جديد في رسم الجبهة
إن اعتمدنا الحالة اللبنانية مثالا، لاحظنا أن ما ينذر اليوم بشر مستطير فيوشك أن يمزق البلاد وأن يودي بأهلها إلى التهلكة من مواجهة تغلب عليها الصفة السنّية الشيعية إنما هو أمر جديد كل الجدة. فقد جرت العادة، من يوم أن نشأ لبنان المعاصر، أن ننظر إلى مجتمعه على أنه مخترق بخط إجمالي فاصل وواصل ما بين المسلمين والمسيحيين. حين كان اللبنانيون ينظرون إلى هذا الخطّ على أنه خطّ واصل كانوا يرون أجلّ القيم المؤسّسة لوطنهم ولمجتمعهم راسية عليه. وحين كانوا ينظرون إليه على أنه خطّ فاصل كانوا يعتبرون أشدّ مشكلاتهم خطرا معتملة بين ضفتيه.
وقد بلغ هذا الخط من قوة الرسم مبلغا جعل اللبنانيين مجبرين على إطالة التحديق وعلى الجنوح إلى ما يشبه التوهم كلما أرادوا أن يتبينوا لأنفسهم هوية جامعة تشتمل على ضفتي هذا الخط. وكان عسيرا عليهم أيضا أن يتبينوا خطوطا أخرى ترسم الحدود ما بين أجنحة لمجتمعهم يرون اختلافها أو ائتلافها أوفق لمصالح وطنهم الجامعة ويرون لها حقيقة أبعد غورا وأسلم عاقبة، في آن، من حقيقة التقابل ما بين الجماعتين الكبريين. فإذا هم تطلعوا إلى لعبة تنظيم وتحالف وتخالف سياسية تغيب عنها الهويات الطائفية وتأخذ بمصالح متعلقة بالمعاش والعمران، مثلا، أو بالموازين الخارجية المحدقة ببلادهم، أعياهم البحث عن قوى في صفوفهم يعتدّ بها تقبل على هذه اللعبة تاركة الهويات المشار إليها جانبا ومرتضية التخالط أو التنابذ وفق الخطوط الجديدة التي تفترضها اللعبة المقترحة. وإذا بحث الباحثون من بينهم عن أحلاف لطبقات أو لمراتب طبقية، مثلا، أو عن أخرى لبعض جماعات المهن والأعمال، في الأقل، ترصّ صفوف المستغلين وراء المهضوم من حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية وتأخذهم إلى مواجهة من يفتئتون على تلك الحقوق من غير اعتبار للانتماء الديني في هذه الضفة ولا في تلك، بدا لهم أمر هذه الأحلاف، مع إفلاحهم في إرسائها في هذا الموقع أو ذاك أو في هذا الظرف أو ذاك، أمرا ضيق النطاق أو قصير المدة – إذا اتسع نطاقه. فلا يستقيم اعتبار ما كان من هذا القبيل ملمحا غالبا للتفاعل الاجتماعي ولا ينجو إلا لماما من طمس القسمة المسيحية الإسلامية رسمه، إلى هذا الحد أو ذاك، وتجديد استحواذها على الصورة كلها، في نهاية المطاف.
ولم يكن اللبنانيون وحدهم من يعتمد ثنائية الإسلام والمسيحية سمة قطعية الغلبة لصورة مجتمعهم العامة، خيرها وشرها. وإنما كان العالم كله يرى إلى لبنان على أنه بلاد يروح المسيحيون والمسلمون ويغدون بين ظهرانيها ويتوادون أو يتشادون بحسب ما تقضي الظروف والمطامح. هذا ما كان يستوقف العالم من لبنان، قبل الالتفات إلى شمس لبنان وبحره أو حره وبرده وإلى طيب الإقامة فيه للغريب أو نكدها عليه، أكانت عابرة أم مديدة.
اليوم تزداد طغيانا، أسبوعا بعد أسبوع، صورة للبنان، جديدة كليا عليه وعلى من يعرفونه في أصقاع أخرى من الأرض. وهي صورة البلاد التي يتواجه فيها السنّة والشيعة ويتوزع المسيحيون بين معسكريهم هذين ويوشك المعسكران أن يأخذا كلاّ بخناق الآخر. والحق أن إدراك اللبنانيين لحقيقة طوائفهم المختلفة وقوة الفوارق بينها، في ما يتعدى انتظامها في سلكي الديانتين الجامعتين، ما هو بالأمر الجديد. حتى أنه يصح القول إن المجتمع اللبناني كان أقرب إلى الظهور منتظما في ديانتين حين ينظر إليه غير اللبنانيين من خارج. وأما حين ينظر إليه اللبنانيون من داخل فكان أقرب إلى الظهور مؤلفا من ثماني عشرة طائفة. وكانت (ولا تزال) توجد حدود حسية ماثلة وصور تاريخية حية للعلاقات بين هذه الطائفة وتلك وخصوصا في نطاق كل من الديانتين. أما الحدود الحسية فهي قائمة في كل ميدان تقريبا أية تكن كثرة الحالات التي تخرق فيها من قبل الأفراد. هي قائمة في التزاوج وفي السكن وفي الملكية وفي العمل والتعامل وفي مرافق التعليم وفي تشكيلات المعاشرة والصداقة فضلا عن مثولها في الشعائر والعبادات، بطبيعة الحال. وقد مدّها نظام الطائفية السياسية إلى مؤسسات السلطة المختلفة وإلى المجتمع السياسي الذي يرعى تكوين هذه المؤسسات ويقودها. وأما الصور التاريخية فهي متنوعة المفاعيل وهي تبقى في التداول ويتخير منها بحسب الأوساط والمراحل والحالات ما يزكّي الألفة أو ما يؤكد التنافر. وهي تقدّم حينا على أنها بقايا من عهود بائدة وحينا على أنها شواهد حية لأوضاع ثابتة على الزمن.
هكذا بقيت تروى حكايات تشي بالجفاء التاريخي المستشري بين الموارنة والروم الأرثوذكس. وبقي الدروز يقدّمون على أنهم قوم غامضون، لا يسبر غورهم ولا يطمأن إلى نواياهم. وكان ما يغري بتأبط هذه الصورة الأخيرة سهولة مدّ الصفة “الباطنية” للمذهب الدرزي إلى دوائر لا شأن للسلوك فيها بالمذهب الديني مبدئيا. ولم تكن العلاقات بين الشيعة والسنة بمنأى من هذه الصور الجاهزة الميسور استعمالها وإساءة استعمالها أيضا. فكانت تستحضر في البيئات السنّية أقوال تتصل بغلو الشيعة في علي وآل البيت وبغمطهم سائر الراشدين والسيدة عائشة حقهم وسابقتهم في حفظ الرسالة ونشرها وعدّهم إياهم غاصبين عليّا حقا يراه الشيعة مثبتا له بوصية النبي المعصوم، إلخ.، إلخ. وكانت البيئات الشيعية، حين تخلو إلى نفسها، تردّ هذه التهمة بتبنّي البعض من عناصرها وردّ البعض الآخر وتجنح، فوق ذلك، إلى المزج بين أهل السنّة والحزب الأموي في صدر الإسلام، فتحمّل أهل السنّة أوزار محاربة علي وقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه، إلخ.، إلخ.
ماضي اعتدال وتقارب
على أن هذا التلاوم كله لبث محصورا في حدود لا تتعذر معها مداراة مفاعيله. كان التسنّن اللبناني معتدلا على الدوام وكان التشيع اللبناني معتدلا أيضا. لا ريب أن شيعة لبنان، وقد خرجوا من 400 عام من السيطر ة العثمانية، كانوا يأخذون على السلطان (وهو، في أيامه، رأس الدولة السنّية العظمى) أنه لم يقرّهم يوما على مذهبهم بالاعتراف الصريح بهذا المذهب، وذلك بخلاف صنيعه مع الملل غير الإسلامية، وأنهم ظلوا، في عهود السلطنة كلها، مضطرين إلى الاستتار (وإن يكن صوريا غالبا) لإحياء شعائرهم الخاصة بهم وأهمها ذكرى عاشوراء. ولكن شيعة لبنان (الذين حازوا ما طلبوه من اعتراف بمذهبهم وتنظيم معلن له من يد السلطة الفرنسية المنتدبة في مطلع العام 1926) لم يظهر منهم ما يشي بتحميلهم مواطنيهم اللبنانيين من أهل السنّة مسؤولية ما عن المسلك العثماني حيالهم. فإن دعوة القومية العربية (التي استمالت طلائع وقطاعات مهمّة من الشيعة) كانت قد حملت معظم السنّة، في المناطق العربية (وبينها تلك التي أصبحت لبنانية لاحقا) على موقف جافٍ من السلطان في العهد العثماني الأخير. فخرج هؤلاء ومعهم الشيعة من الدولة العلية، بعد محنة الحرب العالمية الأولى، وهم متقاربون في الموقف الإجمالي. ولبث هذا التقارب حاصلا في عهد الانتداب الفرنسي، إذ جنح الطرفان معا إلى الشكوى من غلبة المسيحيين (والموارنة منهم على الأخص) على مغانم الدولة اللبنانية الجديدة. وهذا مع أن الشيعة مالوا بمعظمهم، بعد انهيار الدولة الفيصلية في دمشق، إلى مسالمة السلطة المنتدبة آملين منها تقويما للمعوج من أحوالهم ومعتبرين بشدة القمع الذي خرب ديارهم حين قاوموا، في ركاب فيصل، استتباب الأمر للمحتلين الفرنسيين في تلك الديار. فإن هذه المسالمة نفسها لم تكن لتفسد قضية الودّ فعلا بينهم وبين مواطنيهم من أهل السنّة، وقد كانت صفوف هؤلاء قد عرفت، حتى مطلع النصف الثاني من الثلاثينات على الأقل، نوازع قوية من القبيل نفسه.
في الأساس، كان التشيع اللبناني، بما هو تشيع عربي، قريبا من مواقع الاعتدال في الإسلام السني، وهذا بخلاف التشيع الإيراني، بل أيضا بخلاف التشيع العراقي في بعض تجليات هذا الأخير، على الأقل. فإن وجود مقامات لكثرة من أئمة الشيعة في العراق وكذلك الأثر الإيراني المباشر في التشيع العراقي قد أمليا على هذا الأخير أسلوبا تحضر فيه النزعة الاحتفالية والشعائر الجماعية بقوة. وأما تدين الشيعة اللبنانيين فكان لا يزال لنحو ثلاثة عقود أو أربعة خلت، “طبيعيا”، إن جاز هذا الوصف، أو خافتا لا مغالاة فيه ولا استعراض (ولا تنتقص صفة “الخفوت” هذه من حرارته ولا من صدقه بالضرورة) وكان، في الكثرة الكاثرة من مناسباته، شأنا للأفراد لا للجماعات، يمارسونه في عزلة بيوتهم. وكان هؤلاء متسامحين أيضا، على أنحاء مختلفة، مع غير المتدينين في أوساطهم. وقد حملت أسرة إيرانية إلى النبطية، في جنوب لبنان، أسلوب الشيعة الإيرانيين المسرحي والفاقع التفاصيل في إحياء ذكرى عاشوراء، وكان ذلك في أوائل القرن العشرين. ولقيت هذه “البدعة” مساندة من بعض مشايخ المذهب المحليين ومعارضة من آخرين واستوت موضوعا لجدال طويل. ثم استقرت ولكن في النبطية وحدها، وأصبحت، بمرّ السنين وعلى التغليب، مناسبة لنوع من السياحة الداخلية وللتجارة ولظهور معان أخرى أكثرها اجتماعي أو سياسي وأقلـّها تقوي. وهي قد بقيت على هذه الحال إلى أن تقضّى شطر من الحرب اللبنانية الطويلة ووقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982. فكان أن اتخذت منحى آخر جعل من كثرة الدم المراق في المناسبة ومن عنف اللطم وشدة العويل مظهرا لمقاومة المحتلين.
انتشار الأثر الإيراني
فضلا عن ذلك، مال هذا الأسلوب إلى الانتشار في مواطن الشيعة اللبنانيين المختلفة، فعاد غير مقصور على النبطية. وقد واكب انتشاره (وتحوله إلى مزيد من الحدة وإلى ضرب من الاستعراضية شبه العسكرية، في آن) انتشار مضامين ومسالك إيرانية المشرب في أوساط الشيعة اللبنانيين، وهي مضامين ومسالك لم تكن معهودة منهم قبل الثمانينات من القرن العشرين أو كانت محصورة جدا ومحدودة الأثر بين ظهرانيهم. وهي قد أثمرت في الواقع صورة جديدة للتشيع عند الشيعة اللبنانيين أو في أوساط واسعة منهم على الأصح. ولعل أبرز معالم الصورة المذكورة – فضلا عن التحوير الذي حصل لمراسم عاشوراء ولمضامين المجالس الحسينية وفضلا عن استحداث مناسبات كثيرة للاحتفال متصلة بسائر آل البيت – تصدّر الإمام المهدي وانتظار ظهوره مسرح المخيلة الشيعية بعد أن كان رهينا لكواليس المسرح المذكور. فمع إطلاق اسمه على المدارس التي يرعاها الحزب وعلى كشافة الحزب وعلى أشياء أخرى كثيرة، أخذ يوحى بأن ظهوره قريب وبأن على المؤمنين التمهيد لهذا الظهور بأفعال تهيىء العالم لحصوله وبأن عمل الحزب ما هو إلا جهد يبذل في هذا السبيل. وكان من شأن هذه الكثافة المستجدة للشعائر وهذا التوجيه لها أن يأخذا بتلابيب الجمهور كل يوم وأن يضعاه بأبعاد وجوده كافة، بما فيها البعد السياسي، في مجرى شعائري جارف يرسم الحزب مآله ويعيّن محطاته على كل صعيد.
ولنفتح هلالين هاهنا. لا ريب أن هذه المضامين كلها تحدث حدثا جديدا كليا على “الطائفية” اللبنانية. فإن مهمة الدين أو المذهب الديني، في هذه الطائفية، لم تكن تتعدى، عادة، رسم الحدود بين الجماعات، بما هي حدود تضامن مبدئي وتفارق مبدئي أيضا، وتلوين البعض من تصرفات الجماعة أو من مناسبات اللقاء بين أبنائها بلون موحد. فلم يكن الدين أو المذهب، بأحكامه ومضامينه وشعائره، مصدرا أو مرجعا مباشر المثول للعمل السياسي ولخيارات هذا الأخير أو أهدافه ولتصوره نظام الدولة، على الأعم. لذا أخذ استمداد حزب الله الدين مضامين وصيغا وشعائر للتعبئة السياسية يبدو مصدر حرج للتقليد الطائفي اللبناني برمته ولـ”دنيويته” الغالبة. فقد لاح في أفق هذا الاستمداد شبح كسر مبدأ المساواة الحقوقية بين اللبنانيين وترتيبهم طبقات حقوقية، على أساس صيغ الإيمان الديني المختلفة التي ينسبون إليها. وما من ريب في أن اقتران هذا الشبح بصورة التنظيم المسلح والمتخذ مرجعا له جمهورية مذهبية الهوية ما كان إلا ليزيد الهواجس ثقلا. على أن ما أرجأ طغيان هذه الهواجس على الساحة العامة، إنما كان عزوف حزب الله، إلى حين، عن طلب سلطة الحكم في البلاد وإعلان قيادته المتكرر لزومها أحكام الدستور وقواعد نظام الدولة القائم. وهاهنا نغلق الهلالين.
وفي ما يتصل بـ”الصور التاريخية” – إن كان لنا أن نعود إليها – عرف لبنان، على الدوام، (وعلى الأخص، في عهوده الاستقلالية) متنورين أو معتدلين من السنّة ومن الشيعة. أراد هؤلاء اتقاء ما في “الفتنة الكبرى” ومقدماتها وعواقبها في تاريخ الإسلام من بذور دائمة الاستعداد لإفراخ فتن مستأنفة. فراح أهل الشيعة منهم يدعون أقرانهم من أهل السنّة (ويدعون معهم مسيحيين أيضا) إلى الخطابة في مآتم الحسين مثلا وراح أهل السنّة منهم (ومعهم مسيحيون أيضا) يشاركون الشيعة احتجاجهم على هضم حقوقهم في الصيغة اللبنانية ويطلبون لهم ما تفترضه لهم هذه الصيغة أصلا من مكانة في الجمهورية. على أن المتنورين أو المعتدلين ظلوا، مع إخلاصهم في السعي والطيب من آثار عملهم، قلّة في الجهتين، على الدوام. فيتسع نطاق تأثيرهم أو يضيق تبعا لدرجة الحدة في الاستقطاب السياسي ولوجود أغراض ظاهرة للجدال السياسي ذي المنحى الطائفي أو لغياب هذه الأغراض. والحق أن هذا النوع من الأغراض هو بيت القصيد. وهذه الأغراض نادرا ما وجدت بين شيعة لبنان وسنّته، على التحديد، وأندر منه أن يكون لها شأن كبير، متى وجدت بينهم، قبل ربع القرن الأخير، في التقدير الأبعد، وقبل السنتين الأخيرتين في التقدير الأقرب. فما الذي عدا مما كان قد بدا؟
وجهة واحدة للشكوى
في السياسة، كانت لصيغة النظام اللبناني الذي أرسي على قاعدة الاستقلال سنة 1943 سمعة التفاهم الماروني السنّي. فالمعروف أن ما أطلق عليه لاحقا اسم الميثاق الوطني كان اتفاقا قوي القابلية للاجتهاد بين زعامتين لتينك الطائفتين تبوأتا سدّة الأحكام معا. إلا أن الشيعة (وقد أصبحوا غداة الميثاق طليعة الشاكين من “الحرمان” السياسي الاجتماعي وجمهوره الأعظم في آن) قلما نسبوا إلى السنّة، في هذه المرحلة أيضا، مسؤولية ما عن “الحرمان” الذي كانوا يشتكون. بقيت الغلبة المارونية على مقاليد الحكم ومنافعه هي المستهدفة الأولى بالشكوى. وما لبثت هذه الشكوى أن أصبحت مشتركة، إلى حد بعيد، بين السنّة والشيعة، وذلك، على الخصوص، بعد العهد الاستقلالي الأول. لم يجمع الشيعة اللبنانيون (ولا أجمع السنّة اللبنانيون، في كل حال) على مجاراة الحركة القومية العربية في صيغتها الناصرية ولا على معارضة رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي أبدى ميلا إلى سياسة الأحلاف الغربية المناوئة للناصرية وأراد أيضا تجديد ولايته. وكان عصيان 1958 المسلح عصيانا سنّيا ودرزيا، بالدرجة الأولى، ولكن البعض من أهم الزعماء الشيعة ضلعوا فيه أيضا ولزم البعض موقف الحياد. ولم يكن من وقفوا في وجهه ممثلين لأكثرية الشيعة بأي حال وكان لهم نظراء في الوسط السنّي نفسه. ثم جاء العهد الشهابي، ممتعا بتفاهم أميركي- مصري على حفظ استقراره. فباشر حملة إصلاح وتعديل للموازين استقطبت له ولاء إسلاميا واسعا، على اختلاف المذاهب، ونقلت إلى طليعة مواجهيه بعض العتاة من زعماء الموارنة، وهم الذين كانوا ولاة الأمور في العهد الذي سبقه. وحين استعاد هؤلاء الزمام في أواخر الستينات، بدأ المسلمون مرحلة ازورار واسع جديد عن السلطة الحاكمة واقترن شعار “المشاركة” السنّي بشعار رفع “الحرمان” الشيعي واستمرت غالبة ملامح التضامن على صورة العلاقات ما بين الطائفتين الإسلاميتين الكبريين.
“جيش السنّة” الفلسطيني
وفي عقد ونصف عقد من حرب مختلفة الأطوار وكثيرة الأطراف، لبث السنّة والشيعة، على وجه الإجمال، في جانب واحد من خط الفصل الطائفي ولكن مع حالات توتر وتنافر لا يجوز التقليل من وقعها على مجرى العلاقات بين الجماعتين. فقد مال جماعات الشيعة، بشيء من السرعة، بعد 1970، إلى النفور الضمني أو المكشوف، من سطوة المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان، وذلك مع تكرار الضرب الإسرائيلي لبلدات وقرى حدودية كان الأمن وحده هو الجانب المرضي من جوانب حياتها بعد نكبة فلسطين وهدنة 1949 بين لبنان وإسرائيل. هذا بينما بقي غالبا، حين دخلت البلاد في الحرب، نوع من التعويل السنّي على الحماية الفلسطينية. وبقي نصيب السنّة اللبنانيين من قوى الحرب مقصورا على تنظيمات صغيرة ملحقة، على الأغلب، بتنظيمات الفلسطينين وظهر تعويل سنّي على هؤلاء في أطوار التفاوض اللبناني المختلفة، قبل سنة 1982، على الإصلاحات المطلوبة، من الجهة الإسلامية، في نظام الحكم اللبناني. فأصبح ينظر في أوساط مختلفة – حقا أو باطلا – إلى التنظيمات الفلسطينية المسلحة على أنها جيش السنّة في لبنان. وهذا مع العلم بأن الحركة الوطنية اللبنانية، وهي إذ ذاك حليف المقاومة الفلسطينية الرئيسي في البلاد، كان يتصدرها الزعيم الدرزي كمال جنبلاط وكان قوامها الأظهر أحزاب يسارية أو قومية علمانية وكان الحضور السنّي المباشر يأتي ثانيا أو ثالثا فيها. فوق ذلك، رزحت القوة العسكرية السورية رزوحا شديد الوطأة على الدور السياسي لهذا التحالف اللبناني الفلسطيني ونحت إلى تطويعه مع رعاية حدّ لهذا التطويع هو دور القوة الفلسطينية المركّزة في الجنوب، وكانت بمنأى نسبي من الضغط السوري، بل لبثت قادرة أيضا على إقلاق السلطة السورية وإحراجها عبر تحكمها بميزان التوتر على الحدود الجنوبية.
أطوار الشيعة ومحنة السنّة في الحرب
في مساق هذا الضغط على الحلف الفلسطيني اللبناني، بدا التعويل السوري على العامل الأهلي الشيعي أمرا مفروغا منه. وقد رعت السلطة السورية ترتيب البيت الشيعي مباشرة بعد اختفاء موسى الصدر في ليبيا، في نهاية آب 1978. وكان هذا الأخير قد رفض الضلوع في الحرب الأهلية، إلا في حدود الدفاع عن النفس الذي اضطر إليه تنظيمه فعلا عند اجتياح المليشيا المسيحية، في صيف 1976، ضواحي بيروت الشمالية المكتظة بالشيعة. وقد أسفر الترتيب، بعد مرحلة انتقالية، عن اشتداد أزر الحركة الصدرية، أمل، بقيادتها الجديدة وفرضها نفسها طرفا مقاتلا في بيروت وضاحيتها الجنوبية. وهو ما افتتح، في أعقاب اجتياح الإسرائيليين بيروت، في صيف 1982، وخروج المقاتلين الفلسطينيين والقوات السورية منها، مرحلة تميزت بامتحان العلاقات السنّية الشيعية امتحانا صعبا، في بيروت على الخصوص. وكانت العلامة الظاهرة لهذا الامتحان الرزوح الشيعي من مسلح ومهجر (وهما مختلطان، في تلك الأثناء) على شوارع بيروت السنّية وأحياء مختلفة منها وما كان يفضي إليه هذا الرزوح من احتكاك متكرر بين هذا التنظيم وتنظيمات أخرى من الحركة الوطنية المنحلة عادت إلى مواقعها مع رحيل المحتل الإسرائيلي ثم مع لحاق القوة المتعددة الجنسية به بعد الضربة التي أدمتها في صيف 1983. وكانت حركة أمل هي المتصدرة حركة 6 شباط 1984 التي منعت قوات الجيش اللبناني الموالية لرئيس الجمهورية الجديد من دخول بيروت الغربية والضاحية الجنوبية. وقد سادت على الأثر حالة التقاسم المرير لبيروت السنية أو المختلطة بين مليشيات (أظهرها الشيعية والدرزية) قلّ فيها من يمتّ إلى أهل بيروت بصلة. واستولد التقاسم تشاجرا شبه يومي تخلله عراك واسع النطاق بين المليشيا الشيعية وأختها الدرزية. وكانت مرحلة التعاون التي سبقت قد اتسعت، في شباط 1984 أيضا، لمبادرة الطرفين إلى القضاء شبه المبرم على تنظيم “المرابطون”. وكان هذا التنظيم أبرز معلم سنّي باق في مضامير النزاع الأهلي المعقدة.
وزاد الطين بلة ما شهدته تلك المرحلة من تكاثر لخطف الأجانب ومن حرب دامية للغاية بين مسلحي الشيعة ومسلحي المخيمات الفلسطينية كانت، في الواقع، حربا (دارت بعض فصولها في العاصمة نفسها) بين ياسر عرفات الراغب في العودة إلى بيروت والجنوب (وإن باشرها، في أواخر 1983، بظهور عابر في طرابلس!) وحافظ الأسد، المرابط جيشه في أعالي الجبل اللبناني والراغب أيضا في العودة إلى العاصمة وأرجاء أخرى من البلاد من غير منازع فلسطيني. وقد انتهت هذه المذبحة بعودة جيش الأسد إلى بيروت، في شباط 1987، بعد رجاء من زعماء المسلمين اللبنانيين وفي مقدمّهم بعض زعماء السنّة. وكان الجيش السوري قد طوع طرابلس قبل ذلك بشهرين. وهو قد انتشر، في ربيع العام التالي، من العاصمة إلى ضواحيها الجنوبية، وذلك بعد أن كانت الحرب الشيعية الفلسطينية قد أتت أكلها. ولكن ما أريق من دماء، في تلك المرحلة، وما أهدر من أرزاق وكرامات ترك ندوبا لا ريب في عمقها في نسيج العلاقات بين سنّة لبنان وشيعته.
الفقيه يفرض ولايته
قبل ذلك بأعوام، كانت الثورة الخمينية قد أمسكت بمقاليد إيران. وكانت الحرب العراقية الإيرانية قد تبعتها عن كثب. وعلى الرغم من جنوح الشيعة اللبنانيين إلى إلباس نظام صدام حسين عباءة سنّية وإدراجه في سلسلة قلما تقطعت من طواقم سنّية حكمت العراق المعاصر وتحكمت في شيعته، وهم أكثرية مواطنيه، وعلى الرغم أيضا من دعم معظم الدول العربية، السنّية الانتماء، صدام حسين في حربه هذه، لم تظهر للملحمة الإيرانية-العراقية آثار قاطعة في صورة العلاقات بين الشيعة والسنّة من اللبنانيين. فقد كانت تقلبات الحرب المتوالية وأحلافها الرجراجة تشوش تلك الآثار، مع وجودها، وتمنعها من الاستقرار. كان ياسر عرفات قد رفع على أكف الثورة في طهران ثم ابتعد عنها. ولم يلبث النظام السوري أن دخل في حلف وثيق مع النظام الخميني زكاه الصراع بين البعثين وحاجة طهران إلى من يبعد عن الحرب بينها وبين بغداد صورة الصراع العربي الفارسي. إلخ. فوق ذلك، توالت أخبار الدعم العراقي، في سنوات الحرب نفسها وبعدها بقليل، لأطراف مسيحية لبنانية كان بينها وبين دمشق ما صنع الحدّاد ولكنها كانت لا تزال خصما، أيضا، للمسلمين اللبنانيين في الحرب الأهلية الدائرة. إلخ… هذا كله لم يكن ليسعف في صوغ موقف مستقر أو غالب تنحاز معه كل من الطائفتين الإسلاميتين في لبنان إلى جهة من جهتي الحرب بين العراق وإيران.
كان أثر الثورة الإيرانية في لبنان يعتمل، خلال تلك السنين، في صعيد آخر بدا، لأول وهلة، بعيدا، بمعنى ما، عن مجرى العلاقات السنّية-الشيعية في البلاد. ولكن هذا البعد، الذي بقي جزئيا، في كل حال، لم يكن، في نهاية المطاف، غير وهم تضافرت قوى وظروف مختلفة على إدامته سنوات طويلة إلى أن أخذ يتبدد قبل سنتين أو أكثر من ذلك بقليل. فمنذ غدوات الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في سنة 1982، أخذت تتكون النوى التي خرج منها حزب الله، باسمه هذا، بعد سنوات ثلاث، برعاية إيرانية مباشرة ودؤوبة. وكان منطلق هذه النوى انشقاقا في حركة أمل حدث من جرّاء تقبل قيادتها الحوار مع القيادة المسيحية المتورطة في تعاون معقد مع إسرائيل. ثم ترسخ الانشقاق مرعيا من مشايخ كانوا ذوي صلة بحزب الدعوة العراقي في النجف وببعض قيادات الثورة الإيرانية. وأخذت تروج أخبار تصل ما بين التنظيم الجديد وخطف الرهائن الغربيين وتؤكد الوجود المباشر لمدربين ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني في بعض المناطق الشيعية. ومع أن هذه الجوانب من أوضاع التنظيم الجديد ونشاطه أقلقت أوساطا طائفية كثيرة، بعضها شيعي، في البلاد، فإن مصدر القلق الأعمق كان اعتماد الحزب الجديد شعار “الجمهورية الإسلامية” في لبنان. وهذا قلق لم يكن سنّيا وحسب، بطبيعة الحال، وقد لجمه إلى حدّ ما كون الشعار بدا نظريا وعصيّا على التحقيق في مجتمع له موازين المجتمع اللبناني. لجم القلق أيضا كون الحزب قد صرف جهوده إلى توطيد وجوده وتوسيعه في الوسط الشيعي وإلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب البلاد وبدا عازفا، إجمالا، عن التورط المباشر في التجاذب السياسي بين الطوائف. ثم كبت القلق، بعد انتهاء الحرب، حين بدا الحزب عازفا عن مقاسمة أطراف السلطة الجديدة أجبان هذه الأخيرة وألبانها.
في تلك المدة، أي في النصف الثاني من الثمانينات، كان الحزب قد أبعد، بالعنف المسلح والاضطهاد سائر التنظيمات القومية واليسارية المشاركة في أعمال مقاومة الاحتلال في جنوب البلاد. وكانت حركة أمل قد واطأته على هذا الإبعاد، ولكنها ما لبثت أن وجدت نفسها، في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، تواجهه (ممتعة بسند فلسطيني!) على أرض الجنوب وفي ضواحي بيروت. وهذه مواجهة انطوت على جولات قتال بالغة القسوة وثقيلة الكلفة البشرية. وقد بدا الحلف الإيراني السوري، في تلك الأثناء، عاجزا عن فرض أسلوب أدنى كلفة لتقسيم المجال الشيعي البشري والجغرافي ومواطن النفوذ الشيعي المختلفة بين المنظمتين المواليتين له، وقد أصبحتا مستحوذتين على كل ما هو مهم وفاعل من مقاليد الطائفة، تقريبا. حتى أن الأمر بدا وكأنه حرب إيرانية سورية مستترة أو كأنه تسليم من الدولتين بتعذر ترتيب على الأرض لا تكون له هذه الكلفة الفادحة.
شيعة للدولة وشيعة للثورة
في كل حال، غطّت الحرب الشيعية-الشيعية (وما تلاها بقليل من حرب مارونية-مارونية)، بما هي فصل من الفصول الختامية الحامية الوطيس في الحرب اللبنانية، فصولا وصورا سابقة من هذه الأخيرة بما في ذلك ما كانت العلاقات السنّية الشيعية قد امتحنت به من تردّ وتوتر متماديين في الثمانينات. وقد جاءت التسوية الشيعية عبقرية في أسلوب مداراتها لمصالح كل من التنظيمين ولمواطن الحساسية في العلاقات بين الشيعة وطوائف أخرى تقف في مقدمها الطائفة السنّية. ولم يكن المرجعان السوري والإيراني بعيدين عن إخراج هذه التسوية، بطبيعة الحال. قامت صيغة التسوية الشيعية، في مرحلة ما بعد الحرب، على توزيع للمقاليد بين تنظيمي الطائفة يبدو غريبا حين ينظر إليه من أية دولة صحيحة البنية. أوكلت سياسة النصيب الشيعي من منّ السلطة وسلواها إلى حركة أمل. وأوكل أمر مقاومة الاحتلال حصرا إلى حزب الله.
كان حزب الله، قد أبدى، في مستهل هذه المرحلة، رفضا حادا لاتفاق الطائف الذي رعى خروج البلاد من الحرب. على أنه عاد عن هذا الموقف بعد أن ضمن الاحتفاظ بسلاحه باعتباره سلاح مقاومة للمحتل فيما سلّمت التنظيمات المسلحة الأخرى سلاحها إلى الدولة أو انتفعت ببيعه. ثم قايض الحزب، في انتخابات 1992، وهي الأولى بعد الحرب، سحب شعار “الجمهورية الإسلامية” من التداول بدخول مجلس النواب. وقد فرض المرجع السوري تحالف التنظيمين في الانتخابات، ولم يكن عهدهما قد بعد كثيرا بأوزار المواجهة بينهما في ميادين القتال. وهو – أي المرجع السوري – قد واظب على هذا الفرض في كل انتخابات نيابية جرت بعد ذلك حتى انسحاب قواته من لبنان. واتخذ حزب الله مجلس النواب منبرا سياسيا لمقاومته المسلحة وموقعا للمراقبة والدعاوة ولتوثيق الأواصر بالمجتمع السياسي اللبناني على اختلاف مشاربه وعزف، حتى سنة 2005، عن المشاركة في الحكومات. وبدا عيشه رغدا، في هذا المجتمع السياسي، ما دام يقاتل لتحرير الأرض ثم يحررها فعلا ويبقى، مع ذلك بمنأى عن مغانم السلطة على اختلافها. وكان الساسة السنّة، وقد لفّت العباءة السورية الفاعلين منهم حتى أواخر التسعينات، آخر من يخطر له الاعتراض على تنظيم يقاتل المحتل باقتدار عسكري واضح وحنكة سياسية لم تفلح دائما في لجم الآلة الإسرائيلية الضاربة ولكنها أبدت، على الجملة، قدرا عاليا من الشعور بالمسؤولية في هذا الصدد. هكذا لبثت العلاقة بين حزب الله وحكم رفيق الحريري مقبولة إجمالا على الرغم من الجدل المتطاول حول الترتيب المدني لمنطقة الضاحية الجنوبية، وقد أفضى إلى تجميد أجزاء مهمة من هذا الترتيب. قبل ذلك بأعوام، كان قد وقع حدث كبير هو قمع تظاهرة سيرها حزب الله ، في 13 أيلول 1993، احتجاجا على اتفاقية أوسلو. وقد سقط من جراء القمع بالنار عشرة قتلى من المتظاهرين عند جسر طريق المطار القريب من مدخل حارة حريك.
“دولة حزب الله”
على أن حزب الله لم يكن منصرفا، في العقدين الماضيين، إلى القتال وحده. وإنما باشر بناء ما أطلق عليه وضاح شرارة في عنوان كتاب فذّ صدر في وسط التسعينات اسم “دولة حزب الله”. وهو الاسم الذي دخل في العامين الأخيرين في التداول العام حتى وصل إلى سمع الرئيس جورج بوش – ولا فخر! – وجرى على لسانه. تتمثل هذه “الدولة” في شبكة مرافق متنوعة تنسج شرنقة خدمات من كل نوع تقريبا حول كتل كبيرة من الطائفة الشيعية. فنقع فيها على المدارس وعلى المستشفيات والمستوصفات وعلى التعاونيات الاستهلاكية وتعاونيات البناء والإسكان وعلى النادي الرياضي أو الثقافي والتنظيم الكشفي… وهذا، بالطبع فضلا عن هياكل الحزب نفسه من سياسي وعسكري وأمني وإعلامي، إلخ.، وفضلا عن الجوامع والحسينيات التي تستقبل، إلى العبادات، بعضا من وجوه النشاط الاجتماعي-السياسي أو الثقافي-الأيدلوجي. بهذه الشبكة يتبوأ الحزب مقام “الخادم” الأول و”المستخدم” الأول للشيعة اللبنانيين، بعد الدولة اللبنانية. هذا المقام الذي أرسيت لبناته في مدة ربع قرن هو ما يجب أن ينظر إليه حين يسأل عن إمكان انفكاك حزب الله من أسر صلته بالسلطات الإيرانية. فإن العلاقة بين أيّة من القوى السياسية اللبنانية وراعيها الخارجيين ينبغي أن ينظر إليها في المدى التاريخي لتكونها لا أن “ينتبه” إلى خطرها في ظرف محدود تظهر فيه، “فجأة”، ممسكة بخناق البلاد.
هذا وليس في وضع الشيعة، لجهة الدور الذي اضطلع به حزب الله بين صفوفهم، ما يشذّ عن منطق الطوائف اللبنانية إذا نحن لم نر منه غير تجهيز الطائفة نفسها بحيث تتولى خدمة نفسها. فلهذا نظائر من قبيل شبكة المدارس الكاثوليكية، مثلا، وهي أضخم بما لا يقاس من الشبكة الشيعية. على أن الشبكة الكاثوليكية لا تتبع جهة واحدة ولا تنتهي آثار عملها إلى الحقل السياسي إلا على نحو كثير المحطات الوسيطة ومتشعب بحيث يراعي شقوق الوسط الذي يحصل فيه ولا ينتهي إلى طمسها، فلا يسوقها، في نهاية المطاف، إلى مصب سياسي واحد. ومن النظائر نظير سنّي هو مؤسسة الحريري بما توفّره من خدمات وشركات الحريري أيضا بما توفّره من وظائف. غير أن الخدمات التي بذلتها مؤسسة الحريري حملت طموحا إلى الاشتمال على مستفيدين متنوعي الانتماء الطائفي ولزمت هذا الطموح، حتى اغتيال مؤسسها، في الأقل، إلى حدّ يتعذر علينا تقدير مداه ولكنه لا يبدو ضيقا. وأما الشركات، وهي، تعريفا، منشآت تخضع للمقاييس التي تجعلها قابلة للربح، فيثمر العمل فيها درجة إلزام سياسي لا يسوغ التقليل من شأنها ولكنها لا تبلغ حد الجزم. يزيد من ضعف الإلزام، في الحالين، أن السطوة السياسية للمال وللخدمة وحدهما غير السطوة السياسية للمال وللخدمة مقرونين بجهاز عسكري أمني لا تغمض له عين.
عليه تبدو حالة حزب الله مختلفة عن نظيراتها بسمتين، على الأقل: واحدة داخلية هي مركزية التخطيط وتبعيته الكلية لمشروع سياسي عسكري هو مشروع الحزب، وواحدة خارجية هي اعتماد هذا الهيكل الضخم في بقائه على تمويل ورعاية خارجيين، أساسا، هما اللذان أتاحا له وتيرة نمو استثنائية السرعة في المقام الأول. والسمتان متلازمتان طالما أن الممول الخارجي “متبرع” بمعنى أنه لا يبتغي ربحا اقتصاديا مما ينفق… ولكن مضيه في “الإنفاق” (الذي لا يقتصر على المال بل ينطوي على المدد المعنوي، بوجوهه المختلفة، أيضا) رهن باستمرار تبنيه للمشروع السياسي العسكري أو (على الأصح) باستمرار هذا المشروع جاريا بحسب رؤيا المتبرع ومصالحه.
نذر خفية
بين نهاية الحرب في 1989-1990 واندلاع الأزمة الوطنية الجديدة مع تمديد الولاية لرئيس الجمهورية الحالي في صيف 2004 عقد ونصف عقد. وأما هذه الأزمة فعبرت، بعد التمديد والقرار 1559، محطات كبرى. عبرتها على وقع الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وأعمال التفجير: محاولة اغتيال مروان حمادة ثم اغتيال رفيق الحريري، في أعقاب استقالته مكرها من رئاسة الحكومة… انسحاب القوات السورية وإجراء الانتخابات النيابية في الربيع من سنة 2005… حرب تموز-آب 2006 وصدور القرار 1701 ومباشرة تطبيقه…استقالة الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة، مع إقرار هذه الحكومة نظام المحكمة ذات الطابع الدولي المنوط بها محاكمة المتهمين في الجرائم الإرهابية… هما إذن عقد ونصف عقد تقضيا قبل ذلك ولم تلح فيهما في الأفق السياسي للعلاقات الجارية بين الشيعة والسنّة نذر يعتدّ بها بمجابهة مصيرية تتصدرها قيادتا هاتين الطائفتين ويعمّ فيها الهياج جمهورهما… فيلتحق كل شطر بقيادته ويقف رهن أمرها ويملأ الساحات (أو يحتلها احتلالا مديدا) بإشارة منها.
لاحت تلك النذر خفيّة بعد قرار مجلس الأمن 1559 وتمديد الولاية الرئاسية ثم أخذت تتضح وتشتد، طورا بعد طور، في أعقاب اغتيال الحريري. قبل ذلك، كان الأمر يقتصر على مناكفات “الترويكا” وكانت هذه المناكفات موضعية، على الدوام، يدير المرجع السوري معظم فصولها وينتهي إلى احتوائها، فلا يطول تفاعل آثارها ولا تتراكم تراكما يبلغ بها حد الخطورة. وفي كل حال، غلبت على الفصل الأخير منها، وقد استغرق ولاية أميل لحود الأصلية بتمامها، صورة المجابهة بين هذا الأخير ورفيق الحريري لا بين رفيق الحريري ونبيه بري.
الشيعة “حكموا لبنان”؟
بعد انسحاب القوات السورية، أخذ يقال إن “الشيعة” أسفوا لرحيلها وواجهوا بالغيظ من طلبوا هذا الرحيل لأنهم (أي “الشيعة”) كانوا يحكمون لبنان في عهد الوصاية السورية. وهذا كلام ما هو بشيء. أفاد الشيعة، بعد الحرب، تحسينا لمواقعهم في الدولة بالقياس إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وهي قد كانت زرية في ذلك العهد. أفادوا وظائف في جهاز مجلس النواب الذي أصبحت شرطته جيشا صغيرا وفي جهاز أمن الدولة الحائر في ما هي وظيفته وفي مجلس الجنوب وفي جهاز الضمان الاجتماعي وفي الجامعة اللبنانية وفي وزارة الإعلام وفي وزارات وأجهزة أخرى متفرقة. ولكن وفرة عددهم في هذه المواقع لا تمنع (مع ما للتوظيف من أهمية في موازين الزعامة السياسية في لبنان) أنهم كبوا دون التمتع بسيطرة فعلية على المواقع التي هي أذرع السلطة الحقيقية في البلاد: الجيش وقوى الأمن الداخلي والمصرف المركزي ومجلس الإنماء والإعمار. وحيث تحكم أحدهم بذراع ذات شأن من هذه الأذرع، وهي الأمن العام، كان الشخص الذي اختير مستقرا كليا في القبضة السورية وكان مناكفا لرأس الشيعة في الدولة، أي لرئيس مجلس النواب، وشبحا يلوح في أفق خلافة هذا الأخير الذي لم يكن مستعجلا البحث عن خليفة. أفاد الشيعة من هذه المواقع خدمات، فضلا عن الوظائف. وأفادوا تعويضات، سوّغها التهجير وأضرار العدوان وجاءت مفرطة، في بعض الحالات، وهزيلة – إذا وصلت إلى جيوبهم أصلا – في حالات أخرى. وأفادوا طرقات أسيء تنفيذها ومدارس رسمية بقي بعضها شبه فارغ (لأن القرى بقيت شبه فارغة) ومرافق صحية تعثّر عملها أو بقيت غير عاملة. وكانت المحسوبية تعتور بشدة إسداء الخدمات وتقدير التعويضات والتعيين في الوظائف. وكان الفساد يذهب بجانب من أموال المشاريع والتعويضات إلى جيوب محدودة العدد.
وناهيك بحدود الموقع الشيعي في السلطة رئاسة مجلس الوزراء التي حكمت فعلا في عهود الحريري ولم تكن الرئاستان الأخريان تملكان حيال تصدرها إلا التهديد بتعطيل أعمالها ولم تكونا تملكان مباشرة هذه الأعمال بمعزل عنها. ومن بين وسائل التعطيل كان رئيس مجلس النواب يملك أضيقها نطاقا وهو درج مكتبه الذي كان “يخلد” فيه مشروع القانون الذي لا يرضيه. وهذا سلاح يردعه عادة سلاح “استعجال” القانون عند إحالته إلى مجلس النواب… والخلاصة أن الشيعة أصبحوا أقرب من ذي قبل إلى فرض أنفسهم على عناية السلطة ونيل نصيبهم من خدماتها ومنافعها والاستحواذ على ما يشبه الجزر لنفسهم في هوامشها منهم إلى القبض على مقاليدها وتوجيه خياراتها العامة. كانوا مستهلكين لمنافع السلطة أكثر مما كانوا ممسكين بزمامها أو منتجين لسياساتها أو محددين لتوجهاتها. وكان هذا يلبي حاجة زعامتهم إلى حصر ما أمكن حصره من جمهورهم في ساحة الولاء لها أكثر مما كان يستجيب لحاجة الشيعة إلى الاستواء طرفا فعليا في رسم استراتيجية تحكّمهم بمصير البلاد بمقدار ما هم جزء كبير منها فتحكّمهم بمصيرهم بالتالي.
من حكم لبنان؟
هذا التحكّم بالمصير كان، في مرحلة ما بعد الحرب، في يد الوصي السوري أولا. وإذا وجد من طرف داخلي كانت له كلمته في تصريف الكبير من الشؤون بجانب الوصي السوري، في هذه السنوات، فإنما كان رفيق الحريري لا غيره. يذكر له، طبعا دوره في الإعمار، بعد الحرب، وفي مسار الوضع المالي للدولة. وهو دور يجادل فيه كثيرا ويجب أن يستمر الجدل فيه لأن مفاعيله مستمرة. على أن الحق في المجادلة ليس متساويا. فإن بين المنددين اليوم بضخامة الدين العام من كان شراء الولاء السياسي لهم بين أسباب هذا الدين ومن فرضوا لأنفسهم حقوق مصادرة لبعض من ريوع مرافق الدولة ومن كانت مواقفهم السياسية اللاحقة سببا في إحباط كل سعي بذل إلى اليوم لمعالجة علة الدين المتفاقمة.
ولا بغية لنا هنا في التبسط في هذا الأمر. وإنما نريد التشديد على أن جهود الحريري الإعمارية واكبها تنويع في علاقات الدولة اللبنانية بالخارج أولاه الحريري عناية فائقة، فقبض للمضي به قدما على ناصية السياسة الخارجية. وقد انتهى هذا التنويع، بمفاعيله المختلفة، إلى جعل الانفراد السوري بالهيمنة على سياسة البلاد أمرا يصعب استمراره. استعاد الحريري بحكم إمكاناته وشبكة صلاته، حضورا لدول الخليج ولفرنسا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي بات يتعذر أن تترجمه سياسة خارجية تقوم على تكرار المواقف السورية المحفوظة. ولكن الحريري عوّل أيضا على تسوية شاملة للنزاع في الشرق الأوسط لم تحصل ولم تظهر، بالتالي، مفاعيلها الاقتصادية في لبنان. فكان أن اشتدت الحملة عليه بتشجيع سوري حين أخذ الدين (أو بالأحرى فوائده، وقد أصبحت أضخم من أصله) يستهلك معظم موارد الدولة ويحاصر قدرتها على الإنفاق الإنشائي وعلى ما كان يواكبه (ويحميه) من توزيع سياسي للمغانم. وقد دافع الحريري عن نفسه في الانتخابات ودان لطائفته ولقوى مسيحية متربصة بالهيمنة السورية بكسب الجولة سنة 2000. فأخذت الحرب عليه تبدو مذ ذاك حربا على طائفته. وبدا اغتياله، في نهاية المطاف، عدوانا على هذه الأخيرة أيضا.
من الأزمة…
حين ننظر في منشأ المأزق اللبناني الراهن وغلبة الملمح السّني الشيعي على تقاسيمه،يتعين علينا، بطبيعة الحال، أن نأخذ بعين الاعتبار مسار العلاقات السورية الأميركية من حرب الخليج في سنة 1991 إلى حرب العراق ابتداء من سنة 2003. فقد أسفرت الحرب الأولى عن التوطيد الأميركي للولاية السورية المنفردة على لبنان، بعد أن كان اتفاق الطائف قد افترض لهذه الولاية صيغة عربية دولية: صيغة تبدأ من دمشق، طبعا، ولكنها تنتهي إلى الأمم المتحدة في نيويورك عبر جامعة الدول العربية في القاهرة. وأما الحرب الثانية فذهبت بالإقرار الأميركي بهذه الولاية من أصله وهزت القناعة السعودية- الخليجية بالولاية نفسها أيضا وتبع ذلك عن كثب تصدر فرنسا الحملة على هذه الأخيرة. وقد عبّر عن هذه المواجهة بين منطق الوالي ومنطق مناوئيه تعبيرا متقابلا تمديد رئاسة أميل لحود والقرار 1559.
عند هذه النقطة، بدأ اتخاذ المواجهة طابعا سنيا شيعيا يصبح احتمالا متناميا بين احتمالاتها. وأصبح رفيق الحريري أيضا في عين العاصفة. كان القرار الدولي يقرن طلب الانسحاب السوري إلى طلب تخلي حزب الله عن سلاحه. وهذا الطلب الأخير – في مجلس الأمن – طلب أميركي خصوصا. وكان الحريري قد اقترع للتمديد، على كره ظاهر منه، ولبث متحفظا حيال القرار الدولي معتصما باعتبار مسألة السلاح الشيعي مسألة يعالجها الحوار الداخلي. وهو قد بذل جهودا كبيرة للترويج لهذا الفهم في الداخل والخارج. ولكنه اتهم مع ذلك، بسبب من موقفه في الداخل وحمولة علاقاته الدولية، بالضلوع في إعداد القرار وبرعاية المعارضة النيابية للتمديد. ثم حُمل على رحيل مهين من حكم بات محالا ائتمانه على المراد السوري منه في وقت تواجه فيه سوريا خصوما عربا ودوليين، معلنين أو غير معلنين، يعد الحريري أقرب الساسة اللبنانيين إليهم على الإطلاق والمهندس الأول لمنافذهم إلى “الساحة” اللبنانية والقيّم الأول، في الحكم، على مصالحهم فيها. ولكن بقي يُخشى أن يسفر اقتراب الحريري، بعد اعتزاله، من المعارضة اللبنانية التي توسعت وازدادت تنوعا في وجه الوصي السوري عن وضع لا يطيقه هذا الوصي. ذاك هو اشتمال تلك المعارضة على الجمهور الأعظم من سنّة لبنان. فهذا كان قمينا بقلب موازين البلاد جملة في وجه سلطة الوصاية. وبدا أن الحريري قد باشر ذاك الاقتراب فعلا بخطى جدّ حذرة.
حين اغتيل الحريري، فسّر الأمين العام لحزب الله امتناع حزبه عن المشاركة في التشييع بـ”شيء” سنّي شيعي شعر بوجوده في “الجو”. وقد بدا الأمين العام الذي حرص على إبراز علاقاته الطيبة، حتى النهاية، بالراحل، متعجبا من هذا “الشيء” وهذا “الجو”. ولم يكن الذين اكتشفوا هذا الشيء لتوّهم وتعجبوا منه بقلائل بين اللبنانيين. كان السنّة الحريريون، أي التيار الكاسح في الطائفة السنّية، قد انقلبوا جماعة، ومعهم حلفاء قدماء وآخرون أخذوا يستجدون، إلى مواجهة الوصاية السورية وطلب رحيلها وتنحية أعوانها اللبنانيين. وكان شرط الحيلولة دون أن يؤول هذا الانقلاب إلى مواجهة شيعية سنية أن يثبت كل من الطرفين استقلالا حسّيا عن المعسكر الذي حمل قضيته وأن يتبين الطرفان مع سائر الأطراف في البلاد صيغة لإرساء دولة مستقلة بدا أن فرصة نشوئها تلوح في الأفق.
كان الخروج السوري من لبنان قد ترك موازين السلطة في البلاد عرضة للتنازع المفتوح وقابلة بالتالي للميل إلى الجهة القابضة على ما يرجّح كفّتها. وكان في يد السنّة ما أثاره اغتيال الحريري وما سبقه وما تلاه من سخط لبثت أصداؤه ومفاعيله تتجاوب في البلاد وفي العالم. وهذا رصيد قيّم ولكنه أدرج، على الفور، في خريطة الصراع الشاسع المتشعب الذي يشكل التجاذب الأميركي السوري تجليا جانبيا من تجلياته. وكان في يد الشيعة سلاح حزب الله وهو سلاح سوري إيراني أيضا له في الخريطة نفسها قيمة مضادة للقيمة التي اتخذها دم الحريري فور وقوع الاغتيال. هكذا أمست زيادة التوتر محتمة ما بين الفريق الشيعي المهيمن بما له من أسنان والفريق السنّي المسيطر بما استجد له من أشياع.
كان حزب الله قد أصبح مضطرا إلى طلب موقع وطيد له في السلطة بعد أن انكشف عنها ظل الوصي الذي كان يتولى رعاية مصالح الحزب في دوائرها. وكان إبقاء البلاد بمنأى عن كُلَف الصراع المستعر في الجوار يفترض أمرين: 1- أن يثبت استعداد حزب الله لقرن دخوله حكم لبنان بالتخلي عن سلاح كان شرط تقبّله أصلا، فضلا عن الاحتلال الذي ولى، عزوف الحزب عن طلب نصيبه من السلطة. 2- أن يثبت استعداد التيار الحريري لتعامل مع الجريمة يشترك أطراف البلاد جميعا فيه فيقفون أمام مسؤوليتهم عن مواجهة يجمعون على صيغتها وحدودها لاعتداء وقع، في حقيقته، على بلادهم كلها ويقطع التيار بعزوفه عن اتخاذ هذا الاعتداء مطية، في تنازع السلطة المفتوح، له أو للطائفة التي يقود.
…إلى المأزق
ليس هذا ما حصل. بدا حزب الله أضعف من أن يستغني عن سلاحه ويستبقي مع ذلك وزنه في الطائفة وفي البلاد وفي خارجها أيضا. فكان أن ذهب إلى الحرب وأخذ البلاد إلى أزمة مهلكة ليحمي السلاح ومهمة السلاح وثمرات السلاح. وربما كان الحزب على يقين من كون دوره المحمول على أكفّ المدد الإيراني والتسهيل السوري والنصرة من الجهتين سينتهي إلى ذواء إذا أصبح غير ما كان إلى الآن. وهو الآن (أو بالأحرى منذ سنة 2000) حارس المهمة التي نذرت لها حدود لبنان الجنوبية منذ أربعين سنة. وهي مهمة المنفذ والجبهة لحروب يريد مشعلوها الحقيقيون أن يجنوا ثمارها من غير أن يتحملوا تبعاتها، معولين في ذلك على تهالك الدولة اللبنانية تحت ضغوطهم وعلى ما يعبر عنه هذا التهالك من هشاشة في نسيج المجتمع الوطني اللبناني كله. وقد أفضت هذه المهمة، بعد انقضاء العقد الأول على مباشرتها (1968-1978)، إلى احتلال إسرائيلي متماد لجنوب لبنان أكد بدوره شرعية الحرب إلى أن هزم ورحل. وكان أن أفضى التحرير نفسه، مرة أخرى، إلى كشف المهمة التي رتبها للبنان متعهدو الحروب فيه وقد ارتدّت مجدّدا، في ما يلي ذريعة مزارع شبعا المتهالكة، إلى العري من شرعية المقاومة. وبدا أن حزب الله لا يرى لنفسه مصيرا مقبولا أو مضمونا بمعزل عن هذه المهمة. في الجهة المقابلة، بدا أن إخراج الحريري المقتول إخراجا فعليا من حريرية سنّية أصبحت حاجتها ماسة إلى “أيقونته” إنما هو ضرب من المحال.
نتج تصدر المواجهة الشيعية السنية ساحة الأزمة، إذن، من اقتران أمرين: أ- العجز الحزب اللهي عن فك رهنه دوره في الحياة اللبنانية بالسلاح وبإرادة مصدّريه ومسهّلي وصوله و ب- جسامة التحول الذي مثله انتقال القيادة السنية إلى صدارة الحملة على الدور السوري في لبنان وعلى الحاجة الإيرانية- السورية، من ورائه، إلى منفذ محدود الكلفة وممتّع بحصانة سياسية لبنانية (أي بحصانة طائفية) على الحدود الإسرائيلية. اقترن الضعف الشيعي الاستراتيجي المتمثل بالحاجة المستمرة إلى سلاح بات يعزل أصحابه ويشكل عبئا عليهم وعلى البلاد بخروج الطائفة السنية، عمليا، من المجال الذي كان يحمي هذا السلاح في الداخل ويغطي تضعضع مسوّغه الوطني. وكانت الطائفة الخارجة هذه، قد أصبحت – غداة الحرب، ولأسباب تتعلق على الأرجح بهامشية دورها في الحرب بقدر ما تتعلق بحيوية الظاهرة الحريرية – أجزل الطوائف اللبنانية إمكانات اقتصادية وقدرة على استقطاب الموارد والكفاءات من خارجها أيضا وأوفرها علاقات في العالم العربي وفي العالم كله. فكان اللقاء بين الطائفتين، مع خروج الحَكَم السوري، يفترض، حتى لا يؤول إلى مواجهة، إبرام عقد لبناني جديد يضمن ألا يفضي اطّراح السلاح الشيعي، بعد الإقرار بضرورة الاطّراح، إلى ترسيخ الصفة الطائفية لوظيفة الإنماء في البلاد وللمرجعية القيمة عليها في السلطة. وذاك أن الشيعة كانوا قد أصبحوا، في ظل البنادق والصواريخ، أكثر الطوائف اللبنانية اعتمادا في “تجهيزهم” المادي والمعنوي على المعونة الخارجية المباشرة. وهذه معونة تقدمها وتملي شروطها دولة أجنبية واحدة أية تكن الحجب العَقَدية التي تحجب هذا الإملاء. وقد كان تقديم عرض مقبول، في هذا الميدان، إلى الشيعة يستوجب سلامة استثنائية في الحس الوطني عند طوائف أخرى أخذت تتصدرها القيادة السنية. وهي سلامة غير معهودة في الماضي القريب والبعيد عند الطوائف اللبنانية ولا بدر ما يشير إلى استجدادها. وكان يفترض أيضا أن يحظى إبرام العقد الجديد بمدد خارجي كثيف وطويل النفس مشفوع بما يضمن توجيهه نحو معالجة التفاوت الهيكلي المتنوع الوجوه بين أطراف العقد لا نحو توسيعه وترسيخه. هذا المدد لم يعرض إلا بعد الحرب واستعصاء الأزمة، أي حين أصبح يبدو مائلا إلى جهة واحدة وحين أصبحت قصاراه أن يداوي الجراح المستحدثة لا أن يلأم الكسور القديمة.
من أين جاء؟
من هنا جاءنا بلاء المواجهة السنية الشيعية. على أنه جاء أيضا من ماض أبعد. جاء من الظاهرة التي كنا قد أطلقنا عليها، ذات مرة، اسم “الطوائف المتخصصة”. وهي قد فرضت أن يتخصص “شيعة” لبنان، غداة حرب لبنان الطويلة، في “التحرير والمقاومة”، وذلك بعد ملاحم خاضوها لتحصيل هذا الاحتكار لهم ثم لحصره في طرف واحد من أطرافهم… وفرضت الظاهرة نفسها أن يتخصص سنّة لبنان في “الإنماء والإعمار” وأن يضرب بعرض الحائط ما للمهمتين من صفة وطنية. وقد سكت اللبنانيون دهرا عن تلزيم “المقاومة والتحرير” لطائفة واحدة منهم ولمن وقف وراءها ورتب لها، من الخارج هذا الاختصاص وأمن سائر مستلزماته: من الصاروخ إلى الأسلوب المشهدي للشعائر والمآل المهدوي للقتال وللسياسة. كان هذا السكوت أوفر لدماء سائر اللبنانيين ولجهودهم وأموالهم. و كانت غاية تضحياتهم أن يتلقوا بين حين وآخر شظايا ضربة إسرائيلية تأتي على حين غرة فيجهدون، ومعهم رعاة قريبون وبعيدون، لمداراة آثارها.
ولكن ثمن هذا التسليم كان أن يستفيقوا ذات يوم فيجدوا طائفة هي أوفر الطوائف اللبنانية عددا، على الأرجح، وقد أصبحت في غير واديهم بعد أن كانوا هم قد انسحبوا من واديها. من جهتهم، ترك الشيعة للحريري تحديد أولويات الإعمار ووسائله وأساليبه ومرافقه وتوزيعها على المناطق والقطاعات. وتلقوا لقاء هذا الترك وظائف وخدمات وتعويضات ونثار إنشاءات جاءت كلها أشبه بالرشا حين لم تكن رشاً موصوفة. وكانوا، في هذه الأثناء، ماضين في تجهيز طائفتهم، متوسلين إليه بالمدد الخارجي، ومحيلين دور الدولة، في هذا المضمار، إلى دور تابع. إلى أن استفاقوا فوجدوا أن شرط حفظهم لكل ما بنوه وقدرتهم على المضي، لا في الزيادة عليه بالضرورة، بل في مجرد تسييره وصيانته، إنما هو مضيهم في القتال وفي الموت ولو في غير أوانهما الوطني. فقد كانت تلك آية ملازمتهم لحمى الجهة الخارجية التي باتت قوتهم المعنوية في بلادهم والأساس المادي لهذه القوة رهنا بلصوقهم بها. وقد كان من كُلَف هذا اللصوق أنه حملهم إلى حرب على العدو ثم أشرف بهم على حرب أخرى أهلية.
على أنه قد يكون من ظلم النفس تصوير هذا البلاء وكأنه جاءنا بإرادة مريدين لبنانيين. فالواقع أنه تأسس واستقر في حرب لبنان الطويلة ثم توالت فصول نموه في عهد وصاية لم يكن فيه اللبنانيون مالكين لكثير من أزمّة أمورهم وكانوا في قاع غيابهم عن وطنهم وتشتتهم إلى طوائف أو في ذروة هذين الغياب والتشتت، والذروة والقاع سيان هنا. هذا فيما لم تكن أية عين من عيون الخارج الساهرة على مصائرهم غافلة عما يجري بين ظهرانيهم ولا بعيدة عنه. فإذا نحن قلنا إن شيعة لبنان فعلوا كذا أو أن سنته فعلوا كيت فقد نكون مبالغين في تكبير شأن الجهتين… أو في تصغيره. ويفضي افتراض المسؤولية نفسها إلى التكبير أو يفضي إلى التصغير بحسب الزاوية المختارة للنظر.
إلى أين يسوق الشيعة السنّة؟
في كل حال، لا ترجح شدة الاستقطاب الطائفي التي تطبع الأزمة الحالية – وخصوصا إذا هي تمادت واضطربت، مع تماديها، حبال الأمن – ثبات الموازين السياسية، في أية طائفة، على ما هي عليه الآن. قد تمتحن الاستفاقة على جسامة آثار الحرب التي نشبت في صيف 2006 والعقبات التي تحول دون مداراة الآثار على وجه مقبول، هيمنة حزب الله على المقاليد السياسية للشيعة. وهذا امتحان لم تفض إليه صدمة الحرب المباشرة، على نطاق يعتد به في الحساب السياسي. ولكن أعمق المفاعيل المرجَّحة لأزمة طويلة يصحبها خلل في الأمن، إنما يجب انتظار حصولها في الصفوف السنية. فهاهنا قيادة مدنية (هي القيادة الحريرية) تبدو ممسكة بالزمام طالما بقي الصراع سياسيا. غير أن في الحواشي السنية تشكيلات أخرى لا تزال هامشية أو سرية. وهذه لا تجنح إلى العمل المدني بل يشكل السلاح والمذهبة الدينية للسياسة عنوانها الأول. تنتشر هذه التشكيلات في الأطراف السنية من البلاد وفي البطون الفقيرة من المدن وخصوصا في طرابلس. وهي تجد ملاذات لها في المخيمات الفلسطينية أو يشكل بعضها زوائد لإسلام المخيمات السياسي.
ويشدد متابعون لأحوال هذه التشكيلات على ما يسود صفوفها حتى الآن من تعثر وتشعب في التوجهات ومن تنافس في ما بينها. فإن بعضها يوالي النظام السوري وبعضها يعاديه. ويناهض بعضها القيادة الحريرية ويرى بعضها البقاء على مقربة منها في الصراع الراهن. ويبدي بعضها، في ما يتعدى إجماعها على كره عَقَدي للشيعة، نوعا من الإعجاب بحزب الله ويرى فيه بعض آخر حصان طروادة لإيران مهمته تسهيل استيلاء هذه الأخيرة على قضايا إسلامية كبرى يعدّونها قضاياهم، إلخ. لذا لا تسهل معرفة من سيتحرك من هذه التشكيلات ولأي سبب (لبناني أم غير لبناني) ومتى. ولكن نزوع بعضها إلى التوحد في وجه القوة المسلحة الشيعية وإلى ارتجال نفسها قوة مسلحة لسنّة لبنان ليس بالأمر المستبعد إذا استشرت الأزمة الجارية وأضعفت مؤسسات الدولة العسكرية أو شَقّتها وامتحنت صمود الركن الحريري في السلطة السياسية. فإن هذا النزوع وما قد يصحبه من انتشار لهذه التشكيلات وتوسيع لدائرة جاذبيتها إنما يماشي منطق المحاكاة المعتاد بين الطوائف اللبنانية. وهذا فضلا عن كونه ينشئ وضعا مهلكا في البلاد يرجح أن يصبح احتواؤه – إذا هو تمادى – من قبيل المحال.
الهول…إذا أقبل
على أن ما يبدو راجحا، حتى تاريخه، في الموازين العامة للأزمة الجارية، إنما هو احتمال “الانهيار” لا احتمال “الانفجار”. والمقصود بالانهيار انهيار مؤسسات الدولة من سياسية وإدارية وعسكرية وغيرها وما قد يصحب ذلك من زلزلة للاقتصاد والنقد. ولا يفضي ترجيح احتمال على احتمال إلى استبعاد الثاني بالضرورة. فإن الانفجار يسعه أن يتلو الانهيار ويسع نذره أن تواكب هذا الأخير، ما لم يسارع من بأيديهم اجتراح الحل إلى اجتراحه.
ولعل هول الصور التي سيتمخض عنها، من غير شك، تواجُه السنّة والشيعة في لبنان يحدو بأصحاب المصالح الكبرى (ولا نقول العقلاء) في هذا الإقليم من العالم – سواء أوجد هؤلاء في الرياض أم في طهران أم في دمشق أم في غيرها، وهذا ناهيك بأركان السياسة اللبنانية – إلى بذل كل ما يستطاع لتجنيب لبنان هذه الكأس. وذلك أن احتدام الصراع السنّي الشيعي في الحلقة اللبنانية بعد الحلقة العراقية معناه الأول أن الحلقة العراقية غير صائرة إلى التطامن بل إلى حريق أشمل. ومعناه أيضا أن الحلقة اللبنانية ستليها حلقات أخرى. فإن لبنان، وإن يكن بلادا صغيرة، أرض تتجاوب كل قعقعة فيها إلى أطراف الأرض وينذر حريقها بأن يكون معديا حين يكون الشأن شأن الشيعة والسنّة. فالشيعة حين ينظر إليهم في الشرق المترامي من تركيا إلى الهند ليسوا ما كانه المسيحيون في حرب لبنان الماضية. وأما السنّة فمواطنهم من العالم معروفة الطول والعرض وأعدادهم ومواردهم معلومة أيضا. وفي “الفتنة الكبرى” الجديدة، إذا لم يدرأها العالم الإسلامي (والعالم كله)، ستبدو “الجمل” و “صفّين” “لعب عيال” على حد العبارة المصرية.
لعل الجسامة الكونية لهذا الهول تحمل أهل الحل والعقد (وهم لن يكونوا بمنجاة منه، زرافات ولا وحدانا) على أن يتحسسوه ويتدبروا أمرهم معه، أصلا وجملة، فيما يتعدى المصالح الساقطة والدعاوى الفارغة والتفاصيل السفيهة. ومع أن اللبنانيين قد غلبوا أنفسهم على أمرهم، قبل أن يغلبهم أحد من غيرهم، فإنهم يبقون طليعة المسؤولين عن هذه المهمة.
بيروت، أواسط نيسان 2007
ورقة قدمت إلى المؤتمر الثاني ل”مبادرة الإصلاح العربي” المنعقد في عمّان في 18 و 19 نيسان 2007.
أشياع السنّة وأسنان الشيعة : كيف حلّ بلبنان هذا البلاء؟
Wonderful research document