أوّل الكلام: كما قام المسيح من بين الأموات، مصر قامت. والقيامة الآن.
أمّا بعد، في لحظات النصر، كما في لحظات الهزيمة، يجب الحفاظ على الرؤوس باردة. وما لا يحصى من الناس في مصر وخارجها، وكاتب هذه السطور من بينهم، يعدّون أنفسهم في عداد المنتصرين. قبل التحليل السياسي لما حدث في مصر، فلنفكر في المعاني العامة، التي تتجاوز حدود مصر، ولنضع المعاني في سياق أسئلة ربما جاءت على النحو التالي:
1-
أولا، ما هي هوية الحدث المصري؟
الجواب: ثورة شعبية هي الأولى في تاريخ مصر الحديث، والثانية في العالم العربي بعد الثورة التونسية التي سبقتها بعشرة أيام. (يوم 14 يناير هرب بن علي من تونس، ويوم 25 يناير اندلعت الثورة في مصر).
يستمد التشديد على معنى ودلالة الثورة الشعبية أهميته في سياق التاريخ العربي الحديث نفسه. فعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين وقعت في العالم العربي سلسلة من “الانقلابات العسكرية” التي أطلق عليها أصحابها تسمية “الثورة”. وقد فسد مفهوم الثورة خاصة بعدما تحوّلت أنظمة الانقلابيين إلى كوابيس ودكتاتوريات سافرة. واليوم، يعيد النموذجان التونسي والمصري إلى مفهوم “الثورة” اعتباره، بصرف النظر عمّا سيترتب عليهما من نتائج سياسية في تونس والقاهرة.
وإذا شئنا الكلام عن تحوّلات تاريخية في العالم العربي بعد الثورتين المصرية والتونسية، فلنقل إن مفهوم “الثورة” لم يعد يعني الانقلاب العسكري، لأن المعيار paradigm قد تغيّر. لذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن يردد المتظاهرون في الجزائر العاصمة، وفي صنعاء، في الأيام القليلة الماضية، شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذه هي كلمة السر الجديدة، التي سنسمعها في أكثر من عاصمة، بصرف النظر عن حظوظ المتظاهرين هنا أو هناك.
ثانيا، ماذا حدث، بالضبط، في مصر وفي تونس؟
الجواب: انهار النظام لأنه نمر من ورق. الأنظمة كلها نمور من ورق. قبل نزول المتظاهرين إلى الشارع بربع ساعة تبدو الأنظمة قوية، واثقة من نفسها، وقادة على القتال، لكنها تفقد القوّة والثقة وإرادة القتال بعد الصدمة الأولى. لماذا؟
لدينا جملة أسباب. السبب الأوّل، وهنا أعود إلى “الياس كانيتي”، أن الغاية القصوى للكتلة البشرية في الشارع هي التوّسع، خاصة بعدما تتحوّل إلى وحدة عضوية تستمد الحيوية من قدرتها على هضم المزيد من القادمين الجدد.
ثاني الأسباب أن المكلفين بحماية النظام خاصة في أنظمة طويلة العمر، يعيشون أوهام القوّة من ناحية، ويصلون إلى مراكزهم في هرم السلطة استنادا إلى مبدأ الطاعة والإستزلام من ناحية ثانية، وهم عادة أوّل من يقفز من السفينة إذا تسرب إليها الماء.
وثالث الأسباب، أن قدرة هذا النظام أو ذاك، مهما امتلك من أجهزة الأمن، وقوّة النيران، وإرادة القتال، تبقى محدودة ومحكومة بمنطق العصر. وفي عالم اليوم، لا تستطيع حكومة في أي مكان من العالم أن تقتل مائة متظاهر في اليوم بعيدا عن كاميرات التلفزيون، وصفحات الإنترنت، وبرقيات وكالات الأنباء، وأن تنجو بفعلتها وكأن شيئا لم يكن.
ورابع الأسباب، وهنا أعود إلى “أورتيغا غاسيت”، أن النظام لا يبقى لأنه يملك السجون والشرطة وأجهزة الأمن، بل يبقى لأن الناس يوافقون على بقائه، فإذا انتفت الموافقة يصبح انهياره مسألة وقت.
وأزعم أن هذه الأسباب، مجتمعة، تفسر ما حدث في مصر وفي تونس. ولكن تجدر الملاحظة أن أحدا لا يستطيع الإجابة على أسئلة من نوع: ولكن لماذا وقعت الثورة اليوم، بالذات، ولم تقع قبل شهر، ومتى تقع في هذه العاصمة أو تلك؟
ثالثا، وكيف وقع ما وقع؟
الجواب: بلغة العصر وأدواته. ثمة علاقة عضوية بين التكنولوجيا وأشكال التعبير السياسي. الثورات القومية البرجوازية في أوروبا النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتشرت في أوروبا مع انتشار خطوط السكك الحديدية. القومية نفسها نشأت بعد اكتشاف وتعميم الطباعة والمطبعة. ثورة البلاشفة في روسيا ارتبطت بالجريدة والمطبعة. وفي العالم العربية ارتبطت الحركة الشيوعية العربية بمطبعة “الستانسل” والمنشور، والقومية العربية الناصرية بـ”صوت العرب” والراديو، والثورة الإيرانية ارتبطت بأشرطة الكاسيت، والإسلام السياسي في العالم العربي ارتبط بالكاسيت والفيديو، وفي مرحل لاحقة بالتلفزيون والإنترنت. واليوم في مصر وتونس لعبت صفحات الإنترنت، والرسائل النصية، وكاميرات الهاتف المحمول، دورا حاسما في تبادل المعلومات وفي تجميع وتنظيم الشبّان الذين أشعلوا الشرارة الأولى.
رابعا، ولكن من هم هؤلاء؟
الجواب: إذا قلنا إن الشبّان، وهنا أقصد الذكور والإناث، هم الذين أشعلوا الثورة، أو كانوا نواتها الأولى، فإن الخلاصة المنطقية أن ما فعلوه ينطوي في جانب كبير منه على معنى التمرّد على السلطة الأبوية. فالأنظمة القائمة في العالم العربي، والحقبة السعودية التي بدأت منذ أوائل السبعينيات وانتهت في الخامس والعشرين من يناير الماضي، كلها تعني السلطة الأبوية. وهي، بالتحديد، خلاصة التعبير السياسي والثقافي والاجتماعي لما أسماه هشام شرابي، قبل عقود، بالبنية الأبوية (البطريركية) للمجتمع العربي.
في تونس على الأرجح، وفي مصر إلى حد كبير، جاء هؤلاء من أوساط الطبقة الوسطى، التي تعرّضت للإفقار، والتي تملك أيضا قابلية عالية للتأثر بما يدور من حولها، وفي العالم. وكما أن الثورة في مصر وتونس جاءت بلغة وأدوات العصر، أي أجهزة الاتصال الحديثة، فقد جاء التعبير عنها، أيضا، بلغة ومزاج العصر، أي بطريقة سلمية، وشعارات تخلو من الدم والثأر، بلا عنف، أو دعوات أيديولوجية.
بيد أن حقيقة ما حدث تتجاوز النوّاة الشبابية الأولى. الصحيح أن مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية في مصر وتونس هي التي صنعت الثورة وشاركت فيها. وما يستحق النظر والاهتمام في هذا الصدد أن لغة ومزاج العصر كانا أقوى من تحيّزات وشعارات القوى السياسية المنظمة، ومن بينها جماعات الإسلام السياسي.
الخلاصة: ثورة بلغة وأدوات العصر، وهي في الجوهر ثورة على السلطة الأبوية، بالمعنى الكبير للكلمة. وهذا مؤشر من مؤشرات المستقبل.
2-
فلنفكر، الآن، في السياسة. والتفكير يمكن أن يُصاغ في أسئلة من نوع:
أولا، هل تحقق الثورة أهدافها؟
الجواب: الأهداف واضحة: لا رئاسة إلى الأبد، ديمقراطية، حرية وعدالة اجتماعية، تداول سلمي على السلطة، وتعددية سياسية، وثقافية، واجتماعية، ومواطنة.
يمكن، بالتأكيد، صياغة هذه المطالب بصياغات مختلفة، لكن المضمون لن يتغيّر كثيرا. فلا ديمقراطية بلا مواطنة، ولا مواطنة بلا مساواة، ولا مساواة بلا عدالة اجتماعية، ولا عدالة اجتماعية بلا سيادة قانون، ولا سيادة لقانون بلا دولة مدنية، ولا دولة مدنية بلا مضامين علمانية.
هذه المفاهيم لن تتحقق دفعة واحدة. ولكن خطوة الألف ميل قد بدأت بالفعل. والمسألة، هنا، لا تتعلّق بموقف الجيش في مصر من الثورة، واحتمال استفراد العسكريين بالحكم، أو تجديد النظام البائد لنفسه. فهذه الأشياء، كلها، تنتمي إلى الماضي.
بيد أن الحكم عليها بهذه الطريقة لا يعني أن التحوّل الديمقراطي سيحدث في فترة زمنية قصيرة أو بلا عقبات. ثمة الكثير من العقبات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج إلى تذليل. لذلك، يصعب القول إن التحوّلات الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ستكرر نفسها في مصر بالسرعة نفسها.
لن يكون في مصلحة الرجعيات العربية (ولنُعد لهذا المفهوم الذي سقط من التداول اعتباره) ظهور ديمقراطية حقيقية في مصر، وهذا ينطبق على قوى إقليمية ودولية مختلفة. فلنقل إن السنوات العشر القادمة هي الحاسمة في مستقبل مصر والعالم العربي.
ثانيا، إذا أصبحت الانتخابات حرّة هل يحكم الإخوان المسلمون؟
الإخوان المسلمون جزء من الشارع السياسي. هذه حقيقة. ولكن ثمة حقيقة إضافية لا تقل عنها أهمية نستمد الدليل عليها من الثورتين التونسية والمصرية، وأعني بذلك أن الإسلام السياسي لم يُطلق شرارة الثورة في البلدين، ولا كان عمودها الفقري، و لا كانت شعاراته الرئيسة شعاراتها. وثمة ما يبرر القول إن نصيب الإسلام السياسي في الشارع، أقل بكثير من نصيبه في الإعلام.
فلنعد إلى المعادلة التقليدية التي رسخت في الأذهان على مدار العقود الثلاثة الماضية: إما أنظمة الاستبداد، التي يوصف بعضها في أجهزة الإعلام الغربية بالعلمانية، أو أنظمة الأخوان المسلمين. والواقع أن الأنظمة الاستبدادية نفسها هي التي أسهمت في ترسيخ هذه الفكرة، إلى جانب الحكومات وأجهزة الإعلام الغربية، و”الجزيرة” القطرية، وإسرائيل. وكان في الإمكان، ولأسباب مختلفة، التدليل على صحة وصواب هذا التحليل إما من خلال الفوز الانتخابي لحماس في انتخابات المجلس التشريعي في الضفة الغربية وغزة، أو في الانتخابات النيابية المصرية ما قبل الأخيرة.
وهذان النموذجان يحتاجان لإعادة نظر. فالتصويت لحماس الفلسطينية لم يكن لبرنامجها بقدر ما كان تعبيرا عن الاحتجاج ضد حركة “فتح”، التي ارتكبت ما ارتكبته الأحزاب الحاكمة في العالم العربي من أخطاء، وبالقدر نفسه كان التصويت في الانتخابات البرلمانية المصرية احتجاجا على النظام القائم.
بمعنى آخر، في ظل انتخابات حرّة ونزيهة، لا يمارس فيها الناخبون الاحتجاج ضد نظام قائم، فإن قدرة الإسلام السياسي على حصد أصوات الناخبين تظل محدودة، وربما لن تزيد على عشرين بالمائة وما دون، من الأصوات.
ثالثا، وما هي مصر ما بعد الثورة؟
الجواب: لن نملك إجابة واضحة حتى أواخر هذا العام. فمصر مشغولة بوضعها الداخلي، وكل سياسة محتملة لن تتضح قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وفي جميع الأحوال لن تكون مصر بعد الثورة هي نفسها ما قبلها. بيد أن خلاصة كهذه لا تعني انتظار تحوّلات درامية في المدى القصير والمتوّسط في العلاقات المصرية ـ الأميركية. ستبقى مصر حليفة للولايات المتحدة، لكن شروط التحالف ستتغيّر.
وكذلك الأمر بالنسبة لمعاهدة الصلح المصرية ـ الإسرائيلية. لن يُسارع المصريون إلى إلغاء المعاهدة، أو إلى افتعال صدام مع إسرائيل، لكن موقفهم من إسرائيل سيزداد تصلبا، وهذا ما سينعكس على موقف مصر من المسألة الفلسطينية.
عموما، لن يقبل قادة مصر الجدد، على الأرجح، بعد الانتهاء من حل مشاكلهم الداخلية، فقدان مكانتهم المركزية في العالم العربي، التي تدهورت في العقود الأخيرة إلى حد أصبحت معه عرضة للسخرية من جانب مشيخات نفطية إذا حضرت لا تُعَد وإذا غابت لا تُفتَقد. وبالتالي، فإن قياس موقفهم من المسألة الفلسطينية، ومن إسرائيل والولايات المتحدة، ومن المتطاولين عليهم في العالم العربي، سيعتمد على مدى فهمهم ورؤيتهم لدور مصر ومكانتها.
ثمة مسائل الأمن القومي: النيل، والحدود، والقدرات العسكرية والاقتصادية، والمصالح الإستراتيجية في الإقليم. وقد تهاون النظام، كثيرا، في هذا الجانب. وإذا افترضا بأن مصر وضعت قدمها، اليوم، على سكة التغيير في كافة القطاعات التعليمية والعلمية والثقافية والصحية والزراعية والصناعية، وقضايا البطالة والتشغيل والسكن وتحديث الريف، ومعالجة تداعيات الانفجار السكاني، وتنظيم الموارد، وسداد الديون، فلن تحصد نتائج حقيقية تمتاز بالديمومة والتراكم الإيجابي قبل مرور عقدين من الزمن.
هذه تحديات مرعبة. لكن مصر قامت. وفي قيامتها ما يشبه قيامة المسيح، الفكرة التي لا تحتمل التفكير والتأويل إلا باعتبارها مجازا لإرادة الروح في التاريخ. عودة إلى الهيغلية. ربما، ولكن بلا استطرادات رومانسية. كل ما في الأمر أن الشعوب، كما الأفراد، يجب أن تحلم، وأن الأحلام الجمعية مُوّحدة وتوحيدية. وحلم الحرية والديمقراطية اسم من أسماء القيامة في عالم العرب هذه الأيام.
Khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني