لم يستطع صديقي “المسيحي” من مدينة النبطية إخفاء مسحة الحزن التي اعترت صوته أثناء حديثه عن ذكريات طفولة أمضاها في كنف عائلته التي كانت تقيم في الحارة المسيحية في مدينة النبطية. صديقي ينتمي إلى إحدى أوائل العائلات الكاثوليكية التي أقامت في الحارة المسيحية في النبطية منذ ما قبل عام 1860 كما تشير سجلات القيد في المدينة.
ويشرح صديقي: “لقد انقطعت عن زيارة الحارة نهائيا منذ ما بعد حرب تموز 2006. أحس أن شيئا مبهما ليس بمقدوري وصفه قد سلخني عنها، وأن أمورا كثيرة قد سلختنا عنها كمكان. لم نعد ننتمي إليها، بل لم تعد حارتنا تنتمي إلينا. لا أحد يمنعنا من الذهاب إلى هناك، لكن الأجواء في المدينة تبدلت كثيرا وفقدنا مشاعر تحفزنا على العودة أو مجرد الزيارة. لم تعد حارتنا كما كانت، ولا المدينة كذلك. فقد تغير كل شيء، هناك جو من الرهبة يسرق منا الإحساس بالأمان ويفقدنا الشعور بأننا أبناء هذه المدينة. ثمة نظرة مريبة تلاحقنا، تشعرنا في كل لحظة أننا “دخلاء”.
يتابع صديقي: “كنا فيما مضى نعتبر أنفسنا جزءا أصيلا من مكونات المدينة. لم تكن لغة “هم” و”نحن” قد ظهرت بعد. أذكر أن جدتي كانت تقيم في منزلها مجالس العزاء الحسينية، وكانت نسوة الحارة المسيحيات يشاركن في إعداد “الهريسة” يوم العاشر من محرم مع جاراتهن الشيعيات، وكانت المدينة بأكملها تشاركنا في إحياء احتفالات وقداديس عيدي الميلاد والفصح. لم يكن بيت في النبطية يخلو من شجرة ميلاد. حتى أن جارتنا التي تأخرت كثيرا في الحمل، صارت تأتي وزوجها إلى الكنيسة كل “أحد” تضيء الشموع على المذبح وتنذر النذور للسيدة العذراء. وحين استجابت السيدة العذراء لنذورها، ووضعت طفلتها الأولى أطلقت عليها اسم “كريستينا”. ويتابع: ما زلت إلى الآن أحتفظ بصورة أول قربانة لي في “كنيسة السيدة” في “الحارة”، والتي شاركني في تناولها رفاقي “مصطفى وصادق وزاهر”، ورددنا جميعنا خلف المطران “أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد”. ظننت حينها أنني سأعيش إلى الأبد مع رفاقي في حارتي الوادعة، لكن ما أبعد اليوم عن البارحة. فقد نزل علينا من السماء، أو خرج من الأرض، ما فرّقنا وغرّبنا وباعد ما بيننا المسافات”.
الهجرة القديمة
يروي سكان الحارة المسيحية في النبطية أن شبح “الهجرة” بدأ يخيم على “الحارة” أيام السلطنة العثمانية. حينها هاجر عدد كبير من أبنائها هربا من بطش الولاة العثمانيين وتفرقوا في أصقاع الأرض، واستوطن أغلبهم في بلاد أميركا اللاتينية. بعد رحيل العثمانيين عادت “الحارة” ولملمت أشلاءها ووفدت إليها عائلات جديدة أتت من الساحل ومناطق جزين وجبل لبنان، واندمجت سريعا مع عائلات “الحارة” الأساسية ومجتمع المدينة. وكان معظهم من الصاغة وأصحاب الحِرف إضافة إلى المزارعين، منهم من استصلح الأراضي وقام بزراعتها، ومنهم من نقل حرفته ومهنته إلى سوقها التجاري، فشكلوا حينها عصب المدينة الإقتصادي.
في أوائل السبعينات كان عدد منازل الحارة المسيحية في النبطية قد تجاوز 75 منزلا مأهولا. كانوا يمارسون حياتهم العادية وطقوسهم الدينية دون خوف أو إزعاج من أحد، ويشاركون بفاعلية في كل المناسبات والإستحقاقات الوطنية إلى جانب إخوانهم من الأكثرية الشيعية. ولا ينسى جيل الخمسينيات في المدينة وجوارها “مكتبة القسيس” التي أنشأها الإنجيلي “وديع أنطون” في المدينة، والتي أتاحت للمتعلمين والمثقفين التزود بما يحتاجونه من العلوم والمعارف المطلوبة، ونزاهة المربي والمفتش التربوي “أنطون الصائغ” وإنسانية الطبيب “وديع الغفري”.
ورغم ما مر على لبنان من حروب أهلية ونعرات طائفية، ظلت أجواء التناغم والإنسجام الأهلي مخيمة على مجتمع النبطية وحاراتها. ولم تسجل فيها أية حادثة أمنية بدافع طائفي أو حزبي، ولم يجد المسيحيون أنفسهم مضطرين لدفع ضريبة الإنقسام والرحيل عن “حارتهم”. بل، على العكس، فقد استضافوا في منازلهم خلال الحرب الأهلية عددا من العائلات التي نزحت من مناطق التماس في بيروت.
علماً أن فترة السبعينيات قد سجلت حادثتي خطف وقتل مروعتين في الحارة المسيحية، أصابتا عائلتي (عبود وشاهين) قامت بهما المنظمات الفلسطينية التي كانت تسيطر على المدينة. لكن الحادثتين لم تدفعا باتجاه هجرة العائلات المسيحية فقط بل شملت عائلات شيعية أيضا.
ولا شك أنها لمفارقة غريبة أن تقترن عودة أهالي النبطية إلى مدينتهم بدخول الإسرائيليين محتلين عام 1982. لكن شهر العسل لم يدم طويلا. فتاريخ الإنسحاب الإسرائيلي عام 1985، من مناطق واسعة في الجنوب انعكس وبالا على مدينة النبطية وحارتها المسيحية بالذات، حيث تمركز الإسرائيليون حتى عام 2000 على التلال المحيطة بالمدينة والمقابلة للحارة المسيحية وحولوها إلى خط تماس ساخن، وصاروا يقذفونها يوميا بحمم نارية دكت منازلها وخربتها، وقضت فيها على الشجر والحجر وهجرت البشر. وخلت المدينة، كما “الحارة” المسيحية، من سكانها الذين توزعوا على المناطق اللبنانية المسيحية!
بعد “التحرير” وعودة الإستقرار الأمني، عاد أهالي النبطية مرة أخرى إلى مدينتهم. “لكن سكان الحارة المسيحية لم يعودوا بعد”، والكلام هنا لصديقي “المسيحي”.
فغياب المسيحيين في تلك الفترة عن الحارة جعل بعض المهجرين من المناطق اللبنانية الأخرى يستولون على منازلهم أو ما يعرف بمصطلحات الحرب الأهلية اللبنانية (يحتلونها). وبما أن المحتلين ينتمون إلى أحزاب دينية مهمينة ،هيمنوا مثل أحزابهم على بيوت الحارة ،ولم يستطع المالكون المسيحيون استعادة بيوتهم منهم، بسبب عامل الخوف والتهم الجاهزة، ولأسباب مادية أيضا. فأغلب المحتلين يطالبون المالكين بدفع تعويضات باهظة وإلا فهم مقيمون إلى الأبد، ولذلك فضّل من لا يملك المال للدخول إلى المحاكم، أو جرأة الإعتراض على الأمر الواقع، ترك الحارة إلى غير رجعة. فيما قام آخرون ببيع منازلهم وأراضيهم بعد فقدانهم الشعور بالأمان. ويسكن الحارة حاليا 11 عائلة مسيحية فقط، تخضع لشتى الضغوط النفسية والسياسية الخفية والعلنية أحيانا كثيرة. كان آخرها بناء مسجد ذي طابع حزبي وسط الحارة، يزاحم جرس كنيستها في دعوة المؤمنين إلى الصلاة! يشرف عليه أشخاص مقطبو الوجوه لا يكفون عن مضايقة من تبقى من السكان ويبثون ليل نهار عبر مكبرات الصوت المثبتة على سطحه الأدعية والأناشيد الدينية الخاصة.
الشيخ صادق حاول.. ولم يلقَ أذاناً صاغية
يذكر أن الجهات الرسمية و”قوى الأمر الواقع”، التي تولت عملية دفع التعويضات لأهالي مدينة النبطية، إن كان بعد “التحرير” أو بعد حرب تموز، استثنت منها مسيحيّي “الحارة” وحولت المبالغ لصالح محتلي منازلهم، ما خلف جملة من التساؤلات والإعتراضات لدى سكان “الحارة” الذين استنجدوا بإمام المدينة الشيخ عبد الحسين صادق.
لكن محاولات الشيخ فتح هذا الملف وإرجاع الحقوق لأصحابها باءت كلها بالفشل، ولم تلق مطالباته المتكررة بإنصاف المسيحيين آذانا صاغية عند المعنيين.
ويختم صديقي: يتغنى حزب الله أنه يترك دائما مقعدا شاغرا على لائحة الإنتخابات البلدية في المدينة، ويوعز إلى مناصريه بالتصويت للمرشح المسيحي الذي يكون قد اختاره مسبقا. لكن المرشح المسيحي الفائز لا يمثل أبدا مسيحيي المدينة وإن حصل على أعلى نسبة من الأصوات، لأنه غالبا ما يكون أحد حلفائهم من فريق 8 آذار. هذا لا يعني أن مسيحيي النبطية ينتمون إلى فريق 14 آذار، لكن مما لا شك فيه أنه لا يمكن لمسيحي في مدينة كالنبطية أن يترشح للإنتخابات البلدية وهو خارج سرب 8 آذار،ولا أحد يملك الجرأة على ذلك. فنصف سكان الحارة أبكم، والنصف الآخر أصمّ، والنصفان ينظران بعيون مفجوعة إلى ما يحدث!
*
أهالي حارة المسيحيين بالنبطية “نصفهم أصمّ، ونصفهم أبكم، وكلّهم مفجوعونانها ايران التي تبث السم بين جميع الطوائف وتناصر طائفة دون الاخرى لن تكن الطائفية موجودة في قاموسنا حتى نحن السوريين. الا انها عادت وخصوصا بعد وقوف حزب الله وايران الى جانب بشار ضد الشعب السوري وتنكرهم لضحاياهم ومعتقليهم. بقد بدأ الشعب السوري يفهم اللعبة الايراانية والتي تهدف الى قيام دولة فارس الكبرى بالتواطؤ مه نظام الاسد في سوريا. الخاسر الاكبر فيما يجري في سوريا هو أكيد حزب الله. فقد خسر القاعدة الشعبية التي كانت تسانده وتقويه وان نجحت الثورة فأول ماسنقوم به هو قطع الامدادات عن هذا الحزب ودعم الاحزاب… قراءة المزيد ..