قبل أيام طالب أحد عشر مثقفاً، ينتمون للطائفة الشيعية الكريمة، بـ”تصحيح مسار الطائفة الشيعية في الوطن العربي” عبر بيان ثقافي أعلنوا فيه توصلهم لقناعة مفادها رفضهم للكثير من “المعتقدات والأحكام الشرعية” التي يعتقدون أنها تمثل عائقاً حقيقياً “أمام شيوع وتجسيد قيم المحبة والتسامح” سواء مع المذاهب الإسلامية أو الأديان الأخرى، موضحين غايتهم من إصدار هذا البيان وهي “تحرير الإسلام الشيعي من الهيمنة والاستبداد”، وتناول البيان 19 مادة تحتاج للمراجعة رفض فيها الموقعون ركائز أساسية (ثوابت) في المذهب الشيعي الإسلامي، ومن ذلك: عصمة الأئمة الإثني عشر، التقليد المرجعي، النيابة عن الإمام المعصوم، إعطاء الخمس لرجال الدين، التمييز بين السادة والعامة، قذف الخلفاء الثلاثة السابقين للإمام علي بن أبي طالب، ممارسة التطبير وضرب الصدور في ذكرى عاشوراء، الولاية العامة وولاية الفقيه.
أعتقد أن هذا البيان يمثل منعطفاً تاريخياً لدى الشيعة ويحتاج إلى وقفة تأمل لمحاولة استقراء ما وراء الحدث. صحيح أنه صدر كرؤية نقدية عن عدد قليل من المثقفين المنتمين للمذهب الشيعي إلا أنه أحدث هزة كبيرة في الثوابت الشيعية بعد انتشار وتداوله في مختلف الوسائل الإعلامية. وأهميته تكمن في أمرين: الأول صياغته (الأمور التي تناولها)، والثاني الآثار الآنية التي تركها وأولها ردة الفعل التي تراوحت ما بين الاتفاق مع ما جاء فيه ورفضه والتشكيك فيه وفي الموقعين عليه، ولو لم هذا البيان يمثل قضية مهمة لما أخذ كل هذه الأصداء التي ربما تفتح لنا أملاً جديداً في المستقبل.
وأستطيع أن أصنف هذا البيان بأنه (عميق وشجاع) في الوقت ذاته، فقد استطاع الدخول إلى أعماق بعيدة في المذهب الشيعي من خلال رفض أهم (الثوابت) التي يقوم عليها، وهنا يعتبر قرار الدخول في هذه المساحة مسؤولية لا يجرؤ الإقدام عليها سوى المثقف الحقيقي الذي يسعى إلى إصلاح ما أفسده العقل الفقهي في زمن مظلم اختلط فيه الدين بالتاريخ. فأصحاب البيان تبنوا موقفاً تاريخياً نادراً بسعيهم لـ”أنسنة” مذهبهم، والاتجاه به نحو العقلانية بالدعوة لتحريره من الأيديولوجيا التي اختطفته لقرون طويلة.
من الجميل أن يجد البيان رواجاً وتأييداً من قبل العقلانيين والمعتدلين من أتباع المذهب الشيعي، ولكن من الطبيعي أن يكون أول معارضي هذا البيان هم رجال الدين الشيعة؛ باعتبار أنه اقتحام ديني واجتماعي واقتصادي للمنطقة التاريخية المقدسة للفقيه، بعد أن تحرك فيها طويلاً على حساب الإنسان الشيعي المسلم. وإذا كان الفقيه يسير في مسار النصّ فإن المثقف يسير في مسار الشمس.. في مسار النور والمساحات البيضاء، فالمثقف ذو الرؤية الناقدة سوف يُخضع المعارف لميزان العقل ممارساً الشك المنطقي ليتوصل إلى نتيجة تجعله يرفض المألوف العقائدي والاجتماعي الذي يتنافي مع القيم الإنسانية الجوهرية التي يؤمن بها ويثير الوعي بها.
وإذا كانت العملة المزيفة تشبه العملة الأصلية فإنها تختلف عنها في القيمة، وبالتالي فالمثقف المزيف لن يكون مؤثراً في تكريس القيم الإنسانية لأنه يعتمد على تزييف الواقع فلا يتجاوز أبعد من غاياته وأهدافه الشخصية. وهنا تبرز قيمة المثقف الحقيقي الذي يرتكز دوره على إنتاج الأفكار ونشرها، فالأفكار الإصلاحية لا بد أن تحمل مواقف إنسانية تختلف عن السائد العقائدي-الاجتماعي، مما يدعو العقل الفقهي والإنسان التقليدي لتفسير هذه المواقف بأنها خروج عن ربقة الدين أو انسلاخ عن تقاليد المجتمع وقيمه، وهذا أمر لا جديد فيه؛ فتاريخ المفكرين مليء بالنفي والإقصاء، ولهذا جاءت بعض ردّات الفعل على البيان الثقافي الشيعي حاملة لغة إقصائية إما بعدم الاعتراف بموقف الموقعين-كونهم من خارج التيار الديني التقليدي- أو بالتلميح لتسييس البيان، في إشارة ضمنية لشخصيات محددة من الموقعين على البيان. ومن يدري، ربما نشهد ضغوطاً أو اتهامات أكثر حدة قد تغيّر من مواقف بعض الموقعين؟! لكن هذا لن يغيّر من الأمر شيئاً لأن البيان أُعلن ونشر على الملأ، ولن يبقى إلا تأثيره الثقافي الذي أقله بأنه سيكون أساسياً في نقد الفكر الديني وتحرير الدين من سطوته.
أحد عشر (كوكباً) استطاعوا تعليق الجرس الشيعي، هذه الحقيقة لا يمكن تجاهلها كما لا يمكن الاعتقاد بأنها ستغيّر فجأة تراث وعقائد ملايين الشيعة في العالم بعد قرون من الأدلجة الدينية والسياسية، لكن المهم والجوهري في الأمر أن من قام بتعليق الجرس هم المثقفون لا رجال الدين، وإن دعا بعضهم إلى الإصلاح في المذهب الشيعي، فالقناعات في العالم الإسلامي ما زالت متوقفة على أن رجل الدين هو المسؤول عن فهم الناس للدين، وحامي حماه إلى يوم الدين! بينما الوقائع تشير إلى أن كهنوتاً إسلامياً يتم إنتاجه عبر أصحاب القداسة من رجال الدين، الذين يملكون حق التفتيش في عقائد الناس وضمائرهم ويستطيعون تحديد طريقة الإيمان، بما يتوافق مع رؤاهم، ويرفضون أن تكون علاقة الإنسان المسلم بالله خالية من وساطتهم بتحديدهم فهم النصوص الدينية، وهذا ليس حكراً على أتباع لمذهب الشيعي أو السني، فكل المذاهب الإسلامية تحكمها رؤية الفقيه كونه المسؤول عن شؤون رعيته!
إن الإشكالية الدينية اليوم تدور حول ماهية الثوابت التي يفترض أنها لا تتغير في الزمان والمكان. وكلمة “الثوابت” هنا أضحت قضية خلافية واختلافية في الوقت ذاته، فثوابت السنّة تختلف عن ثوابت الشيعة، إذ تختلف الثوابت وتتفاوت ما بين المذاهب والفرق الأخرى، وكلٌ يرى أنه يمثل الإسلام الصحيح. غير أن أركان الإسلام الخمسة ليست قضية مطروحة للخلاف، وإن اختلفت بعض طرق أدائها كطريقة الصلاة مثلاً، أما أحداث التاريخ الإسلامي ومرويات الأسلاف فقد اعتبرا ثوابت أكثر من أركان الإسلام نفسها، وتم تبنيهما بشكل أيديولوجي أفرز المزيد من الكراهية والعنصرية البغيضة؛ لذلك لا يوجد حل لهذه القضية سوى إشاعة الحوار ونشر الوعي بالقيم الإنسانية، وهذه مهمة لا يستطيع القيام سوى المثقف الذي لديه القدرة على ممارسة الشك طالما أنه لا يؤمن بوجود حقيقة مطلقة ونهائية.
إقرأ أيضاً:
نحو تصحيح مسار الطائفة الشيعية في الوطن العربي
طالب المولى لـ «الأنباء»: لا علاقة لبيان المثقفين لإصلاح الفكر الشيعي بقضية الفالي
(الرسم: الإمام علي يقطع رأس نصر بن الحارث بحضور النبي محمد والصحابة: لوحة تركية تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي)