ما هي الدروس التي يمكن أن يخرج بها العرب من الكارثة السورية؟
تعتمد طبيعة الدروس على المقصود بالعرب. فالدروس التي تستخلصها الأنظمة القائمة تختلف، بالضرورة، عن تلك التي قد تستخلصها جماعات الإسلام السياسي، “الهارد كوبي”، و”السوفت الكوبي”، وتختلف، أيضاً، عن تلك التي يمكن أن يستخلصها العاملون في الحقل الثقافي، على اختلاف تحيّزاتهم الأيديولوجية والسياسية.
ولنقل، في البداية، أن ثمة بعض الدروس العامة، التي لن يتمكن أحد من تجاهلها. ولعل أبرزها أن المحلي لم يعد محلياً، تماماً، في زمن العولمة. فالعوامل المحلية والإقليمية والدولية أصبحت على قدر من التداخل، في كل مكان من العالم، إلى حد يستحيل معه فصلها، وإغلاق المنافذ المؤدية من جانب إلى آخر، وفي الاتجاهين. وإذا كان التداخل قد أصبح سمة سائدة، فإن أكثر تجلياته وضوحاً مرشحة للظهور في كل منطقة تراخت فيها سلطة الدولة المركزية.
أما الدروس الثاني، وفي العام أيضاً، فيتمثل في حقيقة أن بقاء هذا النظام أو ذاك، خاصة في مناطق تعيش تحوّلات راديكالية غير مسبوقة (كالشرق الأوسط) مشروط لا بمدى شرعيته، وقوّة قبضته الأمنية والعسكرية على الأرض، وحسب، ولكن بتحالفاته السياسية والأمنية، أيضاً، ومدى قدرته على تأمين حماية خارجية سياسية ودبلوماسية يمكن أن تتحوّل إلى عسكرية إذا استدعى الأمر.
والدرس الثالث، وفي العام أيضاً، أن ظاهرة الميليشيات الجوّالة، والجيوش الخاصة، تدل على دخول عصر جديد من الصراع بين الدولة (مطلق دولة) ومعارضيها نتيجة تداخل المحلي والإقليمي والدولي. وقد أسهم هذا التداخل في الشرق الأوسط في تعزيز ظاهرة الميليشيات الجوّالة، والجيوش الخاصة، العابرة للحدود والقوميات. ولا يبدو أن ملامح العصر الجديد ستختفي من المشهد في وقت قريب.
أما في الخاص، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأنظمة القائمة، فأقرب الدروس، على الأرجح، يتمثل في ضرورة عدم التهاون مع كل احتمال للمعارضة، حتى وإن استدعى الأمر الفتك بالمعارضين الحقيقيين والمحتملين والمُتوهّمين. وعلى الرغم من حقيقة أن عدداً لا يحصى من الأنظمة القائمة لا يتورع عن إلصاق صفة الإجرام برأس النظام السوري، إلا أننا لا نستبعد وجود بعض الحكّام الذين يحسدونه على التصلّب والعناد، وعدم تقديم التنازلات، وشن الحرب على شعبه في سبيل البقاء. وفي سياق كهذا من المُرجّح أن تزداد قبضة الدولة الأمنية ثقلاً، في مناطق مختلفة من العالم العربي، مع تزايد للشعبوية، وتفشي نظريات المؤامرة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالإسلام السياسي، فإن نسخة “السوفت كوبي” منه (يتكلمون عن “الديمقراطية”، والمعارضة السلمية، والتدرّج في الأسلمة) فإن الدرس الأهم يتمثل في ضرورة تفادي كل شبهة للتماهي مع السلفيات الجهادية، ولكن دون مجابهتها على الأرض. أما “الهارد كوبي”، أي السلفيات الجهادية فمن المتوقع (بعد هزيمتها في العراق وسورية) أن تكرر محاولة الاستيلاء على مناطق في كل مكان ضعفت فيه سلطة الدولة، ويصعب التكهن بما قد تستخرجه من دروس.
ولعل في كل ما تقدّم ما يأخذنا إلى الدروس المحتملة، التي يمكن أن يخرج بها العاملون في الحقل الثقافي، من الكارثة السورية. وبقدر ما أرى الأمر، فإن دخول الإسلام السياسي، بنسختيه، على خط المجابهة بين قطاعات واسعة من السوريين ونظام آل الأسد قد أفسد المجابهة، وعرقل إمكانية الفوز، والأسوأ من هذا كله أنه شوّه المضمون الحقيقي للثورة السورية، من انتفاضة شعبية ضد نظام دكتاتوري إلى حرب أهلية طائفية. ولم يكن لدخول كهذا، وبهذه الكيفية، أن يكون ممكناً لولا تداخل المحلي والإقليمي والدولي في سورية.
وعلى الرغم من حقيقة أن التداخل المذكور يجعل من الصعب على القوى المحلية، في هذا البلد أو ذاك، ضبط حجم التداخل، أو الحيلولة دون تدخّل أطراف إقليمية ودولية، إلا أنها قد تُسهم في تغطية التدخل الخارجي، وتضفي عليه ما لا يستحق من الشرعية. وبهذا المعنى تقع مسؤولية أخلاقية وسياسية على عاتق الجناح الأكثر دراية بشؤون العالم في المعارضة السورية، الذي غض الطرف، في نشوة الأشهر، والفصول، الأولى، عن مخاطر الكرم المفاجئ لقوى إقليمية. ولكن هل كان في وسع هؤلاء، في حينها، إدراك الدلالة السياسية والاستراتيجية لذلك الكرم، وما قد ينجم عنه من كوارث محتملة؟ هل فكروا أن ذلك الكرم سيسهم في تحويل المجابهة مع آل الأسد من ثورة ديمقراطية على نظام مستبد إلى حرب أهلية بين سنّة وشيعة؟
ثمة أكثر من جواب، في هذا الشأن. والحكمة بأثر رجعي غير مفيدة، في كل الأحوال، إلا إذا وظفها الناس في الحيلولة دون تكرار أخطاء الماضي. وبهذا المعنى فإن المسؤولية الأخلاقية والسياسية للعاملين في الحقل الثقافي تتمثل في الشجاعة في قول الحقيقة، لا أكثر ولا أقل.
قول الحقيقة لا يغيّر الكثير في زمن التحوّلات الفيضانية، ولكنه يُسهم في الحيلولة دون ضياع أو فساد المعنى. وهذا ما ينبغي أن يُقال اليوم: مسؤولية الكارثة السورية تقع، في المقام الأوّل، على عاتق نظام آل الأسد، وفي المقام الثاني على عاتق جماعات الإسلام السياسي، وفي المقام الثالث على عاتق القوى الإقليمية والدولية التي تدخّلت في سورية للدفاع عن النظام أو لإسقاطه، وفي المقام الرابع على عاتق الجناح الأكثر تنوّراً في المعارضة السورية، الذي فشل في إدراك المخاطر الحقيقية لتداخل المحلي والإقليمي والدولي، وحقيقة الأجندة الطائفية للاعبين الإقليميين. وفي هذا أكثر من درس.
khaderhas1@hotmail.com