كان في الحرب يمشي في شوارع بيروت، يرى على جدران المدينة أسماء عديدة،
“أبو الرعب مرّ من هنا”، أو “إذا جاء الزمان ولم تروني فأنا أبو الجماجم
تذكروني”، أو “قوات عذاب الانتحارية”، وغيرها من أسماء قبضايات الشوارع.
في غرف “التشات”، أي الدردشة على الانترنت هذه الأيام تغيرت الصيغ
والأشكال والأسماء، فعذاب صار اسمه حسون وأبو الطول صار اسمه “سكسي بوي”،
وأبو الرعب تحول إلى “يويو الوحش”. ألقاب عديدة تتبدل وتتغير مع تبدل
الأيام ولكل مرحلة أسماؤها ورجالها الذين يصولون في طرقاتها أو غرفها
الافتراضية.
بدأت قصة تغيير الأسماء واعتماد ألقاب تتناسب والمرحلة، مع وصول منظمة
التحرير الفلسطينية إلى لبنان أواخر ستينيات القرن الماضي، أو لنقل ان
هذا الأمر سبقها مع الأحزاب السرية في لبنان من أيام الانتداب الفرنسي
وصولاً إلى مرحلة “فتح” و”الشعبية”، وغيرها من منظمات أرادت تحرير بيت
المقدس من تلال كفرشوبا وعيترون، ولكن مع هذه المنظمات صارت الألقاب كمثل
هطول المطر ترشُّ على كل من يلتحق بمنظمة ما.
فأبو جهاد مؤسس المنظمة الطلابية التابعة لحركة فتح، وجد فيه شبابها
نموذجاً “للأبو” الذي يحلمون أن يكونوه، فصاروا كلهم “أبوات”، يعلنون
أسماؤهم على جدران الطرق، فلحق بهم شبان الأحزاب الباقية، لتأتي الحرب
الأهلية اللبنانية ويصير لكل حي عدة”أبوات” يتحكم بهم “أبو” واحد قادر
على إدارتهم.
بعضهم أخذ لقباً بإسم وليس بصيغة الأب، مثل “زوربا” و”زمبريطة”،
و”الحنون”، و”الشهيد”، و”يوري”، وغيرها. كانوا بذلك يأخذون صفة ليست
موجودة لدى غيرهم، وكذلك تتوازن مع “أبوات” المنطقة وتناطحها على المركز
وبعده الجاه والسلطة، وشدّ الحريم ان أمكن.
كان “أبو ليلى” وما زال اسماً يتداول به، وكذلك “الجغل”، و”أبو الزوز”،
ولكن من الغرائب كان اسم “أبو هوشة”، وكذلك”شمة”و”بربارة”، و”أبو خشبة”،
و”أبو الغضب”، و”الأيسر” وهو اسم لأحد رماة المدفعية. كان يستعمل للرد
على القصف وليس لبدء المعارك، نسبة إلى من ضربك على الأيمن، دُر له
الأيسر.
دارت الحرب دورتها وتبدلت الأسماء فيها. صار المقاتلون يحملون أسماء
رفاقهم الشهداء، لتصير الدوامة أن تسمى المجموعات بأسماء شهداء تكنوا
بأسماء رفاقهم، فكان يقال مجموعة الشهيد أبو يوري، فادي العبود. دخل
الشهداء بألقابهم أو العكس حتى حملت قبورهم هذه الأسماء ولحقت بهم إلى
الآخرة.
بعد الحرب، ومع فورة الانترنت، تعاطى الكثيرون مع الشبكة العنكبوتية
بوصفها سراً مخابراتياً وعسكرياً له علاقة بحرب النجوم، أو بصراع الخير
والشر. خاف الكثيرون من اعطاء أسمائهم الحقيقية، حتى لا يكتشفهم الجان أو
جهاز استخباراتي يراقب مليارات البشر، فأخفوا شخصياتهم عن الآخرين
وخصوصاً في غرف الدردشة. صارت الصبايا شريكات في اللعب الشفاف، أو لعب
الشاشات، تتكلم مع شاب يعجبها اسمه المغلف بلقب غريب، وتحاوره وتعطي
نظرياتها الجريئة في الحياة والجنس واقامة علاقات خارج الزواج، فهنا
يمكنها قول كل شيء من دون محاسبة، والمهم أن لا يكتشف شخصيتها الحقيقية
أحد. وكذلك الشبان يستطيعون الاختباء خلف الشاشة وإظهار ما يريدون قوله
علناً، بعضهم يخاف أن يقول في الحياة أشياء جميلة فيتركها للشخصية
السرية، لعب وحب كأنما تحضرهم أغنية عبد الحليم حافظ، ضحك ولعب وجد وحب.
عيش في شخصيات غريبة لا تشبه”أبو الزوز”، ولا تستحضر السجان مع “عصفور”،
بل أسماء مثل “طرمبة”، و”Red Angel” وكذلك “Sexy Boy” أو “Arabic Cat” أو
حتى اسماء عادية مثل غرام وعذاب وحسون وليمون وشمّة، والدعبول. أسماء حين
يستحضرها الشخص أمام الأسماء القديمة التي تقدست بفعل الموت استشهاداً،
يستطيع الضحك، كما كان شبان حي اللجا يضحكون على “كوكو أبو فردين”، وهو
شخص كان من قبضايات احدى الحركات الميليشياوية في بداية الحرب ويضع على
خصره مسدسين، اكتشف الشبان بعد إحدى موجات القصف السوري على بيروت
الغربية في العام 1977 أن المسدسين وهميين لا ناقة لهما بإطلاق النار ولا
بقتال الشوارع.
تدخل غرف الدردشة “الانترنتية”، لتفترض ان فيها أصدقاء تعرفهم من
أسمائهم، تفاجأ ان الكثيرين يغيرون الأسماء التي يحملونها إلى أسماء
غريبة لا علاقة لهم بها، ولكن الأجمل هو الأسماء التي توضع على الهواتف،
فالحبيبة تدعى، “حبيبتي” أو “بيبي”، والوالدة قد تسمى”مصرف لبنان”،
والوالد “أبو صرخة”، أو “أبو عيطة”، والشقيقة”بحبش”، أما الزوجة فلها عدة
أسماء، وهي “وزارة الداخلية”، أو الأكثر انتشاراً “غوانتانامو”،
وللحماوات اسم “أبو غريب” تذكيراً بإسم السجن العراقي.
لكل شخص على الهاتف الخلوي موسيقاه الخاصة وكذلك صورته المرفقة،
وللحبيبات والصديقات السريات أسماء خاصة بهن، ولكن يويو الوحش و”مس بينك”
وكذلك” لا تأسفن على غدر الزمان”، ودموع ورسورات والقرش ونحول وكينغ
والكابتن وغيرها الكثير من أسماء لو جمعت لن تسعها الكتب، وهناك ما يجمع
بين أسماء الماضي والحاضر،اذ كانت جدران المدن تتلقى الكتابات والتوقيعات
والرسوم الملونة وصور الشهداء، والحاضر فيه جدران الانترنت وغرف الدردشة
وجدران الفايسبوك التي يكتب عليها كل يوم ما لا تسعه كل كتب الفلسفة ولا
كتب شعر ولا حتى كتب طب تدرّس في الجامعات.
هناك كانت جدران المدن للتذكر واثبات القوة، واعلان هوية المكان عسكرياً
وميليشياوياً، فيما هي اليوم قصائد معلقة وكلمات وصور تتغير كل يوم، على
جدران الوهم الجميل المسيطر على العالم.
المستقبل – الخميس 5 تشرين الثاني 2009 – العدد 3474 –