لم يكن “حزب الله” وقوى أخرى في صلب فريق 8 آذار ينتظرون ان يخرج منسق الامانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد للمرة الاخيرة من مقر الامانة العامة في احد شوارع الاشرفية ويعلن على الملأ، ليس خروجه مستقيلاً من المنصب الذي كان يشغله منذ قرابة عقد من السنين، بل نعيه الصريح لهذه التجربة السياسية التي اقتحمت ذات يوم الساحات بمسيرات وتظاهرات مليونية (بحسب تقديرات الفريق عينه) وفرضت نفسها بقوة في معادلة الشارع والحكم لكي يستقر(الحزب وحلفاؤه) اخيراً على معادلة عنوانها الكبير والثابت ان التيار العريض الذي هبّ لينافسه ويخاصمه ويعمل على محاصرته يوشك ان تنتهي مفاعيله ومشروعه الاصلي وإن كان يصر على انه لم يغادر الميدان.
فبالنسبة اليهما (الحزب ومَن والاه) ان هذه النهاية لهذا التيار أتت في سياق ومسار تدريجي تراجعي، وكانت بداياته المؤثرة بُعيد الانتخابات النيابية عام 2009، وتحديداً يوم اختار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ان يشهر خروجه المدوّي من هذه الحالة التي مثّل فيها رأس الحربة والباعث على حيويتها، وان يعلن الوقوف في منطقة رمادية.
وتجسدت الضربة الثانية الكبرى لهذا التيار في دفع الفاتيكان نحو استقالة البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير وتسمية البطريرك الحالي بديلاً منه. في ذلك الحين، ظهر الوزير السابق والسياسي المخضرم محمد عبد الحميد بيضون لينعى باكراً هذا التيار، معتبرا انه فقد روحه وقائده الفعلي، وبالتالي يصعب ان يعود سيرته الاولى ويسترد ألق الحضور وقوة الفاعلية، منطلقاً من فرضية فحواها انه لا الرئيس سعد الحريري ولا رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع بامكانهما ان يعوضا هذه الخسارة المدوية ولم يعد في مقدورهما ان يمضيا قدماً بهذه الحالة. ولم يطل الوقت لتأتي الضربة الكبرى القاصمة والمتمثلة في اسقاط حكومة الرئيس الحريري الاولى وهو في طريقه الى البيت الابيض للقاء الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما. وبعدما رد “تيار المستقبل” باعلان الاضراب السياسي والمقاطعة، كرّت سبحة التراجعات لدى هذا الفريق لتبلغ اخيراً ذروتها قبل نحو اربعة اشهر في سير الحريري بمعادلة “عون رئيساً”، وهي المعادلة التي تمسك بها “حزب الله” طوال عامين ونصف عام ولم يقبل اية عروض بديلة منها رغم الترهيب والترغيب.
هذا السرد هو في عُرْفِ البعض لا ينطوي على اي عنصر مفاجئ. لكن المستجد في السياق هو ان في مدار العقل السياسي لـ “حزب الله” من يشير صراحة الى ان دوائر القرار في الحزب راحت تروّج اخيرا وأمام الغياب شبه التام للاحتفالية المعتادة بذكرى 14 آذار لمعادلة فحواها ان “التيار الاذاري” الذي عمل جاهداً لمحاصرة الحزب او استتباعه عبر إجباره على تغيير سلوكه وادائه السياسي، قد أفل نجمه وصار قوة عادية بطموحات متواضعة بعدما تخلى عن مشروعه الجامح.
وبناء على هذا التشخيص وما يُبنى عليه من قناعات واستنتاجات، ولجت الدوائر عينها مرحلة البحث الجدي عن ماذا بعد؟ واستطراداً، ما هي طبيعة التعامل مستقبلاً مع “تيار المستقبل”، وماهي أسس الشركة السياسية معه في قابل الايام؟
الدوائر عينها تلفت من باب التذكير ليس إلا الى ان الحزب بذل جهوداً مضنية لبلوغ هذه النهايات مستخدماً نهج الاستيعاب التدريجي والتفكيك ومن ثم سياسة التصادم. والبدايات المعروفة تجسدت مع استيعاب احد المكونات الوازنة والاولى لهذا الفريق، اي “التيار الوطني الحر”، ونقلها من منزلة الخصم المعادي الى مقام الحليف عبر “تفاهم كنيسة مار مخايل”، وهو أقدم على هذا الفعل بعد إسقاط الآخرين للتحالف الرباعي الذي جمع الحزب و”امل” مع “المستقبل” والتقدمي ليخوضوا معا انتخابات 2005. بعد ذلك “التفاهم” الذي كانت له اصداء كبرى يوم إظهاره الى النور، شعر الحزب بأنه أمّن ظهيراً قوياً، فانتقل من حال المهادنة الى حال المواجهة مع الخصوم في 14 آذار الذين كانوا يومذاك في ذروة قوتهم محليا ويسبحون في بحر دعم غربي وعربي لا حدود له.
وعليه، كانت الضربة المفصلية في ايار2008، وتلتها الضربة الاكثر قسوة والخطوة الاكثر تحدياً في اسقاط حكومة الحريري الاولى وتأليف حكومة جديدة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. ومع ولادة حكومة الرئيس تمام سلام استشعر الحزب ان “المستقبل” قد بدأ للتو انعطافة في مسيرته ورؤيته ونزل عن “أعلى خيوله”، وتجلى ذلك في انطلاق حوار عين التينة بين الفريقين. وثالثة الاثافي تجلت في القبول بمعادلة عون رئيساً، وسبقها بطبيعة الحال تطور آخر تجلى في “تفاهم معراب” الذي أثمر ضمناً خروج حزب”القوات اللبنانية” من صلب مشروع 14 اذار وانتقاله الى فضاء آخر.
واجمالاً، تنهض رؤية “حزب الله” في هذا الاطار على الاسس الآتية:
– لم يعد فريق 14 آذار يشكل خطرا مستقبليا، فقد انفرط عقده الناظم وصار لكل مكون من مكوناته مدار خاص وحسابات مختلفة تملي عليه تفاهمات وعلاقات مميزة. وهذا الامر ينطبق اكثر ما يكون على “القوات اللبنانية” التي وإن تحرص على الاحتفاظ بحدود علاقة من نوع ما مع “المستقبل”، إلا انها لم تعد في العمق الاحتياطي الاستراتيجي لهذا الفريق، حتى انها انجزت تحولاً محسوباً فتحت معه الابواب حتى مع الحزب.
– اما “تيار المستقبل” فقد ارسى مع الحزب علاقة يحلو له ان يسميها “ربط نزاع”، لكن سلوكه حتى الان اوحى للحزب باستنتاج جوهره ان هذا التيار مستعد لهدنة طويلة ومنفتح على تقبّل شركة من طبيعة دائمة مستقبلية مع الحزب وحلفائه شرط ان يقدم الحزب ضمانات وتطمينات ثابتة بالحفاظ على مضامين الشركة الحالية وقواعدها باعتبارها “اتفاق جنتلمان” له مفاعيل الديمومة ومواصفاتها. ووفق معلومات مستقاة من اجوائه، فان الحزب لم يعطِ حتى الان كلمته الفصل في هذا الاطار، اذ ان الظروف والتطورات والتحولات لا تتيح له ذلك، ولكنه بالاجمال يتعامل مع “المستقبل” على انه نسخة معدلة عن ذي قبل أكثر رصانة وأقل طموحاً وجموحاً.
ibrahim.bayram@annahar.com.lb