في العام 1973 اقتحم لصوص أحد المصارف في ستوكهولم، واحتفظوا بعدد من موظفيه كرهائن مدة ستة أيام. الغريب في الأمر أن الرهائن رفضوا بعد تحريرهم تقديم شهادات في المحكمة ضد الخاطفين، وأعربوا عن التعاطف معهم.
بعد ذلك التاريخ بعام واحد اختطفت جماعة راديكالية متطرفة في الولايات المتحدة وريثة إمبراطورية إعلامية تدعى باتي هيرست. والغريب في الأمر، أيضا، أن هيرست انضمت إلى خاطفيها، اعتنقت أفكارهم، وسطت معهم على مصارف، والتقطت كاميرات المراقبة صورها وهي تحمل السلاح في عمليات السطو المسلّح تلك.
وقد بدأ الباحثون في علم الإجرام، والمختصون في علم النفس، منذ ذلك الوقت، في دراسة الظاهرة، التي وصفناها بالغرابة. وفي سياق الدراسة والتحليل نشأ ما سيُعرف لاحقا في حوليات علم الإجرام والنفس باسم “عقدة ستوكهولم”.
وهي حالة تتجلى فيها مظاهر مختلفة لتماهي الضحية مع الخاطفين والسجّانين إلى حد التعاطف معهم، وتبني أفكارهم. وحسب معطيات لمكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة فإن أعراض عقدة ستوكهولم تظهر على سبعة وعشرين بالمائة من ضحايا الاختطاف والعنف.
في تفسير الظاهرة المعنية يقول المختصون إن وقوع الضحية تحت رحمة الخاطفين، والإحساس بأنهم يملكون قرار الحياة والموت، والاعتماد عليهم بشكل مطلق، والعزلة عن الآخرين وعن العالم الخارجي، وما يُظهره الآسرون من عوامل الرحمة، أو الشفقة، تمثل مجتمعة ديناميات نفسية تقود في نهاية المطاف إلى التماهي معهم، وتبني قضيتهم.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بقصة ابن أحد قادة ومؤسسي حركة حماس في الضفة الغربية، فإن التماهي يبلغ حدا غير مسبوق. في المقابلة، مثلا، التي نشرتها “هآرتس” يقول الابن (الذي أسمته أجهزة الأمن الإسرائيلية بالأمير الأخضر) بأنه يود لو ارتدى زيا عسكريا والتحق بالجنود الإسرائيليين لتحرير شاليط في غزة. كما يلاحظ الصحافي الإسرائيلي، الذي أجرى المقابلة، بأن الشخص المذكور يتكلّم بضمير الجماعة، يقول “نحن” ويقصد بها أجهزة الأمن الإسرائيلية.
هذه، في الواقع، حالة فريدة من التماهي، ويمكن أن نتصوّر أن كافة الديناميات الفاعلة في تكوين “عقدة ستوكهولم” قد توّفرت في وقت ما، في الأيام والأسابيع الأولى التي تلت اعتقال الشاب الذي أصبح بعد التحقيق معه في السجن عميلا لسلطات الاحتلال، وأدى خدماته بحماسة لم تفتر على مدار عقد من الزمن، ولم يخجل مما فعل، بل أصبح ما فعل مادة لكتاب سيصدر في مطلع هذا الشهر، ومُحرّضا على إجراء مقابلات كثيرة.
يختلف الوضع، بطبيعة الحال، بين أشخاص تعرّضوا للاختطاف، وآخرين تعرّضوا للاعتقال. ومع ذلك لا ينبغي التقليل من أوجه التشابه وما يتعلّق منها بالضغوطات النفسية، والعزلة، والوقوع تحت رحمة الآسرين والسجّانين، والخوف على الحياة، أو محاولة إنقاذ أفراد من العائلة تبدو حياتهم معرّضة للخطر، ذلك كله في سياق تظاهر الخاطفين والآسرين بالشفقة، والتعامل مع الضحية بقدر محسوب من الإنسانية.
وما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أن التصعيد الأيديولوجي يمثل أعلى درجات التماهي. فالضحية لا يتماهى مع خاطفيه وسجّانيه لأسباب مادية، بل يُمارس نوعا من التأويل ليصبح الانتقال من خندق إلى آخر، ومن قناعة إلى أخرى، نوعا من التسامي، وتعبيرا عن هدف نبيل.
كل هذه الأشياء حيل شعورية تنطوي على دلالات تراجيدية مؤلمة، لأن ضحاياها أشخاص وضعتهم أقدار عاتية على مفارق طرق مُفزعة، وسلبتهم القدرة على التحكّم في المصير الفردي، أو تأمل الخيارات استنادا إلى حرية الإرادة لا إلى ما تبقى من حدود بيولوجية دنيا لغرائز البقاء.
بيد أن عقدة ستوكهولم لا تكفي وحدها لتفسير ذهاب شخص في لعبة التصعيد والتسامي إلى حدها المُتطرف الأقصى. في سياق الحرب الباردة، مثلا، تحوّل أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أحد المعسكرين إلى عملاء للمعسكر الآخر، وفعلوا ذلك لأسباب أيديولوجية مثل كراهية النظام الشيوعي في حالة العملاء الروس، أو كراهية النظام الرأسمالي في حالة العملاء الأميركيين. لم يتعرّض أولئك الأشخاص للاختطاف أو السجن، بل تراكمت في أذهانهم وقلوبهم مشاعر وتجارب حسمت أمر انتقالهم إلى المعسكر الآخر، وعززت لديهم مشاعر الانتقام.
ويبدو أن الكثير من المشاعر والملاحظات السلبية تراكمت في ذهن ونفس الشخص المعني. ففي مقابلة متلفزة أجراها في العام الماضي، وتكلّم فيها عن أسباب اعتناقه للمسيحية، ذكر جلسات التحقيق التي شهدها في السجن، وكيف تصرّف أفراد من حماس بطريقة عنيفة ولا إنسانية إزاء سجناء آخرين. كما استبعد في المقابلة المنشورة في “هآرتس” إمكانية أن يقبل “إله المسلمين” بالسلام مع اليهود.
لن يأخذ عاقل أفكار شخص يتكلّم عن السلام، والقيم الإنسانية، على طريقة الأم تيريزا، دون تاريخها ومؤهلاتها، على محمل الجد، خاصة بعدما وصل إلى حد غير مسبوق من التماهي والتصعيد، فاختلطت لديه دلالة الأنا الفردية لفلسطيني نشأ في ظل الاحتلال، بدلالة النحن الجمعية لأجهزة الأمن الإسرائيلية، أي الأداة الساهرة على حماية وتأبيد الاحتلال.
كل ما في الأمر أننا أمام حالة فريدة لشخص انتقل من النقيض إلى النقيض في كل شيء. وهذه حالة تستحق الدرس والتحليل بمعطيات علم النفس، وبما يمكن تسميته بعلم نفس الاحتلال، أي بما تتركه ظاهرة الاحتلال من آثار نفسية عميقة، وبعيدة المدى، ظاهرة وخفية، وما تخلقه من تشوّهات سلوكية، وديناميات دفاعية، وحالات نكوص، لدى أفراد ومجتمعات وقعوا في قبضة الاحتلال. وهذا درس من دروس أمير حماس الأخضر، وعقدة ستوكهولم.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
أمير حماس الأخضر وعقدة ستوكهولم..!!
وهل حقا يقبل اله المسلمين السلام مع اليهود!!
عقدة ستوكهولم والامير الاخضر
هذه المقالة أفضل ماقرأت عن هذا الموضوع على الاطلاق.