تتسم ظاهرة التعليم الموسيقي في الوسط العربي في اسرائيل، في السنوات الأخيرة، بنهضة غير مسبوقة.
صحيح ان التعليم الموسيقي شكل لأبناء أوساط اجتماعية معينة، تقليدا اجتماعيا، أكثر منه ثقافة موسيقية تقود الى مستقبل موسيقي… وكانت الظاهرة السائدة هي معرفة العزف على العود أو قطعة شرقية أخرى، أو قليلا على الأورغ، أو البيانو.. ويمكن تلخيص “حالة الموسيقى “، بأنها باتت ضرورية لاحياء سهرات الأعراس.. وبالطبع دائما هناك مميزون، كسروا التقليد وانطلقوا الى عالم الموسيقى الواسع، خارج البوتقة المحلية الضيقة.. ولكنها ظاهرة ظلت ضيقة جدا ولم تتعدى بضع أفراد..
منذ أواخر سنوات الثمانين، بدأ يتشكل وعي جديد لأهمية التربية الموسيقية، وأثرها على تطوير شخصية الطالب، وقدراته الفنية والعلمية الذاتية.. وبدأنا نشهد انتشار التعليم الموسيقى، خاصة مع الهجرة الروسية الى اسرائيل، التي شملت مئات الموسيقيين الروس، وانتشرت في تلك الفترة ظاهرة شراء البيانوهات الروسية التي جلبها المهاجرون معهم، وأكاد أقول ان الاف القطع اشتراها العرب في اسرائيل، وباتت تشكل جزءا من ديكور البيت.. وكان لا بد من استعمالها.. وبدأ تلاميذنا يتلمسون طريقهم لتعلم العزف، وكان للروس دورا كبيرا في انتشار تعليم الموسيقى.. ثم رأينا ظاهرة الانتساب الى المعاهد الموسيقية في الوسط اليهودي.. وتنوع التعليم، ودخلت قطعا موسيقية جديدة، وبدأ الوعي الموسيقي يتطور ويتسع.. ويمكن ملاحظة حدوث نقلة نوعية مع بروز عازفين موسيقيين، أكاديميين.. أنهوا بامتياز معهد روبين للموسيقى في القدس، الذي يعتبر من أرقى الجامعات الموسيقية.. وبدأ يظهر جيل عربي جديد.. يحترف الموسيقى وينطلق الى الآفاق العالمية.. وبرز من بينهم عازف البيانو العالمي المشهور، سليم عبود أشقر.. الذي رأى به المفكر الفلسطيني الكبير د. ادوارد سعيد، تجسيما للمستقبل الحضاري الذي يحلم به شعبنا الفلسطيني وسائر الشعوب العربية. ومعروف ان ادوارد سعيد، الى جانب فكره وابحاثة التي أثرت على الفكر الثقافي العالمي، كان عازفا ممتازا على البيانو…
أستطيع ان أقول ان انطلاق سليم عبود أشقر للعالمية، شكل نقطة تحول بالغة الأهمية في ثقافتنا الموسيقية، وفي فهم أهمية الموسيقى في العلاقات بين الشعوب، وبناء صرح للتفاهم والتعاون بين الشعوب التي يتآكلها العداء القومي والسياسي.لذا ليس بالصدفة ان أنطلق مشروع موسيقي دولي وقف على رأسه د. ادوارد سعيد والموسيقار اليهودي التقدمي دانيئيل بارنبويم، وما زال هذا المشروع قائما أيضا بعد رحيل أحد مؤسسية، د.ادوارد سعيد.. وهو يدعم وينفذ مشاريع موسيقية عربية يهودية وبمشاركة موسيقيين من مختلف انحاء العالم في خطاب موسيقي انساني في مواجهة خطابات العنف والقتل والقمع التي يمارسها الاحتلال الاسرائيلي، والذي يشكل استمرارة على الشعب الفلسطيني، كارثة قومية للشعبين الفلسطيني واليهودي في هذه البلاد المنكوبة بالنزاع.. ومن أجل بناء صرح انساني وأخلاقي بين الأجيال الناشئة، قادر على تغيير واقع العداء والعنف بينهما.
من نفس الرؤية انطلقت في مدينة الناصرة فكرة عبقرية، بادخال تعليم الموسيقى للمدارس الابتدائية والاعدادية، ومفهوم التعليم هنا يختلف عما كان متبعا في برناج وزارة المعارف وعمليا لم ينجز شيئا.
الفكرة الجديدة هي تعليم موسيقي علمي بمستوى التعليم في المعاهد المتخصصة، مع اساتذة متخصصين.
صاحب هذه الفكرة أو هذا المشروع هو المربي ومسؤول البرامج غير المنهجية في مدرسة المطران في الناصرة في وقته، المهندس دعيبس عبود أشقر، والد العازف المعروف سليم عبود أشقر.
ويمكن القول انه أحدث ثورة تعليمية ملأت عالم الطلاب اثراء، ووسعت آفاقهم الثقافية والتعليمية، وانعكس المشروع ايجابيا على المدرسة ومستوى التحصيل العلمي والبرامج الثقافية والفنية، وبدأنا نشاهد عشرات العازفين الشباب في كونسرتا ت، وقام عازف البيانو سليم أشقر بتقديم عددا كبيرا من الكونسرتات للجمهور العربي، مع فرق يهودية محترفة، مثل فرقة السيمفونيا الجديدة في حيفا بقيادة نوعم شريف. ريسيتال للعازف ميشا بورنبويم في معزوفات مختلفة. كونسيرت للموسيقى الشرقية. فرقة الأميرتوس الاسرائيلية مع عازف البيانو فادي ديب. برامج بمشاركة عازفين اوروبيين في كونسيرتات مختلفة، مهرجان للعازفين الموهوبين الشباب.. وغيرها من البرامج.. وأبرزها بالطبع كانت مشاركة فرقة الفلهرمونيا الاسرائيلية بقيادة المايسترو زوبين ميتا. وهو أول ظهور لها في الوسط العربي، وشارك فيه أكثر من 2000 طالب موسيقى من مدارس الناصرة. وقد انفعل المايسترو زوبين ميتا من مستوى الموهوبين الشباب.. واعتبر ما يجري في الناصرة انجازا غير مسبوق في اسرائيل، قائلا بالحرف الواحد: “مستوى غير مسبوق في العزف، يتجاوز كل معاهد الموسيقى لهذا الجيل في اسرائيل”.
دعيبس عبود أشقر بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين العرب أسسوا جمعية خاصة لنشر التعليم الموسيقي، تعرف باسم “جمعية اورفيوس لنشر الثقافة الموسيقية متعددة الحضارات”.
وبدأ نشاطهم يأخذ طابعا مهنيا أكثر ويشمل مدارس مختلفة في الناصرة، بعضها أهلية وبعضها حكومية، واليوم ينتشر التعليم الموسيقي في شبكة من المدارس العربية، مدرسة الرازي،مدرسة المجد، المدرسة المعمدانية، المدرسة الانجليكانية، مدرسة المخلص، ومدرسة مسار، وبسبب قلة الميزانيات المتوفرة لم يشمل المشروع بعد مدارس أخرى.
وفي السنوات الأخيرة أنجزت جمعية اورفيوس اقامة معهد عربي في الناصرة لتعليم الموسيقى ” معهد بارنبويم – سعيد ” يدرس فيه عشرات الطلاب، وحسب موسيقيين معروفين في اسرائيل، مستوى هذا المعهد يتفوق عن سائر المعاهد المعروفة في الوسط اليهودي ايضا. وقد لمسنا ذلك في مهرجان المواهب الشابة عام 2007.
اليوم يستعد المعهد لمهرجان المواهب الشابة الثاني والذي سيقام في المركز الثقافي البلدي في الناصرة.ويشمل هذه المرة ثلاثة امسيات موسيقية، وجدير بالذكر ان “جمعية اورفيوس” و”معهد بارنبويم – سعيد” بنوا علاقات موسيقية وتعاون موسيقي مع مدارس يهودية في الناصرة العليا مثل مدرستي غلعاد وشاليط ويشارك طلابها في العزف مع طلاب المعهد في الناصرة.
بدون مبالغة، ما يجري بصمت، بعيدا عن الاعلام، يكاد يكون ثورة تعليمية وحضارية تبشر بمستقبل ثقافي مختلف عما سائد اليوم. الذي لفت انتباهي هو البرناج الجديد لمهرجان المواهب الشابة للعام 2008. والذي يمتد على مساحة ثلاث ليالي بدءا من السبت 08 – 06 -21 ثم السبت التالي 08 – 06 – 28 ثم السبت الثالث 08 – 07 – 05 في برامج متنوعة تشمل معوزفات لطلاب المعهد حيث يعزفون مقطوعات لكبار الموسيقيين العالميين، موتسارت، هايدن، كوريلي، سين سانس، أريغا وغريك وآخرين، مع عزف على العود والات النفخ وستشارك فرقة الات النفخ من مدارس الناصرة العليا مع فرقة الات النفخ من مدارس الناصرة في عزف مشترك.
حقا ما يجري ليس مجرد نشر للثقافة الموسيقية، انما بناء جمهورية للموسيقى.. جمهورية للمستقبل.. جمهورية للتطوير الحضاري والثقافي لنغيير الواقع المأزوم في ثقافتنا وواقعنا الاجتماعي.
nabiloudeh@gmail.com
* كاتب واعلامي فلسطيني – الناصرة