أكثر ما أخافني صغيراً خلال بدايات الحرب الأهلية اللبنانية كان اسم “قذاف الدم” وهو أحد أقارب العقيد الليبي معمر القذافي. كنت أخاف الاسم لأني ظننت لوهلة ما أن هذا الشخص فارّ من إحدى حلقات مسلسل الرعب اللبناني ”عشرة عبيد صغار“. كان قذاف الدم يرتبط ذكره بذكر وزير الخارجية الليبي “عبد السلام جلود” الذي كثيراً ما حملته الطائرة إلى لبنان لترتيب الحرب الداخلية الاقليمية والدولية. كان يدور بين بيروت ودمشق ويعود إلى ليبيا ليلتقي بالعقيد. والعقيد الليبي يختلف بالتأكيد عن “العقيد أبو شهاب” في مسلسل ”باب الحارة“، فالفارق بالتأكيد بين هذا وذاك هو شاسع جداً يحتاج إلى شركة جغرافية خاصة تعتمد الأقمار الصناعية لقياس المسافة الأخلاقية بين العقيدين.
إذاً، غاب اسم “قذاف الدم” لاحقاً، ولكن العقيد الليبي صار اسمه ”مجنون“ ليبيا يوم شتم الرئيس المصري محمد أنور السادات، فأطلق عليه السادات هذا اللقب، ولكن لوهلة ثانية ظننت أن لا مجنون في الحياة إلا مجنون ليلى، أي قيس بن الملوح، ولكن شتان بين ابن الملوح وبين المجنون الليبي، والمسافة الزمنية بينهما تحتاج إلى أكثر من وكالة ”نازا“ ومحطة الفضاء الدولية لقياسها. فمجنون ليلى ولغرامه بحبيبته غاب في الصحاري ومات جوعاً فأكلته الذئاب، ولكن ”العقيد الليبي“ هام بحب ليبيا حتى قضى على شعبها فقراً وستاراً حديدياً وفي نهايته أرسل الطائرات تقصف المتظاهرين في الشوارع.
وبما أن الشيء بالشيء يذكّر، فقصص القذافي مع اللبنانيين لا تنتهي. هذا، ”المجنون“ دعم خلال السبعينات والثمانينات كل حركات التحرر العربي والعالمي بالمال والسلاح، فتحولت القضايا الانسانية من فلسطين وأميركا الجنوبية وغيرها إلى ملفات لتنفيذ قرارات ضباط الأمن في طرابلس الغرب. دفع الكثير من المال في لبنان للأحزاب اللبنانية وكذلك أرسل شاحنات السلاح. كنا نحمل ”الكلاشينكوف“ الروسي ولكن المصنوع خصيصاً لليبيا، أي بأرقام هندية أو التي يستعملها عادة العالم العربي، ونطلق الرصاص منه على أنفسنا، وكنا ننتظر زيارة ليبيا من قبل الأمين العام ورئيس الحزب وأمين السر ورئيس اللجان الشعبية والهيئات المدنية وغيرها من الصفات الحزبية ليأتون بالمرتبات للشبان المتفرغين في القتال اللبناني الذي دام ويدوم ويدوم.
قصص كثيرة كنا نشهدها عن القذافي بعضها غريب مثل استعماله النساء كمرافقات له، والاستغراب نايع من كونه لم يقر أي قانون يعطي للمرأة الليبية حقوقها المتساوية مع الرجل، إنما بالعكس دفع المرأة إلى غياهب المنزل بعيداً من أي مشاركة في الحياة العامة على العكس من المرأة التونسية وحتى المصرية. وكذلك كنا نسمع قصصاً سكنه في خيمة ينقلها معه إلى دول العالم، فينصبها أمام الفنادق أو الحدائق العامة، وكذلك دفعه ثلاثة مليارات دولار بدلاً من تسوية لقضية تفجير طائرة لوكربي ومعها دفعه ملياري دولار للوسيط الذي صنع التسوية مع المحكمة أي ابنه سيف الاسلام القذافي الذي خرج على الليبيين قبل أيام مهدداً وشاتماً ومتوعداً.
القضية الليبية كما غيرها من قضايا أثارت الشبان العرب على مواقع التواصل الاجتماعي مثل ”الفايس بوك“. هناك تقرأ الكثير من التعليقات التي يكتبها الأصدقاء، من فرنسا يعلّق علي بهضامته المعهودة على خطاب القذافي أول من أمس ”منظمة الصحة العالمية تحذر من مضار الإستماع لخطاب لقذافي!!!“ فيما هيفا في واشنطن تسجل واحدة من العبارات اللماحة عن ”المجنون“ بعد قيام طائراته بقصف الشعب الليبي وتهديده بدخول المنازل ”الآن فهمت سر علاقته (القذافي) بـ”روما”، طلع الأخ من سلالة نيرون“، ونيرون هو الذي أحرق روما قبل آلاف الأعوام إرضاء لنفسه، فيما يقوم القذافي اليوم باحراق ليبيا ليرضي نفسه وأولاده وقبيلته والمستفيدين من فساده.
وفي ”الفايس بوك“ أيضاً يروي مسعود محمد الكاتب اللبناني الذي يدير شركة في دبي بعض مآثر القذافي، فيبدأ ببعض المقولات الغريبة التي وردت على لسان القذافي في مواضع مختلفة ومنها: ”للمرأة حق الترشح سواء كانت ذكر أو أنثى!!، أيها الشعب.. لولا الكهرباء لجلسنا نشاهد التلفاز في الظلام!! ، تظاهروا كما تشاؤن ولكن لا تخرجوا إلى الشوارع والميادين!!، سأظل فى ليبيا الى ان أموت أو يوافينى الأجل!!، بر الوالدين اهم من طاعة امك و ابوك، والديموقراطية تعني ديمو كراسي“. قد يستغرب المرء أن يكون رئيس دولة ما يقول هذا الكلام ولكن بعد خطاب أول من أمس يعرف المستمع ماذا كان يصيب الليبيين طوال ٤٢ عاماً من ديكتاتورية هذا الرجل.
في الذاكرة أيضاً بعض من قصص القذافي الذي يتنقل حبه في الهوى بين التحرر الأممي والتحرر العربي والتحرر الشمال إفريقي والتحرر الإفريقي والتحرر الليبي الأوروبي. رجل يبحث عن العظمة في كل شيء من اسم الدولة الليبية إلى أصغر شارع في طرابلس الغرب، يستطيع أن يتنقل بين القضايا تاركاً شعبه يجوع من الفقر ومن قلة الانماء وكذلك من المشاريع ”الامبراطورية“ التي لا تفيد الليبيين، مثل مشروع ”النهر الصناعي العظيم“ الذي أراد القذافي أن يكون أضخم مشروع لنقل المياه في العالم، فحفر آباراً ارتوازية في واحدة من أكبر البرك الجوفية الليبية ومد الأنابيب في الصحراء إلى بعض المدن الليبية لريها بالماء. وبما أن شبكة المياه لم تكن منجزة بعد في المدن ولم تنجز بشكل كامل حتى الآن، قرر ”العقيد“ ولجانه الشعبية أن تذهب المياه إلى البحر ليكون لليبيا رافد مائي على المتوسط مثل مصر أو لبنان أو المغرب. نشفت الآبار الارتوازية وجف النهر الصناعي العظيم ولم يبق لليبيين مياه استراتيجية يستفيدون منها للأجيال القادمة.
ومآثر القذافي مع اللبنانيين كثيرة، منها انشاء صحف يومية وتمويلها مع انها عادت وانقلبت عليه لاحقاً، وكذلك دعمه لمحطات تلفزيونية انقلبت عليه أيضاً تماشياً مع السوق، ودعمه لانشاء مراكز تعليمية ومدارس في عدد كبير من الأراضي اللبنانية. فاللبناني ”الشاطر“ صاحب الميليشيا يبحث عن الرزقة، بالسلاح أو بالمال أو بالمشاريع، فالمهم هو تكوين مؤسسات تدر المال ولو من أعنف الديكتاتوريات في العالم، واللبناني يرسل المقاتلين إلى ليبيا لقتال التشاديين وكذلك ينطلق من هناك بالعبوات الناسفة التي تفجر الطائرات وغيرها.
ولكن المأثرة الأبشع التي قام بها القذافي مع اللبنانيين هي التي حدثت في ٣٠ آب ١٩٧٨ حين اختطف الإمام موسى الصدر، الرجل الشيعي الذي عمل على لبننة الشيعة وادخالهم الميثاقية الكيانية، الرجل الذي كان أول من طرح مشروع لبنان أولاً والذي دعا إلى رفع مستوى معيشة المحرومين اللبنانيين من كل الطوائف في أحزمة البؤس التي كانت تحيط ببيروت. قام القذافي بإخفاء الصدر ورفيقيه طوال ٣٣ عام من دون أن يرف له جفن، ومن دون يتعاون في كشف هذه المأساة، بل بالعكس عمل على رواية خبر أن الصدر خرج من ليبيا إلى إيطاليا واختفى هناك.
أول من أمس، وقف القذافي يهدد ويتوعد ويزبد ويتف على الكاميرا الواقفة أمامه، قال كلاماً لا يحتمله بشري. حوّل بكلامه الشباب الليبي إلى متعاطي مخدرات وإلى قتلة ومأجورين، أرادنا أن نصدقه هو ”القديس“ مقابل حركة الاحتجاج الشعبية. قال كلاماً كبيراً جداً حول دخول المنازل لاستئصال الانتفاضة الشعبية، استعمل الطيران وقطع ليبيا عن العالم ليخفي ما يحدث في تلك البلاد، ولكنه مع كل السفاهة التي صنع فيها خطابه وكذلك خطاب ابنه سيف الاسلام الذي سبقه بالشتم يدرك أن الشعب الليبي بدأ بتغيير تاريخه. إنها مرحلة جديدة سنرى فيها تبدلات غير قليلة في محيطنا العربي، تغيرات قد تكون للتحول نحو الديموقراطية وبناء دول حديثة بعد أن عاث الفساد خراباً بنا، أو نماذج جديدة من الحكم ولكنها بالتأكيد ليست عودة إلى التوتاليتارية.
تجربة التغيير التي تمر بالعالم العربي بالتأكيد أفضل بكثير من تجربة عقود طويلة من الفساد والقتل والاجرام باسم تحرير فلسطين والأمة العربية، خطابات الانقلابيين التي صنعت أحلاماً ووروداً هي نفسها التي زادت الفقر والتخلف في العالم العربي، حيث تحول الضابط العسكري بعد أيام من انقلابه إلى ”مقدس“ يحاول قضم حياة الناس بعد أن وعدهم بالحرية والكرامة والانسانية.
قد تكون التجربة اللبنانية هي الوحيدة التي أعطت اسم “الرئيس السابق” طوال عقود من الاستقلال التي حصل عليها العالم العربي، ولكن اليوم سنسمع اسم “الرئيس السابق” في كثير من دول العالم العربي، حيث سيكون التغيير قادماً لا محالة.
oharkous@gmail.com
كاتب لبناني
المستقبل