إبحار في الذاكرة

0

تعلو الطائرة و يعلو نشيج الروح معها.. إلى القاهرة و لو بعد ثلاثين سنة. غفى حلم تلك الزيارة في حنايا القلب بعد ان تاهت خطواتي في دروب بعيدة. و جاءت الفرصة من باريس. حيث حصلت وابنتي التي كانت تدرس هناك على تأشيرة لدخول مصر، رغم حملنا لوثيقة سفر لبنانية لا تخوّلنا لأكثر من التنقّل داخل بيوتنا. ولم تكن التأشيرة مزوّرة. كانت حقيقيّة و تحمل تزكية و توصية من السفير المصري تقول بأن حضرتي معروفة شخصيا من قبل السفارة المصرية في باريس.

طوال الرحلة، أرهقت ابنتي بذكريات بدايات الوعي عندي. و لم اكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر. كانت بيروت آنذاك حاضنة الثقافة وحرية الرأي، وملفى طلاب اللجوء من المثقفين والسياسيين. كنا نتظاهر بعد كل خطاب يلقيه المارد العربي جمال عبد الناصر، ولكل شهيد يسقط في الجزائر، زلزال أغادير. كنّا لبنانيين و فلسطينيين ننشغل بهموم الوطن العربي الكبير وقد تجاوز شعور الانتماء اليه كل الحدود والمعابر. غنّيت لابنتي أناشيد الثورة المصرية، والتي استعادتها ذاكرتي بسرعة أدهشتني. غنّيت حتى حفظتْ أبنتي الأناشيد على ظهر قلب. وشاركتني الغناء حتى بلغنا مرحلة النيرفانا…”وطني حبيبي الوطن الأكبر” و “دع سمائي فسمائي محرقة” و”أخي جاوز الظالمون المدى”.

مضى زمن طويل انشغلت به عن تلك الأغاني، التي ربما انقرضت الآن فهي من مخلفات الماضي الذي دسناه بالبساطير. فهذا زمن الواقعية التي تسمح بانتهاك كرامتك. أو الطالبانية التي تحولّنا الى خيام سوداء متحركة. أو لحى تتدلى و تطول. وجلابيب قصيرة.

تحط الطائرة. وتتسارع نبضات القلب. ينتظرنا شابان حال دخولنا قاعة الوصول لاستقبالنا وتسهيل امورنا. أجلسونا في غرفة الاستقبال، و ذهبا بوثائق سفرنا لختمها. أن تشعر للحظات بأنك مهمّا أو مميّزا، شعور جميل لا بأس به.

جلسنا نرقب المسافرين في الطوابير، بينما نحن جلوس في الصالون المخصص للناس” المحترمين”. لم يطل الوقت و عاد الشابان و قد اكفهر وجهيهما و قال احدهما” انتما ممنوعتان من دخول القاهرة”.

“لماذا؟” تساءلت. “ربما هناك خطأ ما. سوف نعود،” و انطلقا.

نصف ساعة مرت، و لم يعودا! تجددت طوابير المسافرين، ونحن “المحترمات” ننتظر في الصالون. جاء عسكري ببدلة بيضاء و قال لنا بحدة أدهشنا صدورها عن مصري:” بتعملوا إيه هنا؟”

“و لكن اين نذهب؟”

“انتظرا خارجا!”

“أوكي. بس ما تزعل.”

وقفنا حيث اشار لنا ربما نصف ساعة أو أكثر.. جاء عسكري آخر و نهرنا: “بتعملوا إيه هنا؟”

أعدنا عليه قص حكايتنا. قال ممنوع الوقوف هنا! “حاضر، أين علينا أن نقف حتى لا نزعج أحدا؟

أشار لنا الى مكان بجانب الطوابير، قرأنا الاعلانات. طابور للأجانب، وآخر للعرب وآخر للمصريين. وقفنا في طابور العرب ظنا منا اننا عرب ولكن بدون وثائق سفرنا. سألنا المراقب عن جنسيتنا، أخبرناه قصتنا فقال “فلسطينية! انتظرا هناك”.

انتظرنا وانتظرنا، تجددت طوابير المسافرين مرات ومرات. جاء عسكري وصاح بعالي الصوت: “بتوع الشجرة يوقفوا هناك” وحالا توجه بعض الشباب الى المكان المشار اليه! عجبت وقلت لابنتي التي انشغلت بلعبتها الالكترونية، هل يوجد في العالم العربي من يُعامل مثلنا؟ وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها تلك التسمية! ذهبت للاستطلاع وكانت جوازات سفر لبنانية ! قلت لابنتي “نحن أكلناها من مرتين، ” فلسطينية و بتوع شجرة”.

في وقفة الانتظار، بدأنا نراقب الناس، ونخمّن جنسياتهم. تقدّم رجل ضخم الجثة، يرتدي رداء اسلاميا ويحمل حقيبة يد سامسونيات. سمعنا صوتا يسأل: “مين فلسطيني؟” أجاب الرجل الضخم: “نعم أنا فلسطيني!” فصاح الصوت ثانية :”انتظر هناك!” يعني الى جانبنا. تجادلا بدون فائدة، الى ان شهر الرجل الضخم جواز سفره الأمريكي، وصاح باللغة الانكليزية “أريد ان اتصل بسفارتي!” ارتبك الموظفون والعسكريون المنتشرون في القاعة، و لم يكن بينهم من يتكلم الانكليزية.. يرجوه ان يتكلم باللغة العربية وهو ينكر انه يتكلمها… يا بيه الله يخليك ما انت كنت بتتكلم عربي دلوقت! وهو يصر على طلب الاتصال بسفارته.. تدخلت وقمت بدور المترجمة الى ان انفض الاشكال باعتذار. كان الاعتذار في الواقع لجواز السفر الذي أهين و ليس لحامله. وبفضل جواز سفر محترم مضى الرجل في حال سبيله وهو يسمع كلمات الاعتذار، فيما اقتادنا عسكريان الى غرفة التحقيق الذي استمر حوالي الساعة. انتقلنا بعدها أو نُقلنا ونحن نجرجر حقائبنا ، الى غرفة اخرى. وانتظرنا حتى كان التحقيق الثاني ثم الثالث والرابع…..و بُلّغنا بقرار منع دخولنا الى القاهرة، وتسفيرنا بأول طائرة عائدة الى باريس.

نفد صبري و غادرني الهدوء فصرخت من حرقة، “لماذا؟ لماذا؟؟” و كان الجواب:

“فلسطينية!”

لقد قتلني مرتين، ربما كانت هي من المرات النادرة التي أخرج فيها عن طوري وهدوئي… التفت الي ابنتي التي لاذت بلعبتها الالكترونية، وقالت بهدوء دون ان تلتفت لأي منا “ماما، لماذا كل هذه العصبية؟ أليس هذا هو وطنك حبيبك الوطن الأكب؟ الله يبارك لك بهالوطن أما انا فعائدة الى باريس!!”

اقتادنا الحرس هذه المرة الى غرفة في طابق سفلي. سرنا في دهاليز. أدركنا من الروائح المنبعثة من بعيد وخمنا كيفية حال المكان الذي سوف نكون فيه. فتح الحارس بابا حديديا قذرا، أشبه بأبواب السجون، وأشار إلينا بالدخول..دخلنا واغلق الباب خلفنا بسرعة. صرخت للعسكري و قلت له “أنا عندي فوبيا الأماكن المغلقة، اترك الباب مفتوحا، نحن لسنا سجناء!! لكن ليس من مجيب. تأملنا الغرفة الصغيرة، مكتب حديدي قديم صدىء يحتل معظم حيز الغرفة وتعلوه تلة من البطانيات السوداء برائحة العفن.. البرغش المتطاير بأعداد كبيرة كان كبير الحجم، يشي بوفرة الغذاء من دم نزلاء هذه الغرفة. انفجرنا في نوبة ضحك هستيري، غير مصدقتين ما يحدث معنا! ربما هو كابوس أفلت من هلوسات فلسطيني أدمن مواجهة الأبواب المغلقة! جلسنا على حقائب سفرنا لعدم وجود أي كرسي في الغرفة . تبادلنا الصمت، وجعلنا نغزل خيوط التكهنات والاحتمالات لما يمكن ان يحدث ، حين تحركت كتلة البطانيات السوداء. جمد الدم في عروقنا و حملقنا نفرك أعيننا. لم نستطع الصراخ. أطلّ من تحت الكومة وجه أسمر طويل ونحيل، بلحية طويلة، ثم ظهر الرأس كله. كان الشعر طويلا يتدلى على الكتفين. أدركنا انه رجل. سألته “أأنت انسي أم جني؟” كما في حكايا جدتي. قال باللغة الانكليزية انه لا يتكلم العربية. كان من جنوب افريقية. جاء الى مصر واحتُجز في هذا المكان منذ سبعة أشهر. لم ير ضوء الشمس أو الهواء النقي. كان طويلا ونحيلا ، دائم كش البرغش، والحك برأسه و جسده، وقد سارت طوابير القمل على ملابسه. وفي ذروة الارتباك و الحيرة، أعلنت القرقعة فتح الباب. وبسرعة دخل شاب ربما كان في أواخر العشرينيات من العمر، وأغلق الباب خلفه بسرعة. لم ينطق الشاب بكلمة أو تحية . توجه الى حصيرة من القش كانت ملفوفة في احدى الزوايا، تناولها بسرعة، مدها على الأرض، اتخذ من حقيبة اليد وسادة و نام بأمان وكأنه في بيته. للحظات كنا غير قادرتين على الكلام أو التفكير وربما تعطلت بعض حواسنا. بسرعة علا شخير الشاب. أما الرجل الآخر فقد أخذ يسير في المسافة القصيرة المتبقية متأرجحا كبندول الساعة، مكررا لنا حكايته.

قلت لابنتي “أكيد هذا الشاب فلسطيني” أجابتني “تشرفنا!” كان جوابها لئيما ينبىء بعمق الصدمة والاحباط. اقتربت من الشاب و قلت له .. هالو هالو.. لكنه استمر في الشخير، نكزته قليلا بكتفه. فتح عينا وأغمض أخرى، و كان بادي الاعياء. أجاب “نعم؟” “أنت فلسطيني؟” “نعم!” “لماذا انت هنا؟” نفخ متذمرا، وأغمض عينيه ثانية. قلت بصرامة وجدية..”أجبني عن بعض الاسئلة كي أدعك تنام!”

استغرب لهجتي واصراري، فاستسلم بغير رغبة . “احكي لي لماذا انت هنا؟ فقد دخلت بطريقة و كأنك معتاد على المكان أو تعرفه!!”

كان الشاب يعمل في السعودية، وجاء لزيارة أهله في غزة، بما أن للمعبر أوقات محددة يفتح فيها لمرور الباص الذي ينقل القادمين من السفر لزيارة أهلهم، وعلى الواصلين أن ينتظروا حتى يمتلىء الباص بالركاب، وقد ينتظر المسافر يومين او ثلاثة أو حتى اسبوعا كاملا ليأخذ الباص و يجتاز معبر رفح الى غزة!!!

قطع الحديث بيننا فتح الباب ودخول عسكري يأمرنا بان نتبعه. فسرنا خلفه الى تحقيق جديد، حيث أبلغنا بقرار التسفير صباح اليوم التالي الى باريس. فقررت شراء تذكرة جديدة و العودة الى بيروت، فقد كنت خجلة من ابنتي التي كنت أتلو عليها ألف باء العروبة و القومية والأمة الواحدة، وشعرت بحاجة للانعزال.

“وأين سنقضي الليلة؟” سألت العسكري. “في نفس الغرفة!” قلت بهدوء: “لدينا غرفة محجوزة في الشيراتون وسنقضي الليلة هناك” . “ممنوع عليكم مغادرة المطار!”

“أوكي سوف ندفع أجرة حارس على باب الغرفة في الفندق حتى صباح الغد!”

“أيضا ممنوع.”

وافترقنا.. أخذت ابنتي الى مطار آخر، لأن طائرتها سوف تقلع بعد منتصف الليل بقليل، أما أنا فعليّ الانتظار حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي. كان المحقق سمحا ومتسامحا وسمح لي بالبقاء في قاعة المطار وليس في تلك الغرفة/ الكابوس.

قضيت الليل أتجول حينا و أجلس حينا آخر وأنا أجرجر حقيبتي. لفتني أثناء تجوالي، جلوس رجل و امرأة على بنك خشبي. المرأة الحامل انتفخت قدماها حتى أصبحتا مثل عمودين ضخمين، وطفلان غفوا على ذات المقعد. تحدثت الى المرأة.. هي ايضا فلسطينية /مصرية، ومن حملة الوثائق المصرية، وتعيش مع زوجها الذي يعمل في السعودية، وفي كل مرة تأتي لزيارة ألأهل في مصر كان عليها الانتظار في المطار حتى تستكمل مباحث أمن الدولة اجراءاتها، و يوم التقيتها كان قد مضى على وجود العائلة في المطار ثلاثة أيام!!!

حان وقت الرحيل، ولكن من مطار آخر. رافقني عسكريان مع سائق الباص الصغيرة . حمدت الله أني لم أنقل بسيارة السجن الذي يسمونه “البوكس” سألت عن وثيقة سفري الملعونة، فأخبرت بأني سوف أتسلمها في الطائرة.

ثلاثة من العسكر رافقوني حتى درج الطائرة، حيث كانت مجموعة من العسكر منتشرة في المكان، ما خلت نفسي يوما انني شخص مرهوب الجانب الى هذه الدرجة! نظرت الى أقرب عسكري لي، وقلت له “هل تعتقدون أنكم قبضتم على كارلوس؟” و لم يكن قد قبض عليه آنذاك. انتظر عسكريان على مقربة من سلم الطائرة، وصعد معي عسكري واحد. كنت آخر راكب يدخل الطائرة. سرنا في الممر حتى وصلت الى كرسيّ، ترافقني عيون المسافرين بفضول. سرت بكبرياء متجاهلة النظرات والهمس. لكن روحي كانت تتمزق. جلست في مقعدي وثبت حزام الأمان. أخرج العسكري وثيقة سفري من جيبه ، سلمني اياها وانصرف بدون حتى ان يتمنى لي رحلة سعيدة. اشرأبت الأعناق وامتدت الرؤوس وحاصرتني العيون علها تعثر على ما يشفي غليلها. أردت أن أقف و أصرخ بهم بأني ما اقترفت اثما، لكن خطيئتي هي أن أرضي قد اغتصبت، وجريمتي ان هويتي مختلف عليها.. لم يسمع أحد من الركاب صراخي، لأنه ظل حبيسا في حلقي الذي جف مثل أرض نسيها المطر!

أعتذر من شعبي المصري، لكن الأحداث الجارية تفتح ألف جرح في الروح.

albakir8@hotmail.com

* كاتبة فلسطينية من لبنان – النروج

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading