يعتبر تداخل العامل الديني (الإنجيلي تحديدًا) في الشأن السياسي من ثوابت النظام والمجتمع الأميركيين، ورأينا ذلك جليا في خطاب الرئيس باراك أوباما الشهير أمام جامعة القاهرة في يونيو 2009، حيث استشهد بعبارات من التلمود والكتاب المقدس والقران الكريم. حينها ركز الرئيس الأميركي، المنحدر من أصول مسلمة، على فتح صفحة جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، وتوجه إلى الشباب، خصوصا، في سعي لتحسين صورة واشنطن أمام ما كان يسمى “الشارع العربي” و“الجماهير الإسلامية”.
اليوم وقبل سنتين من نهاية العهد الأوبامي، تبدو الحصيلة واهية ولم ينجح الرهان على تحسين العلاقة الأميركية- الإسلامية بالإجمال. بل على العكس من ذلك يلتهب الشرق الأوسط وتنبئ السنتان القادمتان باستمرار الانتظار الثقيل وربما البقاء في الحلقة المفرغة أو دخول دائرة الهلاك.
لماذا وصلنا إلى هنا وتهاوت الآمال التي جرى بناؤها على رئيس بدأ واعدا؟ مما لاشك فيه تردده وتناقضاته ورهاناته العاثرة لم تسعفه في بلورة استراتيجية متماسكة، وبالطبع كان هناك بالمرصاد واقع دولي انتقالي وملتبس، وصراعات مزمنة يتداخل فيها البعدان الديني والزمني في منطقة تتحكم في شعوبها لعنة الأساطير والأمجاد مع قصور في بلورة نماذج حكم وحداثة ملائمة.
بالطبع لم يكن التغيير العربي المنشود أو تأقلم الإسلام مع العولمة الراهنة بمشوار نزهة دون أشواك ومتاعب، ولا يمكن تحميل أوباما أو بلاده القسط الكبير من المسؤولية. لكن إذا عدنا إلى خطاب القاهرة سنجد أن أوباما طرح، بالتسلسل، سبعة تحديات وهي:
– مجابهة التطرف العنيف بكافة أشكاله.
– الوضع المتوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي.
– حقوق الدول ومسؤولياتها بشأن الأسلحة النووية وعدم امتلاكها.
– الديمقراطية.
– الحرية الدينية.
– حقوق المرأة.
– التنمية الاقتصادية وتنمية الفرص.
إزاء كل هذه المفاصل الجوهرية بقي التقدم محدودا أو منعدما. حيال القضية الفلسطينية حاول أوباما رفع السقف في ولايته الأولى، من خلال طلب تجميد الاستيطان بهدف إحراج الجانب الإسرائيلي، وانتهى به المطاف إلى خسارة اختبار القوة مع بنيامين نتانياهو. لكن الجانب المخفي للتهاون الأميركي كان السعي لكسب صمت ورضا الحكومة الإسرائيلية وتركها تفعل ما تشاء مع الفلسطينيين مقابل عدم تشويشها على سير المفاوضات مع إيران في مسلسل طويل بدأ في 2003 ولم ينته في نوفمبر 2014، وجرى التمديد له حتى يونيو 2015. ولذا يبدو واضحا أن التجميد في الأزمات الأخرى في الشرق الأوسط سينتظر سبعة أشهر جديدة كي نشهد إمكانية “اكتمال الأفراح بين العاشق الأميركي المتيم، والطرف الإيراني الذي يصدّه ظاهرا”. خلال هذا الوقت الضائع تستمر الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية التي يمكن أن تستمر سنوات حسب وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي لا ندري إذا كان سيقفز من المركب أم لا، كما فعل زميله وزير الدفاع تشاك هاغل الذي لم يشأ المشاركة في تحمل تبعات سياسة سيد البيت الأبيض.
وفق نهج مكيافيلي تعطى الأولوية المطلقة لنظرة محدودة وعناد على إنجاح رهان يتصور أن استقرار الشرق الأوسط سيكون في قسم كبير منه متوقفا على عقد الصفقة مع إيران، بتعامل الرئيس الأميركي مع العرب باستعلاء ومداهنة في آن معا، وعمليا لا يبالي بمصير الفلسطينيين ولا بكارثة الشعب السوري ويستهتر بمنظومة حلفائه العرب ويماحك مع حليفه التركي المفترض.
بالنسبة لأوباما، لا يتمثل العيب في تردده وقلة إقدامه وتركه سوريا ساحة حرب واستنزاف ما دام ذلك لم يمس مصالحه العليا. أما ما ترتب على ذلك من تغول الإرهاب وغرور الشرطي الإقليمي الإيراني الذي يتباهى بالسيطرة على أربع عواصم عربية، فلم نجد جوابا من الرئيس الفصيح إلا أنه كان ضحية سوء تقدير لقوة داعش في سوريا ولقدرات الجيش العراقي، دون أن تدفعه الشجاعة إلى النقد الذاتي والاعتراف بأن فشله مرده سياساته المتباينة ورغبته في الدخول في سجل التاريخ كصانع للسلام بعد الانسحاب من أفغانستان والعراق، فإذ بالشرق الأوسط ينكّدُ آخر سنتين من ولايته، ويدفعه إلى العودة إليه وربما الغرق في أوحاله.
في سعي لتبرير السياسات وتفسير الفشل، أغدق علينا أوباما في منتصف هذا الأسبوع بمطالعة بشرنا فيها أن “منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة انتقالية “تحولية” وجذرية لن تنتهي قبل أجيال، واعتبرها “مضطربة وخطيرة”. لكنه أعاد جزءا من المشكلة إلى “الانقسامات المذهبية بين الشيعة والسنّة، التي أصبحت أخطر من الصراع بين العرب واليهود”.
وربط أوباما المشكلة بالبعد الديني وتضخيمه إذ قال: “نرى في معظم الأحيان أن الإسلام يعني رفض الحداثة، ومشاركة المرأة، وكل الأشياء التي تجعلك تزدهر في اقتصاد حديث، وهذا ليس صحيحا بشكل عام، ولكن في معظم الحالات هذه هي القوى التي برزت داخل الإسلام، أما الأصوات المعتدلة، التي تدرك أن الإسلام يجب أن ينسجم مع التعليم والتسامح والانفتاح والتجارة الدولية والإنتاجية، فإن تقويتها تتطلب أجيالاً”. وفي النهاية اعترف أوباما أن جزءا كبيرا من عمله يتمحور على “احتواء الأضرار”.
بالطبع إن عدم إنتاج العالم العربي نموذجا للحداثة يشبه ما قام به اليابانيون أو الصينيون، أدى لتفاقم الأزمة البنيوية للدولة الوطنية في أرجائه، ولغلبة العامل الديني في الشأن العام. لكن ما يشهده المشرق بشكل عام، وخصوصا في فلسطين وسوريا والعراق، لا يمكن لواشنطن التهرب من مسؤولياتها عنه على الأقل منذ 2003 إلى يومنا هذا. أما الكلام عن توازن استراتيجي بين السنة والشيعة (فيما يشبه تنظيم صراع حرب عبثية وخاسرة وطويلة) فلا يخفي الانحياز الأوبامي للشراكة مع إيران وللحلف الذي لابد منه مع إسرائيل. ولذا فإن تحميل المسؤولية لتفسير خاطئ لمفهوم الإسلام وتركيز الأنظار على محاربة الإرهاب من لون مذهبي واحد، ليس إلا إمعانا في اشعال بركان الشرق الأوسط على أكثر من جبهة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس