برايتن برايتنباخ واحد من كبار الشعراء في جنوب أفريقيا والعالم. وفي زمن مضى كان أحد كبار الـمعارضين لنظام “الأبارتهايد”. انخرط في صفوف حزب الـمؤتمر الوطني الأفريقي، ومارس العمل السري في جنوب أفريقيا، وخارجها للإطاحة بالنظام القائم في جوهانسبرغ.
وفي هذا السياق، دفع الثمن سبع سنوات ونصف السنة من عمره في السجن، بتهمة الإرهاب وانتهاك قانون النقاء العرقي والأخلاقي. ومضمون هذا القانون أن الأبيض لا يملك الحق في الزواج من امرأة سوداء أو ملوّنة، والعكس صحيح. وقد حوكم بتهمة الزواج من امرأة فرنسية من أصل فيتنامي، والتسلل إلى البلاد بطريقة غير مشروعة، والتآمر على النظام القائم.
وصف برايتنباخ تجربة السجن في كتاب ذائع الصيت بعنوان “مذكرات إرهابي أمهق”. وقد خرج من السجن إلى الـمنفى بعد حملة دولية لإطلاق سراحه. ومع ذلك، عندما انهار نظام الأبارتهايد وعاد إلى بلاده لـم يُطق البقاء. سألته قبل أيام قليلة في رام الله عن السبب، فروى الحادثة التالية:
عدتُ، وفي مساء اليوم الأوّل حضرت حفلة على شرفي كان فيها الكثير من رفاقي السابقين في حزب الـمؤتمر الوطني الأفريقي (أغلبهم من السود) وقد أصبحوا وزراء وشخصيات قيادية في السلطة، كانوا ممتلئين بأنفسهم وأهميتهم الـمُكتشفة حديثاً، ومباهج السلطة والنفوذ، وتولوا تقديمي إلى أشخاص آخرين (من البيض) كانوا في زمن النظام السابق جلاّدين، وهم الذين تولوا التحقيق معنا والتنكيل بنا، وكانوا يحتلون مناصب قيادية في نظام التمييز العنصري ويسهرون على حمايته.
اكتشفت أن هؤلاء وأولئك أصبحوا نخبة واحدة، وشعرتُ بأن لا مكان لي بين هؤلاء. لذلك، قررت العودة إلى الـمنفى في اليوم التالي.
أضاف برايتنباخ، بعد لحظة صمت كأنما يُخاطب نفسه، أو يستحضر الـمشهد البعيد: في آخر الليل عندما سكر رفاقي في أيام النضال الأولى، تكلـموا عن الصراع الداخلي الذي يعتمل في أنفسهم من وقت إلى آخر، لكنهم حاولوا إقناعي بأن الدنيا تغيّرت، وبأن علينا مواكبة التغيّرات. وفي اليوم التالي غادرت جنوب أفريقيا.
قلتُ: أنت تذكرني بأشياء مشابهة، بعض رفاقي السابقين أصبحوا ممتلئين بأنفسهم وأهميتهم الوهمية والـمتوّهمة، وهم لا يختلفون كثيراً عن رفاقك السابقين، أعرف شخصاً أصبح وزيراً فمرض بأهميته الخاصة، ولهذا السبب فإنني أستعيد دائماً سؤال محمود درويش عن البيت والطريق: مَنْ أجمل البيت أم الطريق؟
قال برايتنباخ: الطريق. وأضاف: كتبت لي ابنتي، عندما اكتشفت اهتمامي بالـمسألة الفلسطينية أنها سعيدة من أجلي لأنني عثرت على شيء لأعيش من أجله.
قلتُ: عثرتَ، إذاً، على قضية جديدة، أو إذا صغنا الأمر بطريقة مغايرة فلنقل إن الطرق حتى وإن اختلفت تبقى متشابهة، وربما البعض منّا يحتاج الطريق أكثر من حاجته إلى البيت، وربما البيت نفسه ليس آخر الطريق، بل استراحة قصيرة قبل السفر. مرّة أخرى أستعيد محمود درويش، الذي كتب ذات يوم: ومن كل حلـم أجد حلـماً جديداً لأحلـم. يسنين انتحر بعد فوز البلاشفة، ومايكوفسكي، كلاهما فشل في استنباط حلـم جديد من حلـم قديم.
قال برايتنباخ: لهذا السبب نحن أخوة.
عندما ودعته قلتُ: أنت تغادر الآن كأخ لنا، لك بيت هنا لـم يكتمل بعد، وطريق كلـما دنت نأت، وكلـما قصرت طالت واستطالت.
أكتب هذا الكلام، الآن، وأستعيد محمود درويش، يقول في كلامه لأبيه: سأقطع هذا الطريق إلى آخري وإلى آخره.
كل منّا يحاول قطع الطريق على طريقته، يلعق جراحه على طريقته، ويستنبط حلـماً جديداً من حلـم قديم على طريقته. هذا مجاز هوميري قديم، ومهما كتبنا عنه، وتأملنا فيه، فلن نُضيف جديداً إلى مشهد عوليس العائد من الـمنفى إلى البيت بعد طول غياب، وبنيلوبي التي تغزل الصوف وتنتظر.
كنتُ مفتوناً، دائماً، بالجمهوريين الأسبان. قرأت كل ما عثرت عليه من كتابات عنهم، وكثيراً ما تخيّلتُ كيف أنفقوا بعد الهزيمة أمسياتهم القاتمة حول كؤوس النبيذ في حانات شحيحة الضوء في باريس.
أرشدني ذات يوم صديق في مخيم اليرموك في دمشق إلى بيت يقطنه عدد من الكهول، قال: هؤلاء من قدامى الفدائيين. يومها تذكرت الجمهوريين، وتذكرت كلام أورويل عن كتالونيا. كتالونيا ليست جديدة تماماً، فهي ليست أكثر من تنويع حديث لـما جرى في الحروب الطروادية.
لـماذا كل هذا الكلام عن عوليس وبنيولوبي، وعن الجمهوريين الأسبان؟
لأنه في الواقع كلام عمّا أصابنا، وعمّا أصاب ما لا يحصى من بني البشر في أربعة أركان الأرض على امتداد قرون طويلة وبعيدة من الزمن. البعض يستنبط من حلـم قديم حلـماً جديداً ليحلـم، والبعض الآخر يكف عن الحلـم فيموت.
ومن حسن الحظ أننا ما زلنا نحلـم، ربما أقل مما يجب، ولكن بما يكفي للبقاء أحياء، أو كما قال برايتنباخ في مساء قريب: لا نزال على قيد الحياة ولا تزال لدينا القدرة على إثارة القليل من الضوضاء.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
أحياءٌ ونثير القليل من الضوضاء..!!
حلو يااستاذ حسن حلو سلمت يداك واطال الله عمرك لتمتعنا بمزيد من هذه الضوضاء والشذى