ليس أدلّ على التنافضات الفاضحة في السياسة الثقافية للنظام السوري من هذا التزامن الفظيع بين حدثين راهنين: إطلاق الاحتفالات الكرنفالية بتدشين دمشق عاصمة العرب الثقافية للعام 2008؛ وإنذار أصحاب عشرات المحالّ في سوق البزورية التاريخي القديم بالإخلاء، تمهيداً لأعمال هدم واسعة النطاق، قيل إنّ الهدف منها هو بناء سوق جديد عصري تتوفّر فيه المنشآت السياحية الضرورية (مرآب سيارات، فندق سياحي، مسبح…). وإذا كانت مخابرات أمن الدولة قد أحيت اليوم العالمي لحقوق الإنسان، كما استبقت الحدث الثقافي إياه، باعتقال عشرات المثقفين السوريين المشاركين في اجتماع المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق”؛ فإنّ وزارة السياحة لم تقصّر من جانبها، إذْ أنّ عزمها الإجهاز على صرح تراثي ـ ثقافي عريق مثل سوق البزورية لا يقلّ بربرية عن فتك الأجهزة الأمنية بصفوة من ضمائر سورية الثقافية.
ولكي نذهب إلى شاهد من أهل السلطة، هو من فئة يصعب على المطبّلين للنظام الطعن في مدى انتمائه إلى “عظام رقبة” السلطة، هنا ما كتبته مها القحف في موقع “سيريا نيوز”، بالحرف، وبالأخطاء اللغوية: “من جهة أخرى كشف مصدر ذو صلة في وزارة السياحة لسيريانيوز أن الإنذارات التي تمّ توجيهها إلى أصحاب المحلات لإخلاء العقارات بحجة تصدع البناء ما هي إلا لعبة تحيكها وزارة السياحة لتكون مخرج [الصحيح بالطبع: مخرجاً] وحجة للإخلاء. لكن السبب الحقيقي هو إخلاء المكان للشركة المستثمرة المتعاقد معها لتحضير الخان [المقصود: خان الرزّ]، خاصة أن لجنة رئاسة مجلس الوزراء التي درست وضع البناء أكدت أن البناء سليم وغير معرض للانهيار كما ادعت وزارة السياحة والمحافظة. وأكد المصدر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه أن الوزارة ستعمل على إخلاء المكان حتى لو كان البناء سليم [سليماً] ولن تأخذ بعين الاعتبار لشكوى أصحاب المحلات فالمكان مستملك للنفع العام. وهي بصدد إنشاء مشروع سياحي يدر أموال [أموالاً] كثيرة”.
وسوق البزورية، إلى الذين لا يعرفون عنه الكثير، يعود إلى سنة 1878 حين انشأه والي دمشق الشهير مدحت باشا، ويبلغ طوله قرابة 1000 متر، ويضمّ نحو 150 محلاً، و”له خصوصة كبيرة لدى الدمشقيين جاءت من تقاليد البيع والشراء فيه، ومن سلوكيات أصحاب هذه المحال الذين وصفوا بالورع والتقوى وتجارة الحلال”، كما جاء في تحقيق شامل نشرته صحيفة “الرياض” السعودية أواخر العام 2006. وبضائع السوق تشمل الأغذية والسكاكر والحلويات والمكسرات والبهارات والتوابل المختلفة ذات المنشأ المحلي أو القادمة من الهند وشرق آسيا، إلى جانب اختصاصات السوق ذائعة الصيت: الأعشاب والنباتات الطبية مثل جزر الرباص والحنظل والـ”روزميري”، ثمّ الكمون والعصفر والزهورات المختلفة، والتمر هندي والعرق سوس، والزعتر وحبّة البركة والغار واللوز والجوز والخروع…
لعلّ هذا هو السبب في أنّ أسماء السوق تبدّلت مراراً، إذْ نُسبت تسمية “البزورية” إلى ما يُباع فيه من بذور ومكسرات وتوابل؛ وكانت تسمية “سوق العطارين”، التي شاعت في العهد العثماني، تشير إلى العطارة؛ ومضى زمن شاعت فيه تسمية “سوق القيمرية” ببساطة، نسبة إلى موقع السوق الجغرافي. أخيراً، وليس آخراً البتة، يضمّ سوق البزورية صرحَيْن كبيرَيْن يصعب أن تكتمل هوية دمشق التاريخية دون احتساب عناصرهما المعمارية والتراثية والثقافية: حمّام النوري، أو حمّام نور الدين الشهيد، أحد أبهى حمامات دمشق القديمة؛ وخان أسعد باشا، الذي بناه صاحب قصر العظم أواسط القرن التاسع عشر، لكي يكون أحد أجمل وأكبر خانات دمشق.
وكما استسهلت وزارة السياحة، ثمّ ابتذلت تماماً، أمر تمويه هذه الجريمة التراثية والمعمارية النكراء تحت ذريعة ترميم السوق وتحسين مظهره السياحي، كذلك شاء وزير الثقافة السوري أن لا تمرّ مناسبة انطلاق فعاليات دمشق عاصمة ثقافية دون ضحك ديماغوجي على اللحى، وعلى العقول. وفضائية “الجزيرة” القطرية سألت د. رياض نعسان آغا كيف يمكن لدمشق أن تكون عاصمة للثقافة وفيها مثقفون يقبعون في السجون، فأجاب (وننقل عن “سيريا نيوز” هنا أيضاً، وحرفياً):”أنا لا أعلم ذلك!! أعلم أن هناك ناس يحاكمون وهذا موضوع آخر، وهل توجد دولة في العالم ليس فيها سجون أو محاكم أو محاكمات؟!! فهل علينا أن نتوقف عن الطعام والشراب وقراءة الأدب والفن حتى تنتهي المحاكمات، لا أظن أن أحداً يطلب ذلك، هناك قوانين وهذه القوانين تنظم”.
وفي حدود ما نعلم، ويعلم العالم بأسره، لم يُقدّم أيّ من معتقلي “إعلان دمشق”، فداء الحوراني وأحمد طعمة وأكرم البني وجبر الشوفي وعلي العبد الله ووليد البني ومحمد ياسر العيتي وفايز سارة ومحمد حجي درويش، إلى أيّ محكمة بعد، إلا إذا كان الدكتور ينذرنا ـ لا كما فعل اللواء علي مملوك، رئيس جهاز أمن الدولة ـ أنّ المحاكمات قادمة وشيكة لا ريب فيها! الثابت أنه تقصّد أن يبدو أكرم من وزارة السياحة: هذه أنذرت محالّ البزورية بالإخلاء دون استثناء، أمّا هو فقد تسامح كثيراً فأعلن: “إذا كان أحد القابعين في السجون لديه قصيدة جيدة، أنا على استعداد أن أنشرها له”!
أيّ عاصمة، دمشق؟ الهدم البربري، أم ثقافة الكرنفال؟
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس
أيّ عاصمة، دمشق؟
مقال رائع. هل يمكن تطبيق القاعدة قال الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت: «لا يمكن ترويض الوحش بمداعبته».على النظم الشمولية او الحزب القائد؟ هناك نظرية يطرحها المفكر مالك بن نبي، وهي نظرية (قابلية الاستعمار)، فلولا اننا نحمل تربة مهيأة للاستعمار لمااستعمرنا. نعم القابلية عدم تطبيق العدل اي السواء حتى عندما نناقش الافكار ونعمل على محاربة سيادة القانون والمؤسسات المدنية ومحاربة الديمقراطية واحترام الانسان ونعشق الديكتاتورية ونبررها ونصدر المليشيات الارهابية ونتفنن في المافيات المخابراتية ومسرحيات في صناعة الطواغيت …السؤال الى متى الشعوب العربية ممتنعة عن ما يجري حولها من تطبيق للديمقراطية واحترام الانسان لكي تنهض؟ شيء مبكي ومحزن
أيّ عاصمة، دمشق؟Dear Mr. Hadidi Thank you for this superb article on yet another of the Syrian regime’s breath-taking stupidities only the Taliban showed similar cultural and political depravity in destroying the great statues of the Buddha at Bamiyan I am a proud daughter of the great Buzuriyya suq at present threatened with mafia-style demolition. This magnificent street is not only the repository of wonderful and fragrant items, from rosa damascena to laurel soap, but also the heart of everything that represents old-fashioned Damascus style and courtesy – which is why this vulgar and ill-educated regime wants to demolish it!The… قراءة المزيد ..