لماذا ظهرنا في زمن الفيضانات، وذوبان ثلوج القطبين، واختفاء الأسماك في البحار، وانتحار الحيتان، وتلوث الهواء والغذاء والأرض والسماء؟
لماذا أجرمنا بحق كل هذه النباتات والأزهار والسهول والأشجار؟ ولماذا اختفت كل فصائل الفراش النادرة، وانقرضت تلك الطيور والزواحف، وصارت الأسود تتجول تائهة في الشوارع الإفريقية بعد أن زحفنا على براريها، وبنينا مساكننا على عرائنها، وبِعنا أشبالها في أسواقنا؟
لماذا ولدنا في زمن فقد كل شيء تقريبا معناه، وصار المعنى نفسه بلا معنى، وباتت الحروب تشتعل ولا تتوقف، والناس تموت بأبشع الطرق بالمجان في كل مكان؟
مذ كم ظهر الإنسان؟ مليون أو مليوني عام؟ لماذا لم يأت دورنا إلا اليوم كي نشهد انتهاء الفصول واختفاء الأمطار وزحف البحار على سواحل المدن، وغرق الناس والسيارات في الشوارع وبين البيوت؟
هل هذا زمن انتصار المتغيرات على الثوابت؟ أم هو عصر تزلزل الثوابت وتحول المتغيرات؟ لماذا لم يعد الصباح جميلا والشمس كما كانت مشرقة؟ لماذا لا تكترث العصافير بنا ويختفي النحل من البساتين والحقول؟ لم يعد للنوم والصحو جدوى ومعنى، ولم يعد الليل ليلا ولا النهار نهاراً، لا العزلة تجدي ولا التقارب يشفي، لا الأب قادر على أن يواجه أبناءه ولا ثمة من يرى أي حكمة في تجارب الآخرين.
كان الشعراء يخيفوننا من «الأرض اليباب» ويرون فيها لحظة انهيار الحضارة وتزلزل الكينونة وتوقف سيلان الزمان في اللامكان وغير ذلك، ولكن الحشر والبشر اليوم في أزمة، والإنس والجن في حيرة من تتابع الحوادث المريعة والحروب المدمرة وتهدم المدن على رؤوس الأطفال والنساء والعجائز، وخروج الآلاف من ديارهم لا يلوون على شيء، ولا يخافون من موت أو ضياع في اليم أو غرق، لم تعد حتى الهجرة أو اللجوء كما كانا، ولا بات أحد يأبه لموت طفل على ساحل أو اغتصاب فتاة في كوخ ناء أو انقلاب قارب متداع بمن فيه.
هذه الأرض الجميلة، وهذه القارات المهيبة، وهذه المحيطات الهادرة، وهذه الغابات الممتدة من سيبيريا إلى إفريقيا والأمازون، وهذه الكائنات كلها، هل تدرك ما يحل بها، وما يفعل الإنسان بها وبنا؟ لماذا نُبيد الغابات لنصنع الكراسي أو نزخرف الجدران؟ ولماذا نقطع زعانف الأسماك الضخمة لنصنع الحساء في المساء، ونحرم وحيد القرن من قرنه الوحيد لزيادة الإثارة والشبق؟
كم عدد الحيوانات وفصائل الطيور والزهور على قوائم الإعدام والانقراض لدينا؟ وكم بقي في ساعتنا وزماننا من وقت كي تنهار ثلوج القطبين وتغرق السواحل والقبور والبيوت والحقول؟ هل الأرض والهواء ينتقمان منا أم أننا نكتب برفاهيتنا التي لا تعرف الحدود نهايتهما؟
ماذا نقول للدب القطبي عندما ينظر إلينا بوجهه الحزين؟! إلى أين يهاجر هذا الكائن الثلجي الذي عاش بين ثلوج القطب آلاف القرون قبل أن نشهد اليوم حيرته المؤلمة مع أسرته وأشباله، وخطر الانقراض الذي يفغر فاه لهم جميعا.
إلى أين ترحل النمور والأفيال والأسود والوعول والحمر الوحشية؟ لقد كانت تملك هذا الكوكب عصورا، وتتجول فيه حرة دهورا، واليوم عليها أن تختار بين الهجرة القسرية أو القتل أو الصيد الجائر أو المحميات التي لم تعد تحمي حيواناً!
متى تستطيع الأشجار أن تلتف وتتقارب، كي تلد غابة كغابات الأمازون، التي مزقتها الطرق السريعة والحقول؟ ومتى ستظهر في مثل هذه الغابة ثانية تلك الأصناف النادرة من الفراش والزواحف والببغاوات وبقية الطيور؟
اللغات واللهجات تنقرض، المجموعات البشرية تختفي، الأجهزة الإلكترونية والآلات والنقالات تجهز على كل ما طورته البشرية من سبل اتصال وتقارب ووصال، حتى لم يعد للتباعد نفسه والوصال أي معنى، وصارت كلمات الحب والصور والذكريات مجرد تشكيلات رقمية وتكوينات إلكترونية.
يقال إن الصحف الورقية ستختفي، ليكن، فهي ليست أفضل من كل هذا الذي انقرض واختفى! أية مرثية تُعبِّر عما يحل بنا؟