في زمن مضى، كان يُقال في لبنان، وفي العراق، أن “الشيعي شيوعي”! وفي زمن مضى، أنجب الموارنة، المتطرّفون بطبعهم، ومن “بكفيّا”، الحزب الشيوعي و..حزب الكتائب. وفي زمن مضى، كان “أحمد فارس الشدياق” أحد مفاخر الطائفة المارونية رغم خروجه عنها احتجاجاً على عسف الرهبان واغتيالهم لأخيه “البروتستنتي”! كما كانوا طائفة كتاب جبران المشهور “خليل الكافر”!
لكن “السياسة” انحطّت في لبنان، فصار أعلامها “رجال دين” مذهبيين و”جنرالات” فاشلين! واندثرت الطبقات، وكاد المجتمع المدني أن يضمحل، تحت وطأة الطوائف الفاجرة التي لم تعد “تخجل” من تمزيق الأوطان بذريعة الخلافات بين “المذاهب”!
ضاهر مرعي ريشا كان “ملحداً مُعلَناً” لأنه كان “ماروني الثقافة”، وكان “اشتراكياً” (في حزب “المعلّم” كمال جنبلاط)، وعابراً للطوائف، لأن المارونية التاريخية كانت دائماً الأكثر انفتاحاً على أفكار “الحداثة” و”التقدّم”.
ضاهر ريشا كان يحلم بـ”المواطنة” وبـ”الدولة الحديثة” والعلمانية! وحلمه ما زال حلم اللبنانيين في زمن الخيبة الراهن!
الشفاف
*
بمناسبة مرور اربعين يوما على وفاة المربي المناضل ضاهر مرعي ريشا نظم الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة الانماء الانساني وعائلة الراحل ندوة تكريمية له في قاعة الرعية في بلدته إجدبرا في قضاء البترون تحدث فيها نائب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي دريد ياغي ممثلا رئيس الحزب وليد جنبلاط، والنائب السابق سمير فرنجية، والعلامة السيد هاني فحص والاعلامي كمال ريشا نجل الراحل، ثم شهادات لكل من القاضي سليم سليمان، ورئيش حركة الانماء الانساني لاوون الحويك، وصديق العائلة عبده خوري.
ياغي
كلمة الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه النائب وليد جنبلاط ألقاها نائبه دريد ياغي فتوقف عند مناسبات ومحطات جمعته بالراحل المكرم، وأكد “أن العالم اليوم وفي ظل الواقع المتأزم نتيجة الصراع الاستعماري يحتم علينا البحث بكل عناية، عن وسائل تثبيت وحدتنا الداخلية في مواجهة مشاريع التفتيت والتقسيم التي يرعاها الاستعمار وأدواته الداخلية المتمثلة بالقوى الطائفية والمذهبية. فالربيع العربي الهادف بحراكه الى تحرر الشعوب العربية من أنظمة الاستبداد والظلم بكل اشكالها، والتحول الى الحرية والديموقراطية هو حق يتوجب علينا مؤازرته، كما انه الرد على مشاريع الدول التي تستعمل الأديان السماوية وسيلة لتحقيق مشاريعها السياسية والمشاريع الاستعمارية بكل اشكالها.” وتابع مؤكدا أن “وحدة الكيانات العربية، ومنها لبنان، لا يحميها الا النظام العلماني الذي يقو م على قاعدة الدين لله والوطن للجميع، وإن ذلك يتطلب منا نضالا وطنيا جامعا بعيدا كل البعد عن الطائفية والمذهبية البغضاء، فويل لأمة كثرت فيها الطوائف وقل فيها الدين!” وختم قائلا: “ان الاستقرار والتطور يقوم حتما على قاعدة العدالة والمساواة والوحدة، ولا يقوم ابدا على قاعدة التفرقة والتمييز والتعصب، وإن ما نعانيه اليوم في لبنان خير دليل على ذلك. مسؤوليتنا التاريخية والوطنية هي في بناء وطن واحد اسمه لبنان، وليس أي شيء آخر، بعيدا عما هو مخز ومتخلف ولا يليق بأي انسان.”
*
سمير فرنجيه
أيها الأصدقاء
تعرفت الى ضاهر ريشا في منتصف سيتينات القرن الماضي.
كنت طالباً في معهد الأداب العليا وناشطاً في صفوف اليسار، وشاءت الظروف أن التقيت حنا يعقوب من بلدة جران الذي كان يعمل في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي، فتعرفت من خلاله الى كمال جنبلاط، وأدخلني حنا يعقوب الى عالمه في منطقة البترون فتعرفت الى صديقه ضاهر ريشا، الأول في لائحة طويلة ضمت فيما ضمت الأب طانيوس منعم والأديب ميشال سليمان والمخنار يوسف مارون والمحامي أميل طربيه وآخرين.
منذ ذلك الوقت تربطني بمنطقة البترون، وتحديداً منطقة وسط البترون، علاقة خاصة. في اللحظة الأولى اعتبرتها علاقة موروثة عن والدي الذي كانت تربطه أيضاً بهذه المنطقة علاقة خاصة عبر عدد من الأصدقاء منهم يوسف ضو واسكندر ساره وميشال الفرخ الذين تعاون معهم في مكتب المحاماة، وكذلك المطران حنا شاهين من عبرين وسليم نجم من شبطين، وجاك شديد من أده وآخرون.
لكنني اكتشفت أن حميمية العلاقة ناجمة عن خاصية بهذه المنطقة هذه المنطقة التي ميزتها عن غيرها بضعف العصبيات العائلية والعشائرية التي تتحكم بمناطق اخرى كمنطقتي مثلاً، وبانفتاحها المبكر على عالم الثقافة، حيث يتحوّل أي لقاء الى مناسبة للحوار والنقاش في أمور الدنيا والآخرة.
ضاهر ريشا هو وريث هذه البيئة. فقد رأى في الفكر اليساري امتداداً لعصر النهضة الذي لعب فيه ابن منطقته، خيرالله خيرالله، دوراً مميزاً في بداية القرن الماضي مؤسساً مع مصطفى غلاييني وفليكس فارس وداوود مجاعص وجرجي نقولا باز جمعية “الشبيبة الحرة”.
دفعته قناعاته الانسانية والسياسية، الى الانتساب باكراً الى الحزب التقدمي الاشتراكي حيث شارك في المحاولة التي أطلقها كمال جنبلاط لإعادة تأسيس التجربة اللبنانية على قواعد جديدة بعيداً عن منطق الطوائف والمذاهب.
لقد فاجأتني على الدوام حداثة هذا الانسان. فهو رفض مسار الاختزال الذي بدأ يشق طريقه مع صعود الأحزاب الطائفية خاصة بعد العام 1958 والذي ولدّ العنف في لبنان: اختزال الفرد في الطائفة، واختزال الطائفة في حزب، واختزال الحزب في “قائد ملهم”، وظلّ يؤكد على أولية الفرد على الجماعة، الأمر الذي عرضّه، كما ذكر في احدى محاضراته، الى تهمة الكفر والزندقة.
لم يساوم هذا الانسان يوماً على قناعاته، بل كان شرساً في الدفاع عنها، معتبراً نفسه بحكم موقعه مسؤولاً عن فتح الأفق أمام الأجيال الصاعدة. وهذا ما فعله.
أيها الأصدقاء
نشهد اليوم نهاية النظام الطائفي الذي حاول ضاهر ريشا عبر نضال طويل اصلاحه وتطويره، كما نشهد وفي الوقت ذاته سقوط النظام الذي لعب دوراً حاسماً في الحرب التي دمّرت بلدنا.
لا شك في أن سقوط النظام السوري يشكل هزيمة للفريق الذي ربط مصيره بمصيره وتوّهم أنه قادر بفعل الدعم الخارجي على تحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه كل الذين من قبله حملوا السلاح بإسم مقاومة ما، مقاومة “لبنانية” ضد الفلسطينيين، ومقاومة “وطنية” دفاعاً عنهم. وصولاً الى الاعتقاد بإمكانية إعادة تأسيس لبنان بشروط طائفة بعينها واستبدال “المارونية السياسية” التي سقطت مع حرب العام 1975 بـ”شيعية سياسية” تدين بالولاء للنظامين الايراني والسوري.
لكن أحداً لا يستطيع توظيف هذه الهزيمة الموصوفة لصالحه. فالغالب الوحيد، وأعود هنا الى ضاهر ريشا، ينبغي أن يكون الدولة، شرط أن نحررها من الارتهان لشروط المجموعات الطائفية، وأن نعمل على إقامةُ دولة مدنية ديموقراطية حديثة تعيد للمواطن حقه في اختيار سلطته ومحاسبتها.
كذلك علينا أن نعيد الاعتبار الى السياسة، وأن نعمل من أجل ذلك على انشاء كتلة مدنية عابرة للطوائف تستطيع وضع ما جاء في اتفاق الطائف موضع التطبيق.
كما علينا أيضاً أن نعمل على “تنقية الذاكرة” من خلال مراجعة شجاعة ونزيهة لتجربة الحرب، والمساهمة في تجاوز ما سبّبته أحداث السنوات الأخيرة من تناحر خطر بين المذاهب الاسلامية، ووضع حد لنظرية “تحالف الأقليات ضد الأكثرية” التي لا يزال ينادي بها البعض بين المسيحيين والتي ساهمت في تأجيج العنف الذي شهدته البلاد.
يحتاج تحقيق هذه الأهداف الى التواصل مع هذا الرأي العام الواسع الذي برز مع ربيع بيروت، هذا الرأي العام الذي يتكوّن من اللبنانيين الذين عادوا الى ذاتهم، فاستخلصوا دروس الماضي وغادروا الحرب بعد أن غادرتهم أوهام الأستقواء والغلبة، وأقروا بمسؤولياتهم عما تعرّض له مجتمعهم، رافضين التردي السلبي في دور الضحية البريئة العاجزة، ذلك أن تحمّل المسؤولية عن الماضي هو الذي يؤهلنا لدخول المستقبل من بوابة آمنة.
أيها الأصدقاء
لو أخذ المسؤولون في الاعتبار بعض ما كان ينادي به ضاهر ريشا ورفاقه في الخمسينيات والستينيات لما وصلت البلاد الى ما وصلت اليه، وكنا بالتأكيد وفّرنا على أنفسنا كثيراً من الأحزان.
*
العلامة السيد هاني فحص
كمال ريشا الصديق .. الأخ .. شاب يغزوه الشيب . ضاهر ريشا الصديق – الأب .. شيخ يدل ما تبقى من شعرات سود في شعره على فتوّة ما ، أو مكابرة ، أما إذا احتدم الحوار فإن ضاهر ريشا يتفجر شباباً على إيقاع مخزونه الثقافي ، فينسيك فارق العمر .. ويجعلك تخاف أن يستولي البياض على شعر كمال لولا أنه مصرّ على الفتوة .. مع الحكمة أردت أن أعزي العائلة من خلال كمال وأهنئها لأنها وفقت الى أب تغلب الرفقة على أبوته أو تغالبها .
ضاهر ريشا .. في السطر الأول من سيرته المختصرة .. أثار غبطتي باسم والدته : ست الإخوة ، وكأن مرعي أباه ، قد قرر أن ينصف المرأة قبلنا بأكثر من قرن ، أو قرون ، فستتها على إخوتها .. لا أعتقد أنه قرأ قاسم أمين وأفكاره المتهم بها الشيخ محمد عبده ، في تحرير المرأة ، ولو كان اقتصر على قراءة ضاهر النص الإنجيلي ووصايا بولس الرسول ، من دون تأويل ضروري .. (الرجل رأس المرأة) .. وضاهر القرآن “الرجال قوامون على النساء” قراءة مطلقة أي غير نسبية ، ومن دون مراعاة للمتغير في المعارف والحياة ، كما يقرأ الحِرْفيون والحَرْفيون الدينيون ، وأنا منهم ، الذين يصرون على معرفة نمطية أحدية للدين ، ويلزمون بها من قد يعرف أكثر منهم ويؤمن بالله أعمق منهم ، لأنه مسكون بالسؤال الذي يلد السؤال ، وهم نائمون في الأجوبة التي تقفل باب المعرفة .
من أين أتى هذا الوعي ، لذاك الجيل ، الذي لم يتوفر له أن يقرأ إلا قليلاً من الكتب ، ولكنه قرأ الكون الكبير ، قراءة مباشرة من حركيته وتجلياته وأحواله .. بين الصحو والمطر ، بين الشمس والقمر ، وعرف الأرض وعرفته جراء العشرة .. وعاش عطشها وريَّها ، خِصْبَها ومَحْلها ، شجرَها عارياً ومُزْهراً ومثمراً ، وزروعَها خضراء كالرجاء ، أو صفراء ، كحِليِّ العرائس . وقطف تبغها مائلاً الى صُفرة في خُضرة ومراً كالصبر .. وذهبياً في آخر الموسم ، حلواً كالتين والزبيب .. وقبله وعندما كانت العناقيد تنادي (الكَرَكة) للتقطير والتثليث ، لتدب الصهباء في كيان مرعي ريشا وشرايينه وعينيه ولسانه ، قياساً على ما كان يحدث لنجله ضاهر ، حتى آخر يوم .. ويأتيه صوت ست الإخوة ، كالندى .. أو القهوة المرة ، فيصحو من سكره ، ويتفاداها بأمنية .
” لو أنتِ بكأسي خمرته .. وأنا وأُراقُ أنا .. جَمَمُ ” .
هؤلاء .. حرثوا الأرض فحرثتهم ، زرعوا فزرعتهم ، عشبوها فعشبتهم ، حصدوها فحصدتهم ، طحنوها وعجنوها ، فطحنتهم وعجنتهم ، وخبزتهم ، ذاقوها ، عاقروها ، فذاقتهم وعاقرتهم ، قداً الى قد ، وكتفاً الى يد ، ومعولاً الى محراث ، وجداً الى جد ، وأباً الى أم ، وعريساً الى عروس ، وراهبة الى قديس ، وحاصدة الى حاصد .. فتساووا في الأرض ، ساوت بينهم الأرض .
يا ضاهر ريشا .. يا شاهد الشوق وجريح الخيبة .. لم تعد الأرض وسيلة عيش وحياة واجتماع وإنتاج .. لم تعد لها مواسم ومواعيد وأعياد ، تلزمنا بالمصالحة والعونة .. صارت عقاراً يباع على الخارطة ، في المحكمة أو مكاتب الأحزاب والزعماء .. وهذا ليس حنيناً مرضياً زراعياً الى زمن البعل والبلدي .. ولكن المعمل والطبقة العاملة قناة التغيير والتقدم والعدالة ، لم تأتِ ، كما وعدوك في الكتب . ولم تأتِ الدولة ، بما هي مدينة تجمع المختلفين .. فمن يجمعنا ويساوي بيننا يابن ست الإخوة؟ ! وهل نحلم بمنعهم يوماً عن استخدام الله الواحد .. السلام ، المحبة ، في التجزئة والفتنة والحرب والكراهية!!!
يا ضاهر . لقد تقدمنا كثيراً على طرق يُعبّدها الآخرون ، ونملأها بالحفر والمطبات .. وست الإخوة ، المرأة ، نصف الدنيا الأخصب والأجمل .. ونصف الآخرة أو أكثر .. ما زالت أشبه بالأمة أو الجارية ، وما زال مقعدها في آخر القاعة ، فإن تقدمت في مجلس النواب ففي ظل الذكر .. وريثما يأتي الذكر لتعيد اليه مقعده .. وها نحن .. مساجدنا وكنائسنا أكثر أو أكبر أو أفخم أو أنظم من جامعاتنا .. ومشايخنا أكثر عدداً من حروف القرآن والإنجيل وأعمال الرسل ، وصلواتنا أطول من بال القديسين وأقطاب الصوفية . والدين قليل .. أعني الحب .. “وهل الدين إلا الحب ! “.
والمتدينون الذين يحتلون الصورة ، كما قال الحسين عندما بلغته خيانة الجماهير “الناس عبيد الدنيا والدين لَعَقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم ، فمتى مُحِصّوا بالبلاء قلّ الدَيّانون “.
ولجلال الدين الرومي :” ليس للدين رائحة .. فهو سر مكتوم في مائة غلاف”.
وأنا أقول لكم : إن كفريات ضاهر ريشا اللفظية ، والتي أمطرني بها ذات مساء ، في دار فرح العطاء في كفيفان ، بحضور المعلم قبريانوس ، صديق ضاهر ريشا ، واعتراضاته الصامتة .. كفريات ضاهر أقرب الى الله أو الى قلب الله ، من أكثر تلاوات من يتبتلون في النهار ، ويقتتلون في الليل .
وكان جسده الضئيل يختلج وكأنه فرخ حمام مذبوح ، يذبحه قلق فلسفي أذاب شحمه ولحمه ، حتى بدا وكأنه لا يأكل إلا قمحاً وعشباً مسلوقاً في آنية كمال جنبلاط ، مع فارق أن جنبلاط كان يرخي عينيه في صدره ، أما ضاهر ريشا فكان عقله في عينيه ، ولذلك كانتا تبحلقان كثيراً .. أما قلبه ، فلم يكن يقيم في مكان واحد .. كان يتقن الحب ويبحث عن أحبة .. أما أنه تقدمي اشتراكي وفي التأسيس ، فهذا يعني أنه عَبَر الجغرافيا والتاريخ والدين والمذهب بلا جفاء أو بغضاء .. بحثاً عن الحق والحقيقة .
وما هو الحق يا ضاهر .. يقول ضاهر : لم اصل .. وعرفت الباطل ، عرفت ما لا أريد .. أما ما أريد فلا أظن أني سأعرفه كاملاً .. أو وحدي .
حسناً .. والحقيقة .. قال : عندي حبة منها أو حفنة ، وإن لم يحاورني أحد أو كثيرون فيها ، فسوف أنساها أو أبددها .. بالحوار وحده تصبح الحبة قبة .. وبشروا أهل القطيعة بمزيد من الجهل .
أثار ضاهر ريشا فيّ أسئلة وهواجس ، لو كنت واجهتها في مقتبل عمري لاصبحت علاّمة عصري . أرهقني في ساعة كانت دهراً .. حتى أحسست بالعطش والنعاس .. وتوسلت بعيني المعلم قبريانوس ليحررني من شغب هذا المثقف الغامض .
في السطر الثاني من السيرة .. أثار غيرتي .. لأن معلمه هو الخوري طانيوس منعم .. لقد تعودت في شبابي على التسكع بين مكتبات دمشق ، التي أخشى أن نتسكع بين خرائبها ومقابرها بعد أن ينتهي (خريف البطريرك) بطريرك ماركيز .. وعلى رصيف في المرجة وجدت كتيبات للخوري طانيوس ملونة .. تمر بالصهيونية وفلسطين وجذور العيش المشترك في لبنان .
وفي طقس ميلوديا عربية ، تتنقل بين الحجاز والنهاوند .. كنت أبحث عن الخوري بين الكلمات .. حتى بدا لي الرجل كتاباً أوسع من كتبه .
وكنت قد عشقت عبد الله العلايلي الشيخ السني الذي عرفني على الحسين ، وميشال سليمان الذي هداني الى نقد الواقعية الاشتراكية الغوغائية عندما ترجم (إرنست فيشر) في (ضرورة الفن) وكنت وما زلت مدهوشاً بأدونيس ، محباً لجورج جرداق وعشقه لعلي .. وكان طانيوس منعم شريكاً لهذه الكوكبة .. ومن هنا أخذت أتسقط أخباره فيتعاظم شوقي لرؤيته .. خاصة عندما اكتشفت انه جاد في عيشه لوجع الكادحين وعلى غير طريقة أحزابهم .. وقد تفاقم هذا الشوق عندما عرفت أنه يعاني كما أعاني من كونه في قوم ليس منهم ، لا يكرههم ولكنهم ممنوعون من محبته ، ويخافون على أعناقهم وأرزاقهم التي لا تتأمن إلا بالإذعان .. عوقب .. وعوقبت أقل منه .. لأن بيئتي الدينية فردية جداً لأنها منعت من السلطة وبقيت في نعمة المعارضة التي تتحول الآن الى سلطة مشوهة. ما يجعلنا لا نتوقع الحرم أو نعيشه ، كما عاشه طانيوس منعم .. ولكنه عوّض عن الحرمان وعالج النبذ بالإقامة في قلب يسوع .. وآلام الخراف الضالة .. ثم رأيته صدفة لدقائق .. وكأني رأيت أحد شيوخي . وسرني أن وجدت وجهه أشد سمرة من وجهي ، على لمعة كلمعة أوراق التبغ الناضجة ، أو القمح البلدي قبيل حصاده . واشتعلت نار الغيرة ، التي تحررت منها ثم أشعلها فيَّ تلميذه ضاهر منعم .
أنا أكره الخمرة ، لأن زمان الصحو قليل ، وآلامي وأوجاع أهلي واشواقهم ، تحتاج الى عناية وعناء أشد ويقظة .. ولكني لا أكره شاربيها، إن كانوا طالبي نشوة أو نسيان .. وخاصة إذا كانوا نصارى .. بشرط أن لا يهملوا الصحو بين سكر وسكر أو اثناء سكرهم.. حتى لا يخسر لبنان وعياً بمعناه وتشويهات هذا المعنى.. وقد أحببت ضاهر ريشا قبل أن أراه، عندما روى لي ولده الرؤوم كمال ، دون أن تحرجه مشيختي.. رواية قارورتين أفرغهما أبوه في جوفه .. ذات أحد .. من دون أن يبخل على نجله بنذر يسير من كنزه الأثير.. ومن دون أن ينبس ببنت شفة .. كأن الخمرة التي تفك أسر عقله وخياله تعقد لسانه. وحسناً تفعل .. فيشع حباً ويذهب الى الخّيام ملك الخمريات الإلهية ، مترجماً للرباعيات .. ولو كنت قرأت الخيام مبكراً لتحصل لدي احتمال بأن تكون الخمرة حلالاً .. أستغفر الله .. ولكنها أقل حرمة من دم الأطفال في ريف دمشق .
ولكن ضاهر ريشا يعتقد ان الخمرة واجب كوني ، لأن الجنون هو الحل على مذهب كل المتصوفة .. وقول أدونيس : ” لم يبقَ غير الجنونْ .. هذه ساعة الهتك العظيم أتت .. وخلخلة العقول “.
في هذه الحالات الإفتراضية للنشوة الكاشفة يحضرني سعدي الشيرازي :
” أنا سكران وأنت مجنون ، فمن يدلنا على البيت إذن “.
تقديري أن البيت يأتي إلينا طوعاً وحباً لأنه مسكون بنا . إن كنا مسكونين به .. أعني الوطن .
ويا ضاهر لا تذهب الى بيتك ، لأن أم البنين ، زوجتك ، كنّة ست الإخوة ، لن تكون في انتظارك .. تعال .. الى الزيتون .. وهموم زارعيه .. وكأني ولدك فقد قضيت في خدمة أهل الزيتون عمراً وتعلمت لغة الزيت . تعال ، الى حقول التبغ ومزارعيه ، أهل المر والصبر ، لعلك تحلّي ليلة من لياليهم الطويلة .. تعال وأنا في انتظارك حيث ولدتني أمي الى جانب الشتلة ، وعندما عرف المزارعون أصلي الزراعي ، نصّبوني شيخاً في انتفاضتهم ، لأيام أحبني فيها كمال جنبلاط ، كما أحبك ، وأنت تخطر بين الحقول ورفوف الكتب .
ضاهر ريشا .. أغبطه وأغار منه .. كما يغار الورد من الغار .. وأحسده .. على دراسته الابتدائية في مدرسة الفرير .. وأنا كانت مدرستي الأولى تشبه الخيمة .. أما على دراسته التكميلية فلا أحسده ، لأني مثله ، نلت شهادتها مشياً على الأقدام ذهاباً وإياباً ساعة تحت المطر وأياماً تحت الشمس ومن دون ملابس صوفية .. وأحسده على الثانوية ، التي نلت شهادتها منتسباً الى البرنامج السوري (الموحدة) بعد نهاية دراستي في الحوزة .. ولكني لم أنل شهادة البعث ولا أريدها حتى لو تم توقيعها أو قبولها أو اعتمادها كمؤهل علمي ديني أو سياسي في الحوزة . وأظن أنه سوف يغار مني على ألمي ورجائي في أن أرى الشعب السوري حراً موحداً بعد ألم كثير وصبر طويل وقصور وتقصير عربي ودولي مرير .. واندحار الاستبداد الديني الفاجع بعد الاستبداد الأسدي المروّع .
سلاماً أيها الأحبة .. سلاماً ايها الموسوعة المختصرة في جسد نحيل وشخص أليف وشريف .
*
كمال ريشا
من أين أبدا ؟
من الرجل المستقيم الذي عرفته طوال حياتي مكافحا معاندا قامة لا تلين حتى رمقها الاخير.
من المربي الذي افنى عمرا يدرس، وما نجا منه طالب حتى وهو في بيته.
من الماروني، الذي تعرف الى الشيوعية ومنها الى الاشتراكية باكرا، فكان مع حنا يعقوب والخوري طانيوس منعم علامات فارقة، حتى قيل عنهم، ان في البترون أفعى برؤوس ثلاث يجب ان تقطع.
من الرجل الذي كافح ليعلي شأن العلم فأسهم في ارسال عشرات الطلاب بمنح الى الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الشيوعية.
من الرجل العلماني الذي وقف يوما الى جانب الامام موسى الصدر مفتتحا مسجدا في بلدة داعل .
تعرفت اليه في العام 1975 حين اجبرته الحرب الاهلية على ملازمة المنزل، وتعمقت معرفتي به، حين أجبرتنا الظروف عينها على الهجرة الى سوريا، فاكتشفت الوالد العاطفي القلق الذي تدمع عيناه، وفي سوريا بدأت اتعرف الى شذرات من الوالد السياسي، والوالد المدرس، والقاريء النهم، وكنت أحيانا لا افهم، وانا في الخامسة عشرة من العمر، الأليات المنطقية، والفلسفية التي تحكم نظرته الى الله والدين والدنيا، التي طبعت فيه أنسنة مرهفة تتجاوز المشاعر الخاصة الى البعد الانساني الاعم والاشمل للتعاطي مع الاخ الانسان قريبا كان ام غريبا.
في أيامه الاخيرة، أبت الروح ان تفارق الجسد لكأنها أرادت ان تواصل امتحان قدراته على التحدي والمكابرة حتى الرمق الاخير، وكان يعاند ويكابر رافضا الانحناء، فاختار والدي، بعد ان جاوز التسعين عاما، ان يفارقنا على طريقته كما عرفناه منتصبا صلبا، قوي الشكيمة، يختار كلماته بعناية ويجهد في إخراجها من فمه لتصل الى مسامعنا واضحة جلية، بعد ان بدأت ملكة النطق تخونه، وقواه تخور تدريجا، من دون ان يفقد ذرة من وعي وذهن متوقد، لكأني به كان يقول لنا يوميا إن عقلي، لطالما فاق جسمي، حجما وقدرات، وهو آخر الخلايا الحية التي ستبقى تنبض حتى بعد التلاشي العام.
هكذا كان وهكذا بقي حتى الدقائق الاخيرة يطالبني بأن اتابع اتصالا كان بدأه لطالب حاجة، وبان انفذ وصيته، كاملة غير منقوصة.
نحن عائلته الصغرى نفتقده بيننا، كما تفتقده عائلته الكبرى في البترون وفي الحزب الاشتراكي وعزاؤنا انه زرع فينا إنسانيته المفرطة واشتراكيته العلمانية المنفتحة على الآخر دينا والتزاما سياسيا واجتماعيا.
لا ادري يا والدي إن كنت ستنام قرير العين فما جاهدت من اجله أكلته المتغيرات التي لم تكن يوما في الحساب فالتعليم لم يعد رسالة، والعلمانية ضاعت في غياهب مصالح الطوائف والمذاهب، والاشتراكية التي عرفتها فقدت بعضا من بريقها وطهرها واصبحت التزاما ضيقا ولم تعد التزاما بنهج اعم واشمل يضع الانسان في مقدم الغايات.
ولكن ما تربينا عليه معك لن يستطيع احد انتزاعه منا فلعينك ان تقّـر بنا فنحن سنحافظ على الاستقامة وسنكون كما اردتنا دائما منفتحين علمانيين مدنيين، ولن يخيب ظنك بنا يوما.