هدرت مصر أخيراً، الحجرة الثانية، الأثقل، من بعد تونس، وأطلقت العنان لغضبها، بما يليق بها، بماضيها الريادي وحاضرها الأسطوري ببؤسه وحزنه ومأساته. فكانت انتفاضتها مزلْزلة، امتصّت شغفنا السياسي اللبناني شديد المحلية والضيق، وخطفت نظرنا نحو ما هو أعلى، أعمّ، أهمّ، أقوى. إنها منطقتنا بأسرها التي سوف يتغيّر وجهها، لو خرجت مصر سالمة من انتفاضتها. قبل ذلك، كانت الهزيمة أو الانتصار المصريين، وما بينهما، تصبغ علينا مشهدنا الخلفي والأمامي، وتحيي آمالنا وإحباطاتنا. «إصحي يا مصر…!»، كنا ننادي، ونيأس منها، وبكل ما يجمعنا بها.
استيقظت مصر أخيراً. ولا يهم من الذين سوف توصلهم إلى حكمها، فلن تكون مصر فعلت أقل من تحريك عجلة تاريخنا الغارق في خلافات بيزنطية، الدائرة حول نفسها، العقيمة العرجاء. كانت قبل أيام هي قيادتنا نحو الانحطاط، نجرْجر خلفها أرجلنا مثقلين بالقهر والفساد. وها هي اليوم تعِدنا، ثانية، بأنها سوف تكون قيادتنا نحو نهضة محتملة.
وحتى هذه اللحظة المبكرة من تاريخ انتفاضتها الأولى في هذه الألفية الجديدة، خلعت مصر واحدة من الثوابت التي كنا اعتقدناها قدراً محتوماً: أعني بها الثابتة التي درنا حولها، من فوقها ومن تحتها منذ عقود. ذاك التخيير، الذي بدا لوهلة أبدياً، بين المقاومة وبين بناء الدولة. «خلاص»، انتهت الثنائية التي كانت تجهض، في المشرق العربي خصوصاً، كل إرهاص من إرهاصات بناء الدولة، وتحبط كل المطالبات الدائرة في فلكها، جاعلة «خيار المقاومة»، ولو ربما للحظات، هو المنتصر على بناء الدولة.
الانتفاضة المصرية ليست ابنة اللحظة الما بعد تونسية، وإن استقت منها النَفَس والإرشادات وتكتيكات التظاهرات ضد شرطة متوحشة، بل هي فعلاً نتيجة تراكم خبرات في التظاهر والاعتصام والوقفات التضامنية الممنوعة عن التحرّك. في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2004 ، انطلقت أولى صرخات جماعة كفاية «لا للتمديد! لا للتوريث!»، غير مسبوقة، بعد عهود من الصمت المطبق. وتلتها انطلاقة الصحافة والتلفزيون المستقلَّين، بما تمكنا من انتزاعه من حرية نسبية جداً، والحركات الاحتجاجية السياسية المختلفة للقضاة والعمال، ومن بعدهم لأهالي المهن المختلفة. عام 2006 مثلاً شهد 170 اضراباً، بوقع اضراب واحد كل يومين.
الحركة الالكترونية بدورها ليست مستجدة: شباب «6 ابريل» الذين أقاموا جماعتهم على «الفايس بوك» كانت لهم جولتهم الأولى في نيسان/ ابريل 2008 من الاضراب العام والتظاهر دعماً لمطالب عمال المحلة الكبرى. وقد تعرّض تحرّكهم ذاك لأبشع هجوم من الشرطة، ولم تفلح مبادرتها. لكنها تعلمت مما سبق، هي والجماعات الشبابية الافتراضية الأخرى… فكان ما كان من نجاحها الخارق، الذي لم يكن أعضاؤها يتوقعون شيئاً من جبروته، وقدرته على هزّ عرش أصمّ غبي وعنيد.
ما الفرق بين كل التحركات التي سبقت وبين هذه الانتفاضة الظافرة؟ أمران مترابطان: طبيعة الشعارات المرفوعة أولاً؛ لقد شاركتُ في التظاهرات السابقة، وأكثر ما كان يلفتني انعدام اهتمام المارة بما يُرفع من شعارات، بل سخريتهم من أصحاب هذه اللغة العصية عليهم. فالغالبية العظمى من التظاهرات كانت تجري استنكاراً للغزو الأميركي للعراق، أو للبطش الإسرائيلي بالفلسطينيين في الانتفاضة الثانية وحرب غزة. أما القليل المتبقي منها، فكان مكرساً للتنديد بالتمديد لمبارك والتوريث لابنه جمال. ومع ذلك، مع كل ما تنطوي عليه شعارات هذه التظاهرات من أوجه حق، إلا أن عدد المشتركين بها كان أقل من عدد قوات الشرطة المولجة إبقاءهم حيث هم، لا يتحركون، لا يمشون… فوق سخرية المارة وعدم مبالاتهم. الانتفاضة الأخيرة، لمّت الناس عليها لأنها ترفع مطالب معيشية مباشرة. ليس أسهل على المصري من لمسها في يومياته؛ من عمل وفقر وإهانات شرطة وفساد إدارة… وهي، أي المطالب، خضعت طوال الأيام التي تلت تصدرها للتظاهرات لتطور سياسي هام ربطت بموجبه بين هذه المطالب وبين طبيعة النظام، فصارت الشعارت لوحدها تطوف على التظاهرات داعية إلى إسقاط النظام ورحيل مبارك وطاقمه. إنه درس مكثف في العلوم السياسية تلقته الجماهير الغفيرة المشتركة في الانتفاضة، وثمن هذا الدرس الثمين هو فقط هذا الاشتراك. لا فلسطين، ولا العراق، ولا أي من العناوين المجردة استطاع أن يجذب كل هؤلاء الناس؛ وحدها الأمور المتعلقة بهم مباشرة، بلا تجريد ولا نظريات، هي التي دفعتهم إلى صناعة انتفاضتهم. ولأنهم كثر، أينما وجدوا، كان عددهم هو كعب أشيل عدوهم المطلق الشراسة، الشرطة، التي فر أفرادها من هذه الكثرة، التوراتية بدورها. هكذا انعقد الموعد بين مصر والقدر: من المعيشة إلى بناء دولة ديموقراطية، كان التدفق الخارق للناس إلى الشوارع، لا منع تجول ولا حرامية ولا مراوغة يوقفون الهدير المطالب برأس الهرم بالرحيل. وباسم مطالب تتعلق كلها ببناء الدولة والقانون والمؤسسات والديموقراطية. خصوصا الديموقراطية؛ الذين نزلوا إلى الشارع منذ البداية تعلموا معناها، معنى أن يكون للشعب الحق في اختيار من يمثله، والحق بترحيل من يقول إن «القدر» وحده جعله رئيساً للجمهورية، لا الانتخابات. وكل هذا لا يكتمل إلا بترسيم الحدود الوطنية: «مصر أولاً«، هو الشعار الذي لم يكن يحتاج إلى الرفع. مصر كانت حاضرة في كل ما يمكن أن يبثه المناخ من ردود فعل ومشاعر وأفكار وانطباعات… استعاد المصريون مصريتهم، أو قلْ، مصريتهم إعادتهم إلى التاريخ. «مصر أولاً« ومن دون الشوفينية المجروحة البائدة، مصر أولاً بفرحة من استعاد وطنه ووضعه في قلبه، بعدما كاد هذا الوطن أن يصير أضحوكة للشامتين. كان المصريون عزيز قوم ذلّ، وها هم الآن شعب تتغير ملامح وجهه وتحل عليه غبطة من قرر أخذ مصيره بيده.
وهذا ما فهمه جيداً الاخوان المسلمون، المرشحون الأقوى لوراثة العهد المباركي، عندما التحقوا بالانتفاضة في يومها الثالث، أي بعد نجاحها الباهر، فأوعزوا إلى أعضائهم بعدم رفع شعارات إسلامية أثناء مشاركاتهم، خصوصاً شعار «الاسلام هو الحل»، أو «الموت لأميركا!»، وبالالتزام بالشعار الواحد «إرحل«!.
فالاخوان ليس لديهم اهتمام بالقضايا المعيشية إلا بالقدر الذي يساهمون تحت عناوينها بإقامة المشاريع الخيرية المسوّقة لمشروعهم السياسي الديني. ولكنهم تعلموا من تجربة نيسان/ ابريل 2008 التي قادها شباب «الفايس بوك» أن لا يتأخروا إذا أزفت ساعة القدر. الاخوان ليسوا المبادرين إلى إطلاق شرارة الانتفاضة الشعبية، ولكنهم لن يتركوها تفوتهم. إنها الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر إلا بعد أجيال، للأخذ بثأرهم التاريخي، ليس من نظام مبارك فحسب، الذي طاردهم طويلاً وطردهم في الفترة الأخيرة من البرلمان، والذي أنعم عليهم بمجتمع متأسلم بفضل مزايداته التي لا تفنى، بل الثأر من مؤسس هذا النظام، الناصري، الذي شنقهم وزجهم في السجون. وهم فوق ذلك القوة الوحيدة المنظمة، أكبر قوة منظمة في مصر، يبهت أمامها «التجمع» اليساري و»الوفد» و»الكرامة» و»الناصري»، فضلاً عن «الشخصيات المعارضة» في نجوم الفضائيات العربية… وإذا صحّ أنهم هم الذين «عينوا» محمد البرادعي مرشحاً رئاسياً لهذه الانتفاضة، فيكون مشروعاً التساؤل عن المنحى الذي سوف تتّخذه نتائج انتخابات حرة ونزيهة، بعدما يرحل مبارك وتتألف حكومة موقتة تعدّ لهذه الانتخابات. وإن كان محمد البرادعي سوف يلعب الدور نفسه الذي لعبه محمد نجيب مع الضباط الأحرار عام 1952: أي الواجهة المقبولة من العالم الخارجي، ثم العزل، ثم الإقامة الجبرية مدى الحياة…
السجال لا بد أن يبدأ، لا في أحقية الاخوان بنيل ما يستحقونه من أصوات، فهذا من بديهيات نتائج هذه الانتفاضة، أي تغيير النظام؛ بل في الأبعاد الفكرية التي سوف تلجها العقول، وخصوصاً الشابة منها، تلك التي قدحت شرارة الانطلاق.
منعاً للآثار الارتدادية للتفاؤل، علينا التنبّه إلى أن الأمور قد لا تأخذ هذا المنحى؛ ولكن لنفترض بأنه سوف يتاح لنا أخيراً مناقشة الإسلام السياسي من دون خوف من غوغاء ومزايدات ولا شيوخ البلاطات. ومن الموضوعات التي سوف يكون لها نصيب تلك المتعلّقة طبعاً بالغرب. الحكومات الغربية فعلت ما تفعله الدول غير الايديولوجية: راحت تلعب على الحبل الدقيق، واضعة احتمالي النجاح والفشل لهذه الانتفاضة. كما فعلت مع بن علي، سوف تفعل مع مبارك: النظام الصديق تتوقف صداقته عند نجاح هذا «الصديق» أو فشله في البقاء على عرشه. لا مكان عند هذه الدول للصديق الخاسر. هذا عن الغرب كدول وإدارات ووزارات ومصالح مباشرة وديبلوماسيين. أما الغرب الثاني، فلا مكان لنكران جميله:
التكنولوجيا الغربية، أولاً، والتي تستتبعها أشكال جديدة من التجمع والتنظيم، تتوحد عبرها مع بقية البشرية وتخرق كل الحدود الجغرافية – السياسية. لا يجب أيضاً المكابرة على كون الانتفاضة المصرية تنقل مفاهيم وتجارب غربية. دولة القانون، المؤسسات الديموقراطية، التداول والانتخابات وحكم الشعب… التجارب والتمرينات والتطبيقات لا تنضب. ومصر مقبلة على هذا السجال إذا بلغت التداول والانتخابات، وهو نصر لا نحلم بغير حدوثه.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل