شهدت مدن وعواصم عديدة خلال السنوات الماضية منتديات إقتصادية دولية رافقتها إجتماعات دورية ساخنة لمنظمة التجارة العالمية، بالتزامن مع موجات متزايدة للغلاء وإرتفاع أسعار المنتجات والخامات الصناعية والزراعية، وما يرافق ذلك من إختلالات. وقد أثبتت الأحداث والوقائع والمفاوضات المعقدة وردود الفعل الغاضبة، أنّ الأجندة القديمة لمنظمة التجارة العالمية، لم تعـُد مناسبة لبحث ومعالجة القضايا الشائكة التي ترتبط بمصالح اللاعبين القدامى والجدد (الدول الصناعية الكبرى والتجمعات الإقليمية).
قبل ذلك.. وعلى امتداد العقد التسعيني الأخير من القرن العشرين شهد النظام الدولي تبدلات عاصفة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية العالمية، باتجاه إعادة صياغة العَلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول والأسواق لتصبح أكثر تكاملاً.. بيد أنّ منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية والنقدية الدولية كانت تسوّق تصورات جاهزة لإعادة هيكلة و تنظيم الأسواق وعولمة اقتصادات الدول بإيقاع متسارع أدى إلى مزيدٍ من البطالة والفقر في معظم دول العالم.
وفيما كانت الأفكار التي تسوِّقها منظمة التجارة العالمية وإلى جانبها المؤسسات النقدية والمالية الدولية، لا تجد من يتلقفها سوى النخب السياسية المتنفذة في معظم بلدان وحكومات العالم، كانت ردود الفعل الغاضبة ضد الصيغة المتوحشة للعولمة تكتسب عمقاً شعبياً بسبب اتساع نطاق ضحاياها الذين أفزعهم ودمر حياتهم انتشار الفقر والبطالة وغلاء الأسعار بصورة دورية ومستمرة، الى جانب إرتفاع تكاليف المعيشة، وضياع الشعور بالأمان وعدم اليقين بالمستقبل في مختلف بلدان العالم!!
اليوم.. ونحن على مقربة من الذكرى السادسة لأحداث 11 سبتمبر المأساوية تزايدت على نحوٍ خطيرٍ مؤشرات قوية لركود اقتصادي عالمي، وسط ظهور أزمات مالية واقتصادية واجتماعية، ومخاطر أمنية لم يسبق لها مثيل، ولم تكن في حسبان مهندسي العولمة بصيغتها المتوحشة الراهنة.. جنباً إلى جنب مع تزايد حاجة المجتمع الدولي لتعاون فعّال بين كل دول وحكومات العالم، لمكافحة الإرهاب وحل النزاعات الإقليمية التي تغذي ظاهرة التطرف والإرهاب.
اللافت للنظر أنّ أحداث 11 سبتمبر وما رافقها من تداعيات أبرزها إحتلال أفغانستان والعراق ــ بصرف النظر عن الموقف من نظامي حكم طالبان وصدام حسين ــ جاءت فلي سياق الترابط الوثيق بين ظاهرة الإرهاب عابر الحدود.. والأسواق المتوشحة عابرة القارات.. والخطر من ذلك انّ الإرهاب لم يكن نشاطاً حركياً مجرداً، بل كان ممارسة عملية لأفكار نظرية متطرفة أخذت تنتشر كالسرطان على نطاق عالمي، بعد أن ارتدت لباساً دينياً، وهو ما دفع بعض المفكرين إلى القول بأنّ هذه الأفكار لم تكن نبتاً شيطانياً بل نتيجة موضوعية لخلل موجود في بُنية الواقع العالمي.
يذكرنا هذا المنطق بالأفكار الشيوعية التي وصفها المفكر الليبرالي الإصلاحي “جون كينز” بأنّها ليست نبتاً شيطانياً، بل هي نتاج طبيعي لمظاهر الاختلالات والتشوهات التي أصابت الرأسمالية في القرن التاسع عشر.. فكانت عبقرية جون كينز وزميله لودفيج ايرهارد صاحبة الفضل في إنقاذ الرأسمالية من خطر الشيوعية، عن طريق تدخل الدولة في تنظيم الأسواق وتحجيم الاحتكارات الكبرى وإدخال تنظيمات تشريعية واقتصادية مباشرة لرعاية القوى العاملة وتوفير الخدمات الاجتماعية وإنعاش الاقتصادات المنكوبة بأزمات الكساد والتضخم.
خلال ما سُميت بالحرب الباردة، كان الاقتصاد العالمي يتوزع على ثلاثة محاور.. النظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق.. والنظام الاشتراكي الذي أوقف العمل بقوانين السوق وألغى الملكية الخاصة واستعاض عنها بالاقتصاد الكلي الذي تقوده وتخطط له الدولة.. أما المحور الثالث فقد تمثل في اقتصاد البلدان المستقلة والمتحررة من الاستعما، وكان خليطاً من نظام اقتصادي موجه يجمع بين رأسمالية الدولة المالكة لأهم القطاعات الإنتاجية والخدمية الكبرى، إلى جانب دور القطاع الخاص كشريكٍ مستفيد من دعم الدولة وحمايتها لنشاطه في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
في منتصف القرن الماضي حقق النظام الاشتراكي العالمي الذي كان يقف على رأسه الاتحاد السوفيتي نجاحات كبيرة في ميادين الصناعة والزراعة والعلوم والكهرباء والتعليم والإسكان والخدمات الصحية، حتى أصبح قوة ضاربة نجحت في ارتياد الفضاء الخارجي، وامتلاك السلاح النووي والطاقة الكهربائية النووية، وبناء ترسانة عسكرية جبارة.
اكتسبت الاشتراكية – كنظامٍ اقتصادي – جاذبية حفزت شعوب البلدان المتحررة حديثاً، على الاستفادة من دور الدولة في إطلاق آليات النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، والانفتاح على خبرة بناء الاشتراكية، الأمر الذي ضاعف حجم التحديات التي واجهت النظام الرأسمالي العالمي، خصوصاً بعد ظهور أشكال مختلفة من التنسيق والتعاون بين الدول النامية وبعضها من جهةٍ.. وبين الدول النامية والبلدان الاشتراكية من جهةٍ أخرى.. فظهرت دول نامية تأخذ بالتوجه الاشتراكي، ودول أخرى أخذت بأشكال مختلفة من الاقتصاد الموجه من قبل الدول إلى جانب اقتصاد السوق في آنٍ واحد.
من جانبها لم تقلل البلدان الرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق من خطر المنافسة مع الاقتصاد الاشتراكي، حيث أسهم المذهب الإصلاحي في الفلسفة الليبرالية الذي مثلته أفكار ” جون كينز” و “لودفيج ايرهارد”، في صياغة أفكار نظرية حديثة اعتمدت عليها الدوائر السياسية في البلدان الرأسمالية بإعداد برامج اقتصادية واجتماعية، أوكلت للدولة مهمات محددة في مجال زيادة التوظيفات الخاصة بالرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات التعليمية، والتدخل في ضبط الأسواق ومكافحة البطالة، ورفع معدلات النمو.. الأمر الذي أضفى على الرأسمالية طابعاً شعبياً فيما سميت الدولة الرأسمالية بدولة الرفاه.
في الاتجاه نفسه، سعت البلدان الرأسمالية إلى الاستفادة من وظائف الدولة الوطنية في البلدان النامية، واستثمرت بفعالية غير مسبوقة مختلف السياسات الرامية إلى حماية الإنتاج المحلي، فقامت بتصدير بعض الفروع الصناعية إلى أسواق هذه البلدان، وتحويل وكلاء منتجات الشركات الصناعية الرأسمالية إلى رجال صناعة محليين يضطلعون بمهام الصناعات التحويلية الخفيفة التي تؤمن ربحاً أفضل لمنتجاتها في أسواق البلدان النامية بالاستفادة من الإمتيازات التي تمنحها حكومات البلدان النامية لتشجيع الاستثمارات المحلية في مجال التنمية الصناعية من خلال تسهيل فرص الحصول على أراضي المنشآت الصناعية و تخفيض الإعفاءات الجمركية المفروضة على هذه المنشآت، وإصدار التشريعات الوطنية لحماية منتجاتها.
من نافل القول إنّ هذه الإصلاحات الرأسمالية لعبت دوراً حاسماً في إيقاف جاذبية الاشتراكية التي استنفذت قواها المحركة، فيما أدى الطابع الشمولي لنظامها السياسي القائم على حكم الحزب الواحد، الى تحول الحزب السياسي من أداة لتحفيز المجتمع على الإنتاج والإبداع والعمل، إلى جهاز بيروقراطي مالك للدولة ومواردها وامتيازاتها.. فكانت النتيجة الطبيعية اندماج وظائف الحزب بوظائف الدولة واغتراب المجتمع عنهما.. وشيوع مُناخ قاتل من السلبية والركود.. وصولاً إلى عجز مطلق عن مجاراة الرأسمالية في مختلف الميادين، الأمر الذي أدى الى دخول النظام الاشتراكي أزمة عامة وشاملة، انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية بدون حرب.. واختلال ميزان العَلاقات الاقتصادية الدولية لصالح البلدان الرأسمالية الكبرى، ودخول البلدان النامية مرحلة جديدة من الأزمات.
بتأثير انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء المنظومة الاقتصادية الدولية للبلدان الاشتراكية، وبلدان التوجه الاشتراكي في البلدان النامية، انتعشت الاتجاهات اليمينية التي تنادي بالعودة الى الأصول الكلاسيكية لاقتصاد السوق، والتراجع عن الإصلاحات التي تمّ إدخالها على النظام الرأسمالي، بدعوى أنّها كانت تنازلات ضرورية لمواجهة الخطر الشيوعي خلال مرحلة الحرب الباردة، لم يُعد ثمة ما يبررها ويستوجب إستمرارها بعد سقوط الشيوعية.
في هذا السياق شهد عقد التسعينيات في القرن الماضي استحداث وظائف ضاغطة جديدة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي باتجاه إعادة هيكلة اقتصاديات البلدان الاشتراكية السابقة، واقتصاديات البلدان النامية بما يتلاءم مع آليات الأسواق الحرة، وإيقاف تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد وإلغاء وظائفها الاجتماعية، وربط التدفقات النقدية بمؤشرات الأسواق النقدية والمالية التي تتحكم بها اقتصاديات البلدان الصناعية الكبرى.
إلى جانب ذلك ظهرت منظمة التجارة العالمية خلال هذه الفترة، واضطلعت بأدوارٍ ضاغطة إضافية، استهدفت تحرير التجارة العالمية، وإلغاء الحواجز الجمركية، وإبطال مفعول السياسات الحمائية بين الأسواق باتجاه تأكيد الحرية المطلقة لانتقال رؤوس الموال والمنتجات.. وما ينتج عن ذلك من تأثير سلبي على الوظائف السيادية للدولة، وإيقاف تدخلاتها في ضبط الموازنات التجارية الخارجية، وصولاً إلى عولمة العَلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، وتحويلها إلى نظام اقتصادي عالمي غير دولي، قاعدته الأساسية الأسواق ورؤوس الأموال والمنتجات عابرة الحدود.
مناهضو العولمة المتوحشة
لئن كانت البلدان النامية والبلدان الاشتراكية سابقاً، هي الميدان الرئيسي لضغوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإنّ ضغوط منظمة التجارة العالمية، شملت كل دول العالم بدون استثناء، الأمر الذي ألحق أضراراً كبيرة بمصالح طبقات اجتماعية واسعة في البلدان الصناعية المتقدمة، وإفقار المجتمعات بأسرها في البلدان النامية، بما في ذلك انتهاء الحاجة للصناعات التحويلية الخفيفة التي أقيمت في هذه البلدان، بعد أن حلّت محلها حاجة الأسواق الكبرى لإلغاء الحواجز الجمركية التي تحول دون التدفق الحر لرؤوس الأموال والمنتجات لصالح أوليغارشيات الأسواق وبارونات الشركات الاحتكارية العالمية الكبرى.
لعل ذلك ما يُفسر ردود الفعل الغاضبة التي تبديها الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات هذه المؤسسات الدولية، بواسطة المظاهرات الصاخبة التي تنظمها القوى المناهضة للعولمة المتوحشة في كل مكان تـُعقد فيه اجتماعات منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي،على غرار ما شهدته مدن أوروبية وأميركية عديدة سبق لها إن إحتضنت هذه الإجتماعات في السنوات الماضية، حيث تدعو هذه القوى إلى أنسنة العولمة، والتوقف عن فرض السياسات التي تسبب المزيد من الفقر والبطالة وتولد الخوف من المستقبل.
مما له دلالة أن تزايد النشاط المناهض للعولمة المتوحشة اكتسب طابعاً كونياً، واجتذب طبقات اجتماعية واسعة بما فيها شرائح عريضة من رجال الأعمال المستثمرين في مجال الصناعة والزراعة في البلدان المتقدمة والنامية طوال السنوات الماضية، حيث يطالب مناهضو العولمة بإعادة الاعتبار لوظائف الدولة السيادية في مكافحة الفقر وضبط الأسواق.. بيد أنّ ثمّة تساؤلات جدية حول المدى الذي يمكن أن تذهب اليه أوليغارشيات الأسواق وبارونات الشركات الاحتكارية الكبرى في الإصرار على فرض السياسات الرامية إلى تجاوز دور الدولة، خصوصاً في ظل الانهيارات الكبيرة التي أصابت أسواق المال والأسهم منذ أحداث 11 سبتمبر المأساوية وحتى الآن، وما تمخض عنها من بروز الحاجة إلى الاستعانة بتدخل الدولة في تخصيص توظيفات رأسمالية هائلة لدعم الشركات الخاسرة وإنعاش الأسواق وتحفيز الاستهلاك وإيقاف التراجع الحاد في مؤشرات النمو.
الأخطر من ذلك أنّ التقارير الصادرة عن مراكز البحوث الاقتصادية العالمية، أجمعت على التحذير من ركود خطير سيتعرض له الاقتصاد العالمي، من شأنه أن يُعيد العالم بأسره إلى أجواء الركود الذي حدث في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهو ما يُضاعف مخاطر الأوضاع المتدهورة التي يعيشها العالم اليوم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بالارتباط الوثيق مع تزايد الإنفاق العسكري على الحروب المستمرة في أفغانستان والعراق والقرن الأفريقي، وإرتفاع أصوات طبول الحرب التي تدق هذه الأيام ضد الإرهاب في مناطق إقليمية عديدة ومتفرقة، دون أن تتضح أهداف محددة أو حدود واضحة لهذه الحرب!
في الآونة الأخير درجت منظمة التجارة العالمية على اختيار مدينة “الدوحة” مقراً لعدة إجتماعات ومنتديات إقتصادية دولية، في مؤشر واضح يعكسُ رغبة في الهروب من مواجهة القوى المناهضة للعولمة التي تبيح لها الديمقراطيات الغربية إمكانية تنظيم تظاهرات حاشدة بهدف لفت الأنظار إلى أنّ ثمة قوى حية لا يمكن أن تستسلم لجنون أوليغارشيات الأسواق وبارونات الشركات الاحتكارية الذين يسعون إلى تدمير الحياة ا لإنسانية في هذا الكوكب.
فهل يقوى بارونات الشركات على الهروب دائما ً من مواجهة الحقيقة المرّة التي توجب إحياء دور الدولة في إنقاذ الاقتصاد العالمي من مخاطر الكارثة المحدقة به، بما في ذلك حاجة البشرية لدور أكبر تضطلع به الدول في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه وقطع مصادره المالية والثقافية؟
بوسعنا القول إنّ الإجابة عن هذا السؤال الجديد غير متاحة في الأجندة القديمة لمنظمة التجارية العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي قبل 11 سبتمبر 2001م، كما أنها لم تتبلور ــ بعد ــ منذ ذلك التاريخ وحتى الآن!!
ahmedalhobishi@hotmail.com
* كاتب يمني ورئيس تحرير صحيفة 14 أكتوبر في عدن