جرت مؤخرا انتخابات برلمانية محلية في ولاية نيودلهي الهندية حققت نتائجها مفاجأة مدوية للجميع. ذلك أن حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكم بقيادة رئيس الحكومة “ناريندرا مودي” الذي حقق انتصارا كاسحا في الانتخابات العامة الماضية في مايو 2014 لم يستطع سوى الفوز بثلاثة مقاعد من أصل 70 مقعدا. أما حزب المؤتمر العريق فقد تلقى هزيمة ساحقة ماحقة بعدم حصوله على أي مقعد، فيما كان المنتصر الأكبر هو حزب “آم آدمي” (أنا إنسان) حديث التأسيس بقيادة الناشط المناهض للفساد ورئيس الحكومة المحلية السابق لنيودلهي “أرفيند كيجريوال”. ويمكن رؤية المشهد بطريقة أفضل إذا ما استعرضنا نتائج انتخابات الولاية في عام 2013 والتي كانت 31 مقعدا لبهاراتيا جاناتا و 28 لحزب آم آدمي و8 مقاعد لحزب المؤتمر.
والمعلوم أن الفوز بمقاعد الجمعية التشريعية لولاية نيودلهي مهم جدا لأنه يحدد عدد مقاعد كل حزب في الغرفة العليا للبرلمان الهندي او ما يعرف بـ”راجيا سابها”، وخسارة الحزب الحاكم لهذه المقاعد تعتبر بمثابة جرس إنذار له وإشارة إلى وجود تذمر من سياساته على المستوى الوطني.
ومن هنا قرأ بعض المحللين في هذه النتائج عقابا لـ”مودي” لأنه بحسبهم لم يف بوعوده الكثيرة، قائلين أن الرجل وعد الشعب بحكومة كفاءات تتميز بتوجهاتها الشفافة وقبولها للمحاسبة وخلوها من الفساد والفاسدين وتحقيقها لانجازات سريعة، لكن حكومته فشلت، بعد مرور تسعة أشهر على وجودها في السلطة، في ترك انطباع ايجابي لدى الجماهير، بل أنّ أسعار الطعام ومعدلات ارتكاب الجرائم في العاصمة شهدت إرتفاعا ملحوظا، ناهيك عن بقاء مظاهر الفساد والبيروقراطية على حالها.
البعض الآخر من المحللين رفض مثل هذه القراءة وعدّها تجنيا على رئيس الحكومة قائلا أنّ الفوز الكاسح لحزب “آم آدمي” وزعيمه كان نتيجة لتركيزه على مسائل محلية، وليست وطنية، مثل الحصول على خدمات الكهرباء والمياه بتكلفة أقل، ومكافحة الفساد في مواقع معينة، ومضيفا أن حصول بهاراتيا جاناتا على ثلاثة مقاعد لن يؤدي إلى عرقلة جهود “مودي” لجهة الإصلاحات الإقتصادية الموعودة، ومذكرا في الوقت نفسه بأن “مودي” لا يملك وصفة سحرية لحل مشاكل الهند الكثيرة، لكنه يعمل ما في وسعه وفق رؤية واستراتيجية واضحتين.
وكان هناك من استغرب من فوز “كيجريوال” الساحق لأن ناخبين كثر كانوا قد سبق لهم انتقاده علنا، بل وصفوه بالخائن والجبان بسبب تخليه عن مسئولية قيادة نيودلهي بعد 49 يوما فقط من تعيينه. لكن يبدو أن الرجل تمكن بسرعة من استعادة وهجه وجماهيريته عبر العمل الميداني الدؤوب والمنظم، والتقليل من شأن “مودي” عبر الخطط الإعلامية القائمة على ضرب ما يتمتع به من كاريزما بنشر اخبار ملفقة عنه او استغلال أحداث معينة للطعن في نزاهته لدى البسطاء والعامة. فعلى سبيل المثال حاول “كيجريوال” وأنصاره استغلال صورة لمودي وهو يستقبل الرئيس الامريكي باراك أوباما قبل عشرة أيام من الانتخابات للنيل من نزاهته عبر الادعاء بأن السترة التي يلبسها يقدر ثمنها بعشرة آلاف دولار. كما حاولوا التركيز على الحفلات النخبوية الباذخة التي جرت على هامش الترحيب بالرئيس الامريكي، وهم يعلمون مسبقا حقيقة أنّ الهنود بصفة عامة وسكان العاصمة بصفة خاصة يستنكرون مثل هذه الحفلات في بلد يعيش فيه الملايين حياة مزرية.
بعض الأقلام الصحافية الهندية انطلقت من نتائج هذه الإنتخابات المحلية لتقول أنّ على مودي أنْ يفهم أنّ انتصاره الكاسح في انتخابات مايو العامة، وسقوط منافسه الأشرس(حزب المؤتمر) لا يعني أنه مطلق اليد في تغيير الأسس والقيم التي قامت عليها جمهورية الهند المستقلة وإستبدالها بأيدلوجية الأحزاب القومية الهندوسية، مشيرة، في هذا السياق، إلى ما شهدته الهند في الفترة الاخيرة من حوادث بعيدة عن التسامح ضد الأقليات على يد عناصر من الجناح اليميني للأحزاب القومية الهندوسية. ويمكن القول أنّ هذه الحوادث لعبت دورا في عدم التصويت لحزب بهاراتيا جاناتا في نيودلهي. ذلك أنّ الكنائس والمساجد والمعابد البوذية اشتركت، كل على حدة، في تنظيم صلوات واجتماعات لأتباعها بقصد الحشد ضد مرشحي الحزب الحاكم.
وعلى الرغم من أنّ هذا يعتبر عملا يتنافى مع علمانية الدولة الهندية لأنه ينطوي على خلط السياسة بالدين، فإن مما يحسب لحزب بهاراتيا جاناتا أنه التزم ضبط النفس وحذر أتباعه من التعرض لمقدسات ومعابد الجماعات الدينية الأخرى، الأمر الذي ساهم في إتمام الانتخابات بهدوء وسلام.
بعيدا عن كل ما سبق، يجب التأكيد على أنّ العامل الحاسم في توجهات الناخب الهندي في أي ولاية وطريقة تصويته يتلخص في السلام والأمن المعيشي الذي بهما يمكنه مواجهة أعباء الحياة اليومية. وهذا ما يعلمه “مودي” جيدا بدليل إيلائه اهتماما كبيرا للشأنين الاقتصادي والمالي للبلاد عبر ترغيب رجال الأعمال في الاستثمار في البلاد ووضع قيود وضوابط على عمليات تهريب أموالهم إلى المصارف الأجنبية. هذا ناهيك عن أنه رجل واقعي وبالتالي فإن هزيمة حزبه في نيودلهي ستدفعه أكثر وأكثر باتجاه تنفيذ ما وعد به شعبه قبل أن تتراجع شعبيته بصورة أكبر. وما إطلاق يد وزير ماليته “أرون جيتلي” مؤخرا لجهة التسريع في إنجاز برنامجه الموسوم بـ “صنع في الهند” الهادف إلى تنمية الصادرات الهندية ـ على النمط الصيني ـ وبالتالي تحقيق معدلات نمو أكبر في القطاعات التجارية والصناعية والزراعية والخدماتية إلا مثال على واقعيته وإدراكه لما يجب عمله من أجل الحفاظ على الزخم المؤيد له ولحزبه على نحو ما ظهر في انتخابات 2014 العامة.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh