فى خطاب شهير، قال جون كيندى لمواطنيه: لا تسألوا ماذا قدمت لكم أمريكا بل ماذا قدمتم لها. الوطنية هناك مختلفة عن الوطنية بعالمنا القصير، الوطنية بعالمهم تتطلب من الفرد تقديم الكثير مما يستطيع الوطن استيعابه والسماح به.. تتطلب المشاركة فى الوطن وبمؤسساته وجمعياته الأهلية، بتقديم الأفكار، بالخلق، بالنقد، بالتركيز على الفكر الفردى لا الجماعى. بتنمية روح الثقة والمسؤولية بين الصغار، بمنح الجميع الحرية الشخصية التى تكفل لهم تكوين حياتهم بالطريقة التى يحددها الفرد لا المجموع. تلك الحريات الواسعة والمشاركة الواجبة تدفع المواطن حتماً لمطارحة وطنه الغرام.
عندنا يطلب الوطن شيئا مختلفاً، يطلب منك الكثير مما لا يمكنك تقديمه إلا فى حالة واحدة، حين تخصى عقلك وتتحول لأحد غلمان سيدك الوطن، يغتصبك متى شئت أنت وكل أهل دارك.. الوطنية تحتم أن تصمت وألا تتدخل بشؤون المكان الذى يطلق عليه وطن، فلا تحق لك المشاركة بصناعته، والحريات المسموحة قدرها صفر. السيد الوطن يحرمك من أساسيات الحياة ورفاهيتها، يحبسك، ينهال عليك ضرباً، لأنك حاولت التدخل بالشأن الأعلى، فما أنت سوى مارق على أرضه، ولك فقط حق التدخل بشأنك الحقير المتعلق بأكلك وملبسك، السيد الوطن يهين وعيك البشرى ثم يأمرك بأن تموت لأجله. كيف وقعنا بحب الوطن؟ وطن لا نشارك به، لا نعرف عنه شيئاً. متى قبلنا أن نموت لأجله؟!
تفكر أعداد فى الهجرة أو تحلم بعقد عمل فى الخارج رغم الحديث عن الحب الكبير، يتعذرون بأن مقصد سفرهم مادى لا أكثر. وما إن تلوح فرصة الاستقرار بمكان، أى مكان، حتى يغدو الوطن صوراً وذاكرة عن الحى والمدرسة والشارع والأم والعائلة وأشياء جميلة ليست بشعة. لا أحد يريد الاعتراف بأنه عاش الغربة فى وطنه، بذكريات مرهقة. فقط أحاول معرفة نوع العلاقة العاطفية التى تربطنى بالوطن.
ركز على أى بلدة عربية صغيرة، على أى مجتمع أو وطن عربى، ستجد منحى العلاقة يسير باتجاه واحد، حب من طرف واحد. أخْذ دون عطاء أو نذر يسير من العطاء، كالأمن، يضمن استمرارك بالبقاء على قيد الحياة لتأليف المزيد من أشعار التغزل بالوطن وتلحين أكبر عدد من أغانى عشقه ومجده وخلوده. تخدم المكان بكل جوارحك لأجل أهداف الولاء والانتماء والتضحية.. إلخ، تهب المكان كل شىء ولا تنتظر منه شيئا. وحين لا يعطيك، وحين لا تشعر بحبه لك أو إحساسه بوجودك، تعلل أنانيته بانشغاله وبتغليبه مصلحة المجموع على مصلحة الفرد. هذا هو تفسير عدم فهمك لتطاوله بتهميشك. إلى سكان وساكنات الأوطان العربية.. ما طبيعة العلاقة التى تربطكم بالأوطان؟
احتمالات تقسيم السودان عما قريب تدفع للتساؤل عن معنى الوطن ومغزى الدفاع عن بقية الحدود العربية. حين ينقسم السودان سيتخلى أهل الشمال عن حب وطن الجنوب والعكس صحيح. إذن يمكن للوطن أن يتغير، ويمكن لمشاعرنا أن تتبدل، فتمنح لوطن جديد. ردود أهالى قرية الغجر الرافضة خروج المحتل الإسرائيلى تثير التساؤل عن تعريف الوطن. أهالى القرية يعرفون ماذا سيقدم لهم لبنان.. ليس هناك تعليم، اقتصاد متردٍ، دولة لا سيادة لها، تناحر أهلى، طائفية. بواقعية ودون شعارات شمطاء: ما الذى سيشدهم للمكان؟ (البدون) الذين يسكنون الخليج وترفض دول الخليج منحهم جنسياتها، يعيشون دون أى مقومات حياة حتى إنهم ممنوعون من استخراج شهادة وفاة أو زواج أو ميلاد، ممنوعون من التعليم، ومن العلاج، ومن أى ضمان. باختصار يعيشون على الهامش كالمنبوذين فى الهند، لكن منهم من ذهب لأوروبا ومختلف العالم. فتحت لهم المدارس والجامعات وحصلوا على مناصب وظيفية وحكومية وأكاديمية، ومُنحوا جنسيات عالمية (محترمة).. فأين هو وطنهم الحقيقى؟
هكذا كثير من العرب رحلوا عن ديار تعمها المصلحة العليا واستوطنوا ديارا تهتم بتفاصيل حياتهم الصغيرة كأولوية أساسية. سيجيبونك بأنهم من جذور عربية، وستجد بداخلهم عشقاً واحداً هو عشق الوطن الذى اختارهم واختاروه، لا الوطن الذى شعروا بأنه مجبر على استيعابهم ولم يتوان عن تذكيرهم قط بأنهم عالة عليه. أريد وطنا يحتوينى. يحمينى. يقدم لى الغذاء والصحة وقسطا جيدا من التعليم، أرى مستقبلى معه، طاعنة لها ضمانها، يزيح عنى الخوف والقلق.
وطنى يرفض أن يرانى طفلة بالخامسة، تقف منتصف الليل أبيع الورد للخارجين من الحانات. وطنى يرفض أن يرانى متشرداً يسكن علب الصفيح بأحد الشوارع الخارجة على التنظيم. وطنى لا يرتضى لأطفاله المشاركة بأعباء الاقتصاد.
وطنى يقبلنى كما أنا. يستوعب جنونى وأحلامى وإبداعاتى. الأهم أنه يحترمنى. وطنى يحبنى. لا يخون
حين تكره وطنك أو تعمل ضد صالحه، يطلقون عليك عميلا أو خائنا، وتتم معاقبتك. لكن هو يخون.
كم وطناً عربياً وقع بغرامى مثلما وقعت بغرامه.
كم وطناً عربياً أشعرنى بانتمائه لى.
كم وطناً عربياً استعد للقتال لأجلى.
كم وطناً عربياً سيبكى إن تركته ورحلت.
نعرف أننا نرحل دائما ونطيل البعاد ولا نذكره وقف يوماً يلوح لنا ولو من بعيد.
توهمنا أنه يصيح. لم يكن السيل دمعاً. كان سراب الوطنية يجرى على خدوده المنتفخة من شقائنا.
من زاوية متعبة.. نحن مخلصون لحدود صنعها استعمار. خرج المحتل من الأرض بعد أن رسمها وحددها. قال لنا: هذا وطنك، وذاك وطنك.
المستعمر القديم حدد لنا وجهة ولائنا وحدود انتمائنا.
حتى البدوى فى الصحراء تم توطينه وتحويله إلى مواطن تشبع بقيم الانتماء والولاء والسكون والاستقرار بعد أن كان من أهم شيم حياته التنقل والترحال واتخاذ الأرض كلها وطناً، تأكيدا على استقلاله وحريته. الأرض كلها وطن.
إذا صادفنا فى حياتنا أرضاً غير الأرض التى فرضها علينا الجد الأكبر، لا نرتبط معها بتاريخ أو لغة أو عرق أو أى قومية، لكنها فتحت لنا أذرعها ومدت لنا كل العون، وهبنا أناسها الكثير ومازالوا يعطوننا الأكثر. ارتباطنا بهم روحياً حقيقياً لا قومياً خيالياً. فما اسم هذا المكان الجديد؟
هل نملك الشجاعة للاعتراف بأننا أخيراً وجدنا وطن روحنا ونصفنا الآخر؟
nadinealbdear@gmail.com
* كاتبة من السعودية
أخون نصفى الآخر
ربيع سامي الجندي — rabijundi@hotmail.com
لعلنا مخيرين بين مرّين, علقم غربة في “اوطاننا الطاردة” أي مسقط رأسنا او الاغتراب والانتشار,
نادين, لا ترحلي فالفرج صبر ساعة, إن لم نشهده رب جيل سيشهده بعدنا الم يزرع اجدادنا اشجار معمرة لا تحمل الا بعد عشرات السنين لنأكل نحن, الا يكفي ما غييب الموت من قمم في الاعوام الماضية,
لم ينهض بالغرب من ركوضه الا يفضل رهط ممن كرسوا انفسهم و نجوا من الاحباط او القتل الجسدي او المعنوي المسلط على مثقفي و طليعة التنوير في اوروبا من الحلف الديني السلطوي الغير مقدس.
أخون نصفى الآخر نزار المالكي — nizarmaliki@yahoo.com السيدة نادين شجاعة وصريحة. انها تعبّر عما يشعر به الكثيرون الكثيرون ولكنهم لا يجرأون على التفوه به او كتابته ونشره داخل الوطن العربي. لو ان حكامنا في سائر دول الوطن العربي تنازلوا عن بعض من الغطرسة والاعتقاد بان الله تعالى “بعثهم” لانقاذ بلادهم, لا للتحكم برقاب العباد, او انهم ابدوا “بعض ” الاهتمام لمشاكل عامة الشعب من مثقفين وغير مثقفين, من طلاب او عمال او فلاحين, لو فعلوا ذلك وبذلوا الجهود لتطوير البلاد واقامة المصانع الحديثة والمدارس الممتازة والجامعات التي تجري فيها ابحاث علمية راقية, لو حصل مثل هذا لما فكر الكثيرون من… قراءة المزيد ..
أخون نصفى الآخر عائد — matrixebaid@hotmail.com بعد التحية ان هذا المنطق في التعامل مع الاوطان يعزز فكرة الهجرة والاندماج في المجتمعات التي تفتح ذراعيها لإيستعاب الفئة العليا في المجتمعات المقهورة فالوطن بالنسبة لي مع كل ما تقدمت به الكاتبة هو المستقبل والماضي معا ومن زاوية رؤية الكاتبة فأنني كفلسطيني اعيش على الارض المحتلة قد توافرت جميع الاسباب التي تجعل مني مشروع فرصة للهجرة الى اي بلد يمكن ان اجد جزء من احلامي او مستقبل اولادي فيها، ولا اخفيك اثناء قرائتي للمقال بدأت الفكرة تروق لي واحاول ان احيي مشروع هجرة استغنيت عنه سابقا الموضوع بحاجة الى اعادة نظر واعتبار ان… قراءة المزيد ..