتركين فى مهزلة إقالته. لقد أخرجوه من جريدته فكشفهم واخرجهم هو – دون أن يسعى لذلك – من الصحافة والسياسة والتاريخ! فتاريخ مصر لن يذكر رجل المال هذا أو ذاك، ولكنه سيذكر كاتباً هائلاً مثل إبراهيم عيسي انحاز بعنف وحب إلي صفوف المصريين المتعطشين للحرية والعدل والكرامة كما ذكر من قبل أمثال الطهطاوي والنديم والتونسي، فالتاريخ لا ينسي أبناء مصر الأبرار وفرسانها الأحرار.
القيمة الأكبر لهذه الفضيحة هى فى كشفها لحقيقة أن الصراع الأساسى فى مصر على مدى سنوات عديدة وإلى اليوم هو صراع على روح مصر نفسها بين رجال المال ورجال الكلمة. فقد تزايدت سطوة رجال المال والأعمال بشكل مخيف حين راحوا يمدون أياديهم خارج أماكن أعمالهم المشروعة فى الصناعة والزراعة والتجارة إلى عالم السياسة وعالم الإعلام. فرأينا رجال المال والأعمال يستحوذون على مواقع سياسية مؤثرة فى الحزب الوطنى الحاكم وفى مجلسي الشعب والشورى والوزرات والمؤسسات والهيئات- ورأيناهم يحصدون المليارات من صفقات يقوم القضاء المصري بتجريمها. ورأينا ألوانا هائلة من الفساد تولد من علاقة المال بالسياسة. ولم يكن يتصدى لهذا كله ويقوم بفضحه أمام الجميع سوى عدد من رجال الكلمة الذين حملوا أقلامهم كالسيوف وراحوا يكتبون بنزيف أرواحهم المكلومة على ما يحدث لمصر من نهب وسلب وتقزيم وتقسيم وتشويه وإخراج من ركب الحضارة والتاريخ. فى الزمن الفاسد هذا الذى سطا فيه رجال المال على السلطة والسياسة بشكل فج وبأساليب تقرب من أساليب البلطجة تحت أقنعه تجارية وهى ليست سوى نهب وسلب فاضح ومستبيح.
وقف رجال الكلمة لهذا الفساد بلا هوادة، ونجد أن أهم الكتاب والمفكرين والمبدعين فى مصر اليوم فى صفوف المعارضة ضد هذا الزواج المستشري بين المال والسياسة، ولهذا يحاول رجال المال تدجين هؤلاء المعارضين بشراء صحفهم أو تهديد مصالح مالكيها. وكان إبراهيم عيسى هو المستهدف الأكبر بين هؤلاء, وقد كشف السيد البدوى عن محاولة سابقة لشراء “الدستور” بخمسين مليونا من الجنيهات عرضها رجل المال هشام طلعت مصطفى، وهو المحكوم عليه جنائيا لضلوعه فى جريمة قتل الفنانة سوزان تميم بحكمين الأول الأعدام والثانى خمسة عشر عاما سجن. ويكشف هذا عن مدى شهوة رجال المال فى امتلاك صوت معارض جرئ مثل الدستور من قبل أمثال رجل صدر ضده حكمان بالإدانة لقيامه بدفع الملايين لقتل إنسانة بريئة- وبنفس المنطق كان مستعدا لدفع الملايين لقتل جريدة حرة.
بالطبع، هناك بعض رجال الأعمال المستنيرين الذين يعرفون قدر إبراهيم عيسى، مثل رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس الذى أجرى مقابلة تليفزيونية طويلة استضاف فيها عيسى وحاوره حوارا ممتعا كان فيه إعجاب ساويرس بعيسى واضحاً. وكان قد أعطاه برنامجا فى قناته “أون تى في” يقدمه عيسى ولكنه أغلق بعد بضعة أشهر!
سيظل إبراهيم عيسى حالة خاصة مدهشة ومثيرة فى الصحافة والثقافة المصرية. فقد أسس لصحافة ذات جرأة غير مسبوقة وذات قدرة على الارتفاع إلى مستوى “السلطة الرابعة” المفروض أن تكون عليه. كما إنه ابتكر أسلوبا مميزا للمقال السياسى والثقافى هو الأقرب إلى الشخصية المصرية التى تمزج الذكاء الفطري (الحداءة بالعامية) بالمرح والسخرية اللاذعة والقدرة على اقتناص المفارقة المرة وتحويلها إلى نكتة مع الوسطية الدينية التى تفتقدها مصر اليوم. فهو مع اهتمامه الشديد بالتراث الإسلامى لا يقف أمامه فاقد العقل وإنما تراه يعمل عقله فى التراث ويقدم التدين بمنظور عصرى عقلانى بالغ الفائدة. ولذلك هاجم الأخوان المسلمين فى بعض مفاهيهم وممارساتهم- واستهجن مكبرات الصوت على المآذن وإزعاجها للسكان، واستهجن منع الأقباط من الإجتماع للصلاة فى المساكن، وقدم صورة عصرية واعدة للمسلم المتدين تدينا لا يعادى العصر ولا يستخف بالعقل، وهو فى هذا يقوم بدور يحتاجه المجتمع المصرى الذى ضل طريقه فى دهاليز الدروشة الدينية وهوس التزمت والتطرف الذى غزا مصر من مجتمعات مجاورة كانت هى الأولى باستيراد الثقافة من مصر.
لابراهيم عيسى إذاً دور تنويرى كبير سواء فى السياسة أو فى الدين أو فى الثقافة. وهو فى هذه كلها رائد وفارس لا يهدأ ولا يهاب. وكان تأييده للبرادعى وحماسه له مما زاد من سخط النظام عليه. ويرتاب الكثيرون فى مصر اليوم – وخاصة الشباب الذين يكتبون فى الفيس بوك وفى أماكن التعليقات على المقالات فى الصحف المستقلة – من أن فضيحة إقالة عيسى من رئاسة تحرير جريدته جاءت لإسكات صوته قبل انتخابات مجلس الشعب القادمة وما بعدها من إحتمال التوريث المشبوه /في لقاء تلفزيوني لعيسي مع الاعلامي عمر الليثي، قال عيسي بأسلوبه الساخر أن لدينا في مصر كل ما في العالم المتقدم من نظم ولكنها هنا “كده وكده”! (وهي عبارة بالعامية تعني أن الامر غير حقيقي ومجرد تمثيل). فلدينا دولة ولكن كده وكده، ولدينا ديمقراطية كده وكده، و حرية كده وكده، وقانون كده وكده! وتشبيهه هذا هو أدق توصيف لحالة مصر، فتجد أن عيسي في كلامه وكتاباته يخترق الأقنعة والزخارف السطحية بشكل حاد ومباشر فيكشف الزيف البراق ويفضح الأكاذيب الكبرى بإسلوب يدخل مباشرة في قلوب وعقول الناس حتي البسطاء منهم، و لذلك يشكل خطراً أكبر علي نظام “كده وكده” لا يملك رؤية حقيقية ورغبة جادة في التخلص من فساد زواج المال والسلطة. ومن أقواله اللاذعة:” وجهوا للمعارضين تهمة إهانة الرئيس، فماذا عن تهمة إهانة الشعب؟”
تتجلى فى إبراهيم عيسى عبقرية التمرد المصرى بأسلوبه الساخر الصارم الصادق الحاذق المتأوه المقهقه العاقل المجنون، الحامل على جناحيه آمال وآلام المصريين الطيبيين الذين فقدوا ثقتهم فى الإعلام الرسمى ووجدوا فى عيسى وقلمه البديل النبيل.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
إبراهيم عيسى وعبقرية التمرد: أخرجوه من جريدته فأخرجهم من التاريخ!
بو سفيان — osof@hotmail.com
سيذكر التاريخ ايراهيم بكل الاعتزاز كما يضىء عبد اللة النديم كتب التاريخ اما خاين بك ف الى مزبلة التاريخ