في مشهده وأعداده ودوره، يتحدر جمهور الاعتصام “الجماهيري” في وسط بيروت، من حشود “حزب الله” واحتفالاته الكثيرة التي شاءها مليونية منذ النصف الاول من ثمانينات القرن الماضي. وكان مسرح الزعم المليوني يومذاك، هو بعلبك وجوارها الريفي ومرابعها الزراعية والبدوية و”مراحاتها” العشائرية. واليوم كيف يتجلى مشهد تلك الحشود في اعتصام وسط بيروت.
*
ينصبون أولى خيم الاعتصام في ساحة رياض الصلح
يتوج “الاعتصام الجماهيري المفتوح” منذ الأول من كانون الأول (ديسمبر) في ساحتين كبيرتين ومركزيتين ببيروت، تلبية لدعوة تولاها “حزب الله” في إحدى خطب امينه العام، أولاً، وزكتها منظمات وجماعات سياسية وأهلية أخرى مثل حركة “أمل” وحزب “التيار الوطني الحر” وحزب “المردة” و”الحزب الوطني الديموقراطي” و”حركة الناصريين الأحرار” وبعض “المرابطون” (ولا يستنفد الإحصاء الهيئات المنظمة كلها)- يتوج أطواراً من الاحتجاج والتظاهر والمسير “الشعبي” اختبرت كلها من قبل، على هذا القدر أو ذاك. والمبيت في خيم منصوبة على مرأى ومسمع من المواطنين المارة والسواقين، اسابيع أو أشهراً، ابتدأه ناشطون في أحزاب وتيارات وجماعات ضوتها “قوى 14 آذار” (مارس)، في الأسابيع التي تلت اغتيال رفيق الحريري. ومهد المبيت هذا لعودة ميشال عون من منفاه بفرنسا، ثم لإخراج سمير جعجع، قائد “القوات اللبنانية”، من سجنه.
الرمزي والحسي
واضطلع المخيم الصغير الذي نصب في ساحة الشهداء، بدور راجح في الإعداد للتظاهر، وتنسيق مبادرات مشتركة وعامة نبهت، في أوقات محسوبة، الى وجوه من الحال السياسية، وإلى بعض منعطفاتها. ونكص الاعتصام عن “إقالة” رئيس الجمهورية، إميل لحود، وطرده. وهو عمّر الى حين جلاء القوات السورية عن أراضى لبنان، في اواخر نيسان (ابريل). وسابقة المبيت (أو الاعتصام) هذه اقتصرت على عشرات من الشبان والفتيات، وعلى موجات متجددة منهم (ومنهن) جعلت العدد الإجمالي مئات قليلة، وأسهمت الأحزاب والتيارات السياسية في رعاية الخيم وأهلها، ولوازم إقامتهم وأنشطتهم المادية والمعنوية.
ويظهر الوصف السريع هذا الفرق بين الاعتصام الأول وبين “الاعتصام الجماهيري المفتوح”. فالأول كان تجديداً تقنياً في طرائق الاحتجاج وتنسيقها، وقرينة لعوبة على اضطلاع الشباب ببعض الدور في إخراج الاحتجاج ومسرحته وتظهيره المشهدي، وتدريباً على هذا الدور. وكان المخيم، غير البعيد من الكشفية وسننها وتقاليدها، ذريعة طلاب الجامعات، وبعض الطلاب السابقين والعاملين، الى اختبار اساليب التحريض الطالبية في قلب المدينة “الممنوعة”. وتنتسب أساليب التحريض والدعاوة (من دعاية ودعوة) الى ما كانت الحركات والمنظمات الكاثوليكية الأوروبية تسمية “شهادة”، على معنى التبليغ من طريق المثل والفعل. وهذه الأساليب هي من هوامش العمل السياسي، ودلالتها الرمزية أقوى من سهمها الفعلي والمباشر. وتدين بسهمها وأثرها المباشرين الى رمزيتها. فهذه أمارة على تغيير طرأ على الموقف من السلطة، مثل التحرر من الخوف، أو على علاقة الجماعات بعضها ببعض، مثل انتزاع قلة ناشطة المبادرة من رأي عام ساكن ومترقب.
وعلى هذا، لا يشبه “الاعتصام الجماهيري المفتوح” الاعتصام الطالبي السابق، لا في الشكل ولا في المضمون. وهو يستعير من السابقة بعض ظاهرها المرئي الحسي. ولعل ما يستحوذ على مخيلة “الاعتصام” وذاكرته ورغباته، هو الرد على تظاهرة 14 آذار 2005، ونقضها وإبطالها من طريق محاكاتها وتكرارها. ويستعيد “الاعتصام” ما يحسبه شكلاً أو لباساً ديموقراطياً. فيحسب اهلُ “الاعتصام”، وهم غير المعتصمين، ان التظاهر من غير سلاح ظاهر، وعرض العدد الكثير، والكلام غير المنقطع والمازج التهديد بالازدراء، والتلويح بإقامة مديدة، يحسبون مطمئنين أن هذه هي أعراض الديموقراطية، وهي تالياً لبها وجوهرها.
ولكن “بُعد الشبه” بين اعتصام ساحة الحرية في 2005 وبين اعتصام “حزب الله” وروافده مرده الى أمرين متلازمين هما جمهور المعتصمين ودور اعتصامهم المرسوم. والأمران متشابكان، ولا تتخلص عواملهما الواحد من الآخر. وتضرب هذه العوامل، وحبكتها، في ارض أو تربة الحروب الملبننة المتمادية (وهذه قوية العرى بالأبنية السياسية والاجتماعية اللبنانية “السوية”)، وتلابس “نظامَ” العلاقات الإقليمية، أي فوضاها المسترسلة، منذ انهيار بعض التماسك الذي تمتع به “النظام” هذا في 1954 – 1967 على وجه التقريب. وليس الرسم هذا توسيعاً فضفاضاً للوحة ضئيلة أو جزء قليل من لوحة عريضة لم تتم بعد. فما يفترضه أهل الاعتصام ويحملونه على فعلهم وجمهورهم، قرائن على نضوج ضرب أو صنف من السياسة (أو السياسات) قلما قيض له من قبل ان يظهر على هذا القدر من الجلاء والمباشرة.
ولعل جمهور المعتصمين، والمحتل ساحات وشرايين مركزية تتخلل مقر رئاسة الحكومة وغير بعيد من المجلس النيابي، ومبنى هيئة دولية بارزة (الأسكوا) وشارع المصارف، وبعض المراكز التجارية الكبيرة على مدخل “المدينة” وأسواقها ومرابعها الناشئة والمتجددة، وبجوار كاتدرائية ومسجد جامع يثوي رفيق الحريري بجواره، وعلى ضفتي الخط الأخضر بين شرق بيروت وغربها – لعل جمهور معتصمي هذا الاعتصام هو أكثر عناصره جدة. فمادته يتعدى وصفُها ائتلافَها من طوائف ومناطق وأهل عصبيات أهلية وزعامات محلية يصح معها وصف الائتلاف هذا بالوطني، على ما يردد أهل الاعتصام ويلحون.
المهد البقاعي
فالجمهور هذا يتحدر، مشهداً وعدداً ودوراً، من حشود “حزب الله” واحتفالاته الكثيرة التي شاءها “مليونية” منذ النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، وقبل تمكنه من بعض المطابقة المجازية والتقريبية بين المزاعم وبين الوقائع. وكان مسرح الزعم المليوني، يومذاك، هو بعلبك وجوارها الريفي، ومرابعها الزراعية والبدوية، و”مراحاتها” العشائرية. فالجنوب العاملي كان محتلاً، وبقي وقتاً طويلاً محتلاً. وضواحي بيروت جنوباً كانت مقسمة وغير آمنة، ويغلب عليها من كان يسميهم أهل العصبية الخمينية “اليزيديين” (نسبة الى يزيد بن معاوية، “قاتل” الحسين بن علي)، أي أهل عصبية حركة “امل” الصدرية.
ووسع نواة المنظمة الخمينية استمالة بعض شيعة البقاع قبل استمالتهم أهل الجنوب في المدن المختلطة (السكن الطائفي والاجتماعي)، وفي مقدمها المدينة العاصمة. وتنبه الى “السبب” في ذلك بعض المعممين المحليين: فالجمهور البقاعي الشيعي معظمه من “سواقط” العشائر والعائلات المتشبهة بالعشائر، وقد ضعفت لحمتها وسطا أقوياؤها على ريوعها وعوائدها المشتركة، وأول الريوع والعوائد هذه ريع الزراعات المحظورة والاتجار بها وتهريبها شرقاً وشمالاً (من طريق سورية الى الداخل وإلى اسرائيل) أو غرباً (من طريق طرابلس الى تركيا)، والشطر غير العشائري من الجمهور البقاعي الشيعي يعتاش من الوظيفة العامة. فبعضه من المدرسين والمعلمين، وبعض آخر من الجنود والعسكريين. والأوائل تتيح لهم حرفتهم عقد روابط وثيقة بالتلاميذ. واشترك المدرسون والتلاميذ، طوال العقد التاسع، قبل 1982 وبعده، في بطالة كادت تكون مسترخية لولا تطعيمها بأنشطة متقطعة أو متصلة مثل “القتال”. ومعظمه تدرّبٌ عليه أو على شكل من أشكاله الأثيرة وهو “الغارة” الأمنية، في صفوف “المقاومة” الفلسطينية ومنظماتها المتقاتلة الكثيرة.
وأما العسكريون من شيعة البقاع الشمالي الشرقي، فتحصنوا في ثكنهم، غير بعيد من مكاتب الفصائل، وفي مقدمها المكاتب المالية (وأولها من غير منازع هو مكتب “أبو أياد”)، ومن “قوات” الفصائل. وانصرفوا عن الحياة العسكرية النظامية الى “حياة” أخرى وقعت على ضالتها المعنوية الشريفة حين هلت أهلة الدعوة الخمينية وطلائعها الحرسية والمعممة والاجتماعية والمالية كلاً وجميعاً، وانتشرت في أرجاء جهات البقاع كلها، سهلها وحَزْنها (أو هضابها) ونجدها. وفي الأثناء، اشتغل قوم تلك النواحي بما لم تحل يوماً مشاغلهم الأخرى من الاشتغال به، والتشمير له، وهو النزهة المتعرجة على جهتي الحدود السورية – اللبنانية المشتركة والمائعة (على ما يقتضي تشابك الأنساب، وتداخل المرابع والمراعي، وتنادي الأظعان واشتياقها).
وتعاظم الاستمتاعُ بالنزهة، وألح نداؤها، وكثرت دواعيها، مع تدفق السلاح والذخيرة، وتوسع الاتجار بهذه وذاك، و”تخييم” فصائل جديدة بعضها يرطن بلغة الرطانة في عرف اللبنانيين (أي بالأرمنية)، وبعضها بـ “لغات” الجماعات الكردية، وبعض ثالث بالفارسية. وتعاظم التعاظم مع تدفق السلع من شرق أوروبا في طريقها المطمئنة (النزهة على الدوام) الى إيران ومستضعفيها. وحمل الحياء أهل “المسالح” المحليين و”القوميين” العروبيين، من مراقبي الجمارك، ونُظّار المحظورات، وضباط الصف، و”الأكواع” (على ما يسمي الأهالي أهل القوة والمراتب والوجاهة)، و”مسؤولي” المنظمات، وأهل الاستخبار والاستطلاع، حمل الحياء هؤلاء على غض النظر غضاً أشبهوا جراءه العميان في مرقصهم، على قول عارف العارف.
وإلى المزايا هذه كلها، مزمنها وطارئها العابر، يجمع شيعة أهل البقاع مزية اعتقادية تميزهم من اخوانهم وأقرانهم العامليين ومن أهل بلاد بشارة هي التعلق بأهداب تصديق الكرامات، ورؤى الأولياء (مزعومين ومثبتين)، والنذور والكتب والأحجبة. فهم زوار مقامات وأشجار ملتفة ووارفة الأغصان، غير بعيد من الينابيع والسواقي، وعند أطراف الضيع والقرى (السابقة)، وملتقاها مع الأخرجة وأراضي الزرع. وهم معلقو خِرَق ملونة على أطراف الأغصان، “تسبل” مع الريح مثل السنابل (لغة) أو مثل شعور العذارى المتموجة أو ذيول الخيل في مخيلة طلال حيدر. وهم مضيئو شموع حول المراقد، وعلى شبابيك الأضرحة ومداخلها وأطراف الأسقف، وفي جذوع الشجر وأحضانها الأنثوية من غير تشبيه ولا افتئات.
وهذا قد يترجم في لغة “العلم” – لغة العلماء المعممين المتكاثرين تحت لواء الشيخ محمد يزبك بعد قلة وفاقة طويلتين ومشهودتين، أو لغة علم التقدميين العقلانيين – فيقال ان عامة شيعة البقاع يميلون الى الأخذ بالتقاليد والعادات الموروثة والضعيفة (الأسانيد طبعاً)، والى المشي في ركاب أدعياء الولاية والولايات والرئاسات والمشيخات والسيادات. وقد يرى ناس ان القولة هذه تعم، ظلماً جماعات متفرقة لا يد لها فيما ينسب إليها وتحمل عليه. وقد يرى غيرهم ان سوء طالع القوم جمع عليهم عوامل دهمتهم على غفلة منهم. ولا يبعد ان يذهب فريق ثالث الى ان حسن طالع شيعة البقاع هو الذي جمع لهم، وليس عليهم، موارد الأنعام التي جمعها، وولدت، متضافرة، الحزب الشيعي و”المنصور”.
عموم “اللبنان”
على أي وجه وُصل بين الجمهور النازل بساحة رياض الصلح، والمخيِّم والمتظاهر بها، وبين التظاهرات “المليونية” تنديداً بـ”اليزيديين”، في المرج البعلبكي قبل عشرين عاماً، ومن أي طريق انتُهي من هذه الى تلك، فما لا شك فيه هو ان البيئة والوسط “المليونيين”، البقاعيين الشيعيين، كانا مصدر الأمناء العامين الثلاثة الأوائل لـ”حزب الله”. ففي غضون الأعوام التسعة أو العشرة بين 1982 – 1992 توالى على رأس المنظمة الأهلية المقاتلة، معممٌ استعار، بعض الوقت، شهرة آل الأمين، وتستر بها على شهرته، آل السيّد (مثل المدير العام السابق للأمين العام). وهذا من أدب القصص القبلي العربي، وشطّاره، وليس من أدب الأعيان و”السادة” وأهل المراتب. وخلفه على منصبه معمم آخر هو الشيخ صبحي الطفيلي. وفي “عهده” (1987 – 1990) اقتتل الشيعة اقتتال الاخوة. وهو تقليد قديم فيهم. فيروي الأصبهاني (صاحب “الأغاني”) في “مقاتل الطالبيين” كيف اقتتل العلويون، المتحدرون من أمير المؤمنين، والجعفريون، من ولَدِ جعفر بن أبي طالب “الطيار”، في جبال فارس وأعاليها، “حتى كاد يفني بعضهم بعضاً”. وفي عهده، غلب “حزب الله” على الضواحي، وحصر أنصاره ومقاتلوه “امل” في أنحاء قليلة منها. وشيئاً فشيئاً أخرجوا مقاتليها من جنوب لبنان بعد ان استنزفهم قتال المخيمات الفلسطينية وحربُها، في بيروت وصيدا وصور، بالإنابة عن القوات السورية.
وتولى السيد عباس الموسوي، خلف الطفيلي على أمانته، إدخال منظمته لبنان (اتفاق) الطائف على النحو الذي تدخل السياسة السورية الأسدية ما تدخله، فتلتزم قسطاً ضئيلاً مما زعمت التزامه، وتطلق العنان لـ”تأويلها” الشطر الأعظم من الالتزام المفترض. فكان الأمين العام الرابع، حسن نصر الله، أول جنوبي يتصدر المنظمة الأهلية والإسلامية المقاتلة. ومن غير تحجير نسبة الجنوبي على مثال أو معنى ثابت ومستقل عن أحوالها وملابساتها، هو جنوبي على صورة غلبت عليها ثقافة الشيعة البقاعيين، بين بعلبك والهرمل وبلدات السفح الغربي.
والحق ان الثقافة الحزب اللهية، لم تبرأ من مهدها البقاعي الشرقي الشمالي، الى يومنا، على ما يبين “الاعتصام الجماهيري المفتوح”. والبرء (في: لم تبرأ) لا يترتب على العدوى “الجرثومية”. والانتساب الى البقاع الشرقي الشمالي، وإلى خليطه الاجتماعي والثقافي، ليس آفة، بديهة. والحق ان البقاع وخليطه مثّلا باكراً على الحال التي صار إليها اللبنانيون، وصارت إليها مجتمعاتهم، وأوعية جماعاتهم الأهلية، غداة دخولهم حروبهم. وقد يصدق البقاع هذا كناية عن تصدع مجتمعات اللبنانيين (على مقادير متفاوتة ومختلفة) عشية الحروب هذه، وفي اثنائها وغداتها. فالضواحي عموماً – في جوار معظم المدن اللبنانية (طرابلس وبعلبك وصيدا وشتورا وزحلة وحلبا وبيروت)، وفي قلب بعض المدن، مثل جبل طرابلس وحارة صيدا ولجا بيروت – قبل التهجير الكبير في 1970 – 1990 وبعده، هذه الضواحي معاقل اجتماع تحصل من تصدع المراتب التقليدية السابقة، ومن اختلاط اهلها وخسارتهم أركان علاقاتهم وانقساماتهم وتمايزهم وتخاطبهم؛ وهي اركان وحدتهم، من وجه، وأركان منازعاتهم وتحكيمهم فيها، من وجه آخر.
وما خبره شيعة البقاع الشرقي الشمالي، وخبرته من بعدهم مجتمعات اللبنانيين الأخرى، إبان الحروب المتعاقبة عليهم وعلينا، من عطالة أعمال ومهن، ومن انحراف موارد وعلاقات، واضطراب مصادر وأحوال، وتقلب علاقات وولاءات، لم يُبقِ لهم (ولنا) حتى على لحمات عصبية متآكلة. والحق انهم لم يكونوا إلا رواد هذه الخبرة. فهذه عمت أجزاء واسعة من المجتمعات الأصلية. فتناهشت الولاءاتُ الطارئة والمتقلبة، وهي انقلبت موارد تعيّش وارتزاق كفاف، العصبيات الموروثة والثابتة والعلاقات الاجتماعية المحدثة. وضعفت الحمايات والحصانات. وأسلم ضعفها الناس، أفراداً وجماعات، الى اعتقاد سلطان غيب لا راد لإنعامه ولا لنقمته. وتولت المناوشات والاشتباكات وأعمال الخطف والاحتجاز والسرقات والاغتيالات – ونسمي هذه “حروباً” على سبيل التفخيم، وندرجها تحت باب “الأهلية” تسويغاً وعقلنة تاريخية، وتستراً على اللاعبين والمقامرين وأولي الأمر والنهي – تولت هذه تحطيم الروابط الاجتماعية والأهلية على أنواعها. وما اضطر إليه الاقتلاعُ والنزوح واللجوء والشتاتُ (النازحين أو العائدين) الفلسطينيين، وبلورته منظماتهم وحركاتهم الأهلية و”السياسية” أبنية أو رسوماً مضطربة، استعاده اللبنانيون في أوعية جماعاتهم، على رغم بُعد الشقة بين المجتمعات اللبنانية والمجتمعات الفلسطينية.
وفي الأثناء، أرادت المنظمات السياسية (والعسكرية الأمنية) استيعاب المتساقطين من هيئات الاجتماع، وأجسامه المتخلخلة في أجسام أخرى بديلة. وساقها توهمها امتلاك سلطان عظيم ونافذ على المجتمع الى حسبان أنها هي الأجسام البديلة.فهي جمعت في بنياتها، وفي عملها، صورة الحزب السياسي “الحديث” (أو المحدث)، وعلى وجه التخصيص مركزيته القيادية، وإرساء المركزية على بيروقراطية محترفة ومأجورة (لقاء أجر)، جمعت هذه الصورة الى ولاء عصبي قوي وخالص. ويدمج الولاءُ “الأمر” (السياسي) في لحمة اجتماعية ومعاشية ليست أقل قوة من عصبية الولاء. ولكن المنظمات والحركات والأحزاب، واليوم التيارات، قصرت تقصيراً بالغاً عن مزاعمها، وعن مطمحها في القيام مقام اجسام اجتماعية تامة. فهي لا تملك القوة المادية ولا المعنوية التي تخولها إنشاء مجتمعاتها إنشاء جديداً ومستأنفاً. ومثل هذا الإنشاء يفترض أمرين لم يتوافرا في الحال اللبنانية: الاقتلاع الكامل تقريباً، على الشاكلة الفلسطينية خارج الضفة الغربية وغزة، واشتراك النواة الحزبية والقيادية مع جمهورها وقاعدتها في معتقد شامل واحد، وفي قبول قيم جامعة واحدة.
الأنقاض جسماً معصوماً
لم يتوافر شطر راجح من الشرطين إلا للنواة الخمينية التي “تطورت” الى “حزب الله” في لبنان (وعليه). فهي وحدها وسعها الكتابة على ما أشبه “الصفحة البيضاء”، والبناء على أنقاض مجتمع سابق وبقاياه. فورثت من تضافر “الكفاح الفلسطيني”، المسلح و”المدني”، و”النضال الوطني” المحلي والأهلي، و”الرعاية” السورية الأمنية والعسكرية، ورثت من تضافر هذه العوامل على تناهش اللبنانيين وتقاسمهم حصصاً ومغانم، انقاضاً وأوصالاً مقطعة. فأنشأت النواة الحزب اللهية، في كنف سوري تحول من التحفظ الى حضانة معجبة وربما منبهرة، من أنقاض التشيع اللبناني، وجماعاته المتفرقة، جسماً متماسكاً. ودمجت في كل وجميع وجوهاً تفرقها الدولة عادة: دمجت لحمة الجماعة الأهلية باللحمة المذهبية والولاء المرتبي (“السياسي”) والجسم “العلمائي”، ودمجتها في الكيان التمثيلي الوطني، والسند الاجتماعي، والقاعدة الإقليمية. وسيرورة الدمج، على هذا النحو، لا تتم ولا تبلغ غايتها، إلا في الذهن، وفي لحظات قليلة. فهي تقتضي، ويقتضي بلوغها حداً بعيداً من الاختلاط والمزج تخليص العوامل كلها، واحداً واحداً، من ملابستها دوائر اخرى مشتركة مثل السكن والعمل والتعلم والمعتقدات والصداقة والذوق وغيرها.
والتخليص على هذا المقدار من “المفاصلة” أو “الهجرة”، على قول سيد قطب ومريديه من الجماعات و”القواعد” الإسلامية والجهادية، يخالف إرادتها السياسية المعلنة الاستيلاءَ على الدولة والمجتمع، ودمجهما في واحد. وهذا محال إلا اذا عمت عاشوراء وكربلاء، أي المعنيان والكنايتان، “الأرض ومن عليها”. وتصوّر هذا على لسان احدهم “عيداً شعبياً”.
وينجز “الاعتصام الجماهيري المفتوح” (بعض) هذا البرنامج الإنجاز الذي يليق به، ويقدر عليه. فنواة جمهوره هي من المراهقين والفتيان المحترفين والموقوفين على التظاهر و”الاحتفال”. وتتقاسم حياتهم وأوقاتهم ومشاغلهم دوائر أو مسارح لا تتساوى ولا تتكافأ: فالمدرسة أو الورشة أو الدكان مرتبتها ثانوية، وتقتصر على شغل الوقت وملئه. وأما الإعداد والتأهيل الحقيقيان، فهماً وكلمات ومشاعر وروابط، فمسرحهما أو مصدرهما الطريق، والصداقات الحزبية والشللية، والمساجد، والمكاتب، والفقاعة الإعلامية المتلفزة والإذاعية التي تتخلل الهواء وتجري من اللغة وتبادل الكلام والنظر مجرى النفس. ويرث الاعتصام النواة المحترفة هذه من احياء السكن الطرفية والعشوائيات، ومن سكن مضطرب ورجراج يترجح، من غير قرار يقر عليه، بين إقامة موقتة في “المدينة” وإقامة عابرة في البلدة “الريفية”.
وشطر كبير من جمهور الاعتصام، الشاب والفتي، متبطل دراسة وعملاً وكسباً. وهو لا يدين بمواقفه وآرائه ومشاعره الى مصادر الإعداد والتأدب والتثاقف هذه. ولا يدين بها الى حضانة الأهل. فبين الأهل، من جهة، وبين المدرسة ومحل العمل والمرافق العامة والمشتركة، من جهة ثانية، نهض قطاع ثالث سطا على القطاعين او الدائرتين. والقطاع الثالث هذا هو المركب الإداري والأهلي الذي دمج في جهاز ضخم أجزاء من مرافق العمران كلها: البيت والأهل (والعلاقات البيتية والعائلية)، والمدرسة والحركة الكشفية وصحافة الأولاد وتلفزيون الأطفال، ومرافق العمل والتعارف والتزاوج والاستشفاء والإدارة البلدية، الى القتال والموت.
مواكب الحشد السيارة
أطاحت القاعدة الاجتماعية والسياسية العامية (نسبة الى العامة والعوام المتساقطين من “الطبقات” و”المراتب” المستقرة) التي تسلطت على الاجتماع الشيعي الإمامي كله، تماسك الطبقات والفئات والشرائح الأخرى، العاملة والزارعة والمتاجِرة والمتوسطة والمكتبية والمهنية “المثقفة” والموسرة المهاجرة والمالية، من غير استيفاء الإحصاء. فـ(1) جمع مئات الآلاف من “الأمة” المطمئنة، والمطلّقة “القلق” على قول عبدالحسين شرف الدين، في ساحات بعلبك وصور وبنت جبيل والنبطية وبير العبد وحارة حريك والمنشية والمعمورة، ورياض الصلح واللعازارية اخيراً وليس آخراً، و(2) ردهم الى ديارهم المحررة، أو الأقل تحرراً، في مواكب ايام الحشر السيارة، بإشارة (كريمة) من الخنصر أو البنصر، و(3) تشبيه التلقائية والعفوية على الناس انفسهم، وعلى المشاهدين المتفرجين والمراقبين المشدوهين والحيارى – هذه الأمور لا تستقيم من غير إسهام الطبقات والفئات والشرائح الأخرى، الدنيا والوسطى والعليا، في التعبئة العامة التي تشبه يوم الحشر.
وتحقق هذا الزعم، الى العدد المحشور ويسر تجدده، ملاحظةُ المعتصمين والمعتصمات. فمنهم ومنهن من ترك لتوه سيارة الدفع الرباعي المكيفة والجديدة، أو غادر صالوناته وسجادها العجمي، أو حمّل أولاده وبناته حصته المرقمة والمفقطة من الدعم وندبهم الى خدمة المعتصمين وإدارة أو تدبير شؤون الإمداد والتوزيع والتجهيز. ومنهم ومنهن من ينافح بالكلمة والغضب ومجافاة الأصدقاء والأهل عن السياسة الملهمة التي يسوس بها الساسة السادة الملهمون “الخلائق” المرفوعي الرأس والمجللي الهامات بالنور والكرامة.
فعلى هذا، تمحو الوحدة الاجتماعية الماثلة والناجزة والمشهودة، الفروق والحدود المولودة من الحياة الاجتماعية (وتقسيمها العمل والمراتب)، والمتخلفة عن الحياة السياسية (وموازين الجماعات والمصالح والتواريخ). وتحل الوحدة الاجتماعية، المذهبية او المذاهبية المتحدة لا فرق، وهي على هذه الحال من المثول والشهود والمباشرة، محل السياسة والدولة والمنازعات والمداولات. وحين يقول ميشال عون (قبل ان يقطعه فتحي يكن) ان السرايا الحكومية لا محالة ساقطة امام “تمدد” اهل الاعتصام وتكاثرهم وطلبهم مكاناً أوسع، فقوله “السياسي” قرينة على وقوع السياسة، واحكامها المركبة والمعقدة، في وهدة المحسوس الابتدائي والنباتي. وبإزاء “الفكر”المعتصم تبدو الانقلابات العسكرية العربية آية من آيات الأدب والمدنية واللياقة. و”الاعتصام الجماهيري المفتوح” يتولى صرف الحياة السياسية من العمل (والحياة)، وإبطالها. فسيادة هذا الضرب من السياسة، و”العمل” السياسي، مؤداها ومآلها الى اخذ الجماعة امرها بيدها، من غير حاجز يتوسط بينها وبين نفسها، ولو كان الحاجز هذا هو الزمن ومواقيته ولحظاته. فجماعة مثل هذه لا تطيق تفرق الزمن أوقاتاً، ولا تطيق تفرق الجماعة الذائبة (“مثلما ذاب الخميني في الإسلام” على قول محمد باقر الصدر) والمحمومة، افراداً وأشخاصاً. فلا جَرَم (رحم الله ناصيف اليازجي!) إذا هي لم تطق “توسيط” الدولة والحكومة والمجلس النيابي والأعراف والقوانين، وحسبت الديموقراطية سيراناً مسترسلاً، وإناخة بموضع خلاء.
فالسلف العربي المنيخ بأرباض المدن وعلى أبوابها، والحاجز بينها وبين أرضها وزراعتها وتجارتها، كان يسمي ما يصادر أهلَ المدن عليه وينتشله، عنوة وقسراً، كان يسميه “خوة”، أي ضريبة المؤاخاة والمودة والمحبة. ولا يرى غضاضة في ذلك. وعندما ينظر اهل الاعتصام، والعصمة، الى جمعهم “المليوني” ماثلاً، وتاماً متمماً، لا يساورهم شك في ان التاريخ بلغ تمامه السياسي والأخلاقي فيهم وبهم.
(النهار)