تظهر أمامنا، فى ليبيا، مؤشرات مقلقة تدل على أننا مقبلون على ازمة كبرى وعلى أيام صعبة.
وارقام الميزانية الحالية لعام 2014 تقدِّر الايرادات السنوية من صادرات النفط بمبلغ 27 مليار ديناراً، يضاف إليها الايرادات السيادية للدولة من الضرائب والجمارك وايرادات شركات القطاع العام، ومن بينها شركات الاتصالات، بمبلغ إجمالي قدره 6 مليارات، ليكون اجمالي ايرادات الحكومة 33 مليار ديناراً. فى حين أنها مطالبة بإنفاق 59 مليار لسداد الرواتب والنفقات التسييرية ومصاريف الدعم. فيكون العجزُ الحالي فى حدود 26 ملياراُ قابل للزيادة لأن توقعات النفط قد لا تكون صادقة ولأن الايرادات السيادية غير مضمونة. فإيرادات الضرائب تكاد تكون صفراُ، وحصيلة الجمارك تستولي عليها المناطق التي توجد الموانئ بها! وستكون الحكومة مضطرة لتغطيتها اما بالاستدانة من المصارف أو بالتمويل عن طريق العجز الذى يعني طبع نقود لا يقابلها غطاء حقيقي متمثل فى الذهب أو العملة الصعبة. ولهذا الحل تبعاته السيئة اولها التضخم وارتفاع الاسعار وظهور السوق السوداء للدولار والعملات الصعبة، لان كل من يملك دينارا يقوم بتحويله فورا إلى عملة صعبة سواء مباشرة بالسفر أو الاستيراد وبانفاقه لشراء سلع وخدمات كلها مستوردة من الخارج، فالانتاج المحلي فى ليبيا صفر!
والمبلغ المطلوب، أي الستة عشر ملياراً، لا يستطيع الاقتصاد الليبي تمويله لو طرح للمساهمة الشعبية. فلا يبقى الا الاستدانة من المنظمات المالية الدولية، أو الاستدانة عن طريق اصدار سندات تُطرح امام المنظمات المالية الخارجية. والسند هو التعهد بسداد مبلغ معين فى وقت معين ولا بد أن يكون بالدولار أو باليورو أو بالذهب، فلا أحد يضمن مصير الدينار الليبي بعد عام أو بعد شهر.
وهنا تواجه الدولة تناقضاتها بعد أن حرّمت الفوائد المصرفية! فمن الذي سيقرضها قرضا حسناً ليأخذه بعد عدد معين من السنين دون زيادة؟ لكن لأنه نظام قائم على الكذب والخداع، فقد لجأوا لتعبير مهذب هو “الصكوك الاسلامية”. وفى مقدمة لذلك، عقدوا مؤخرا فى “سفاقس” مؤتمرا حول استخدام هذه الصكوك فى ليبيا وتونس تبينَ الآن أنه مقدمة لما هو قائم.
ولن تفلح مصطلحات الصيرفة الاسلامية فى حل هذا الامر. فالمرابحة لا تقوم ولا تنفع من مفلس يقترض ليأكل والسَلم، بفتح السين، وهو نظام كان اليهود يستخدمونه فى المدينة واقتبسه الرسول منهم وتعني امكانية بيع الثمر قبل أوان نضجه بسعر محدد مسبقا يلتزم به صاحب الثمر لو فسد محصوله. وهذا ايضا لا ينطبق على النفط لأنه لا يوجد من يحدد متى سيعود النفط للفوران، كما أن سحب الارصدة من البنك المركزي التي هى غطاء للعملة سيؤدي إلى انهيار قيمة الدينار وسيقود إلى كارثة مثلها مثل طبع النقود بدون رصيد.
ولا تغرَّك َ المؤتمرات الضخمة والاسماء الرنانة ولقاءات التليفزيون وحفلات العشاء، ولا تنخدع بما يقولون حول الصكوك الاسلامية. فالأصل واحد مهما اختلفت المسميات، لان من يقرضك مالاً يريد أولا أن يضمن الربح ويريد ثانيا أن يحافظ على القيمة الحقيقية لما يملك. أي أن المقرِض لا بد أن يكون شخصا رشيدا يجد ما يغريه فى أن يضحّي بالسيولة التي فى حوزته مقابل نفع مادي قادم، لذا لا بد من أن يرد المستدين القرض بأكثر مما أخذ، أي بنسبة تتجاوز نسبة التضخم. وهنا تقع الدولة فى التناقض وعليها أن تبحث عن مفتي يحلّ لها ما حرمه غيره، ومهما فعلوا واخترعوا اسماء وحيل، فالحقيقة واحدة: من يقرضك ينتظر منك أن تسدد له ثمن الوقت وثمن التضخم، وقد يكون من يقرضك هو الامارات أو قطر وبالتالي تخضع لضغوطها وابتزازها.
والغريب أن الدولة وهى تحاول الاستدانة بطريقة أو بأخرى لا تفكر فى تخفيض نفقاتها وتستمر فى انفاق مبالغ ضخمة لتقديم النفط بسعر زهيد يساعد على تهريبه للخارج. وهو ما يحدث كدلك مع السلع التموينية التي هي مصدر مشكلات الجنوب بسبب صراع العصابات على سلطة التهريب.
ولماذا لا تراجع الدولة سياستها التوظيفية لأكثر من مليون موظف لا يعملون ويحصلون على رواتب شهرية وهم قابعون فى بيوتهم، وبعضهم يقبض اكثر من راتب: واحد من الدولة، والثاني من الكتائب! ولماذا تفتح سفارات فى الخارج ربما يفوق عددها عدد سفارات الولايات المتحدة الامريكية وتكتظ مقراتها بأعداد مهولة من الموظفين كتعيين ملحق عمالي فى السويد وعشرة ملحقين عسكريين فى الصين وفتح سفارتين فى روما واحدة للدولة الايطالية والاخرى للفاتيكان، وسبع سفارات فيما كانت من قبل دولة واحدة اسمها يوغوسلافيا، بالإضافة للموظفين الامنيين الذين هم من حاصَرَ وزارة الخارجية وخرجوا منها بشرط تعيينهم بالخارج.
اننا الان نواجه المعضلة الحقيقية.
ففي وجود تدفق نقدي غير منقطع من النفط، كان من السهل اصدار القرارات الفانتازية التي لم تظهر عواقبها لوجود سيولة لا يقابلها عمل. فسهل اصدار قرار منع الفوائد الذى شلّ حركة المصارف وتوقفت بالتالي كل محاولات قيام نشاط اقتصادي حر كان من شأنه خلق فرص للعمل وحل مشكلة البطالة التي تبلغ حولي 30 بالمئة من القوى العاملة. ولو اضفنا عدد من يقبضون ولا يعملون، لربما تصل النسبة إلى تسعين بالمئة. وانهارت سوق المال وتزايدت معدلات الجريمة وسرقة المصارف وانتشار المليشيات التي تمولها الدولة، اي أنها تمول أعداءها. وعندما ينضب المال، فستتحول هذه الميليشيات إلى عصابات اجرامية تستخدم السلاح لتحافظ على مستوى معيشتها السابق، وستلجأ إلى العنف والجريمة، وهذا ما نلحظه الان.
فابشروا وبشروا ولا تنفروا، وكُن فى الدنيا كأنك مسافر أو عابر سبيل!
magedswehli@gmail.com
طرابلس- ليبيا