شهد القرن العشرين انتشاراً واسعاً للمفاهيم الديمقراطية في العالم، وهزيمة للانظمة الديكتاتورية الفاشية، بعد حرب عالمية ثانية كان من نتائجها الرئيسية الإعلان العالمي لحقوق الانسان، كمثل أعلى مشترك للحريات الأساسية تعمل لبلوغه كافة الأمم. فبعد موجة التحول للديمقراطية في المانيا واليابان وايطاليا، جائت الموجة الثانية في السبعينات بانتقال اسبانيا والبرتغال واليونان ودول اميركية لاتينية وافريقية للديمقراطية. والموجة الثالثة عقب انهيار جدار برلين في العام 1989 الذي تحول الى زلزال ادى لانهيار الامبراطورية السوفييتية وانتقالها بكامل دولها الى الديمقرطية بعد فشل الغاء الحريات السياسية بحجة العدالة الاجتماعية.
اما الموجة الرابعة فهي التي نعيشها الآن في العالم العربي، فجزيرة الاستبداد العربية في بحر العالم الديمقراطي لم تعد استثناءً، فقد اقتحمتها الانتفاضات ساعية لإدراجها في المسيرة الإنسانية بعد أن عاكستها طويلاً. ثبت لشعوب المنطقة، التي اتت للديمقراطية من خلال وعيها أن تحسين أوضاعها المعيشية يرتبط بها وبتوسيعها، أن بلدانها ليست عصية على التغيير، وأن الانتقال للديمقراطية لم يعد أمنيات لنخب مثقفة بل مطلب شعبي عارم.
ولكن فيما عدا الاستثناء التونسي، لماذا تتعثر مسيرة الانتقال رغم التضحيات الكبيرة التي قدمت لانجاحها ؟
بشكل عام لكل بلد طريقه الخاص في التحول ولكن هناك خطوط عامة متماثلة، فالتأثير المتبادل وانتقال العدوى طبع الثورات في كل من بلدان شرق اوروبا وبلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا. كما انه في المنطقتين كان هناك دور للعامل الخارجي في دعم التحول من قبل الغرب السباق للديمقراطية، إذ من مصلحته انتشارها ضمن شروط عدم تأثير ذلك على مصالحه الامنية والاقتصادية. فكان دعمه غير محدود لدول المعسكر الشرقي حيث مصلحته في انهياره. واذا لم يكن هناك حساسية وطنية من التدخل الخارجي في دول المعسكر الشرقي، فان الحساسية الوطنية الزائدة لا تزال تعرقل قبوله في اوساط واسعة بالمشرق العربي، رغم انه لم يتجاوز الدعم السياسي في معظم الحالات، وتحول لتدخل عسكري في حالات محدودة كما في يوغوسلافيا السابقة، وليبيا.
في الموجتين لم تكن التغييرات مفاجئة نسبيا فقد سبقها انتفاضات وتغييرات مهدت لها، ففي شرق اوروبا انتفاضة المجر 1956 وربيع براغ تشيكسلوفاكيا 1968 وانتفاضة “حركة تضامن” بولونيا 1980، قمعت جميعها بالدبابات السوفييتية. فيما في العالم العربي قامت انظمة باصلاحات سياسية مستبقة انتفاض شعوبها كما حدث في المغرب والجزائر والاردن ومصر وغيرها، التي وان امتصت بعض النقمة الشعبية فانها لم تصل لتغيير شامل وبقيت ضمن اطار “ديمقراطية موجهة” بنسب تختلف من بلد لآخر. فيما في العراق اسقط النظام الاستبدادي بالقوة من الخارج وتعثرت بعدها ديمقراطيته بالانجرار للصراع المذهبي. وانتفاضة الارز في لبنان 2005 نجحت في طرد الاحتلال السوري واسترداد الديمقراطية اللبنانية النسبية، لتعاق من الحزب الالهي كوارث للوصاية السورية.
هناك خصوصيات في العالم العربي جعلت تجربة ارساء الديمقراطية فيها امرا عسيرا، ففي شرق اوروبا الثقافة السياسية متقاربة مع ثقافة غربها، التي قطعت مع التراث القديم وانتقلت لعصرالنهضة والتنوير مرورا بالاصلاح الديني منذ قرنين. فيما تأثير التراث القديم وخاصة الديني لا يزال مسيطرا في العالم العربي ويلعب دورا رئيسيا في عملية التغيير، التي اعطت الفرصة لتيارات سياسية دينية لتوجيهها نحو تلبية برامجها التي تستقي من التراث القديم المتعارض مع مسيرة الانسانية الحداثية، وبالتالي هددت بجر الصراع بين الشعب والسلطة الاستبدادية لصراعات مذهبية طائفية كما في العراق وسوريا واليمن.
محصلة الثقافة التنويرية في الغرب ان العلمانية امر محسوم وغير قابل للجدل، فالدولة المدنية الديمقراطية قادت امم اوروبا الغربية للتقدم والحضارة، وتبعتها دول شرق اوروبا في نفس الطريق دون تردد. والصراع مع الانظمة المستبدة الشرقية كان واضحا بين طرفين محددين، النظام الاستبدادي من جهة والشعب المنتفض من اجل حرياته من جهة اخرى. فيما الصراع معقد في العالم العربي بحسب تركيبة مجتمعاته، فهناك طرف ثالث الى جانب الطرفين الرئيسيين، هو تيار الاسلام السياسي الذي تتراوح مواقفه من رفض متطرفيه للديمقراطية باعتبارها كفرا مستوردا، الى قبول معتدليه بالديمقراطية ولكن كقطار يوصلهم للسلطة ثم يغادرونه لاقامة الدولة الدينية التي تعتبر الشرع دستورا لا تحيد عنه، رغم فواته وعدم ملائمته للعصر.
الدولة الدينية في العالم العربي لا تزال تعتبر لدى القطاعات الاكثر تخلفا حلا لكافة ازمات المجتمع، ويعبر عن ذلك عادة بشعار “الاسلام هو الحل”، فيما هي وصفة لتكريس تأخر المجتمع، والمزيد من تهميشه وتخلفه عن ركب الحضارة الانسانية. لا يوجد اي تيار اسلامي عربي باستثناء حزب النهضة التونسي، يشابه اسلاميي حزب العدالة والتنمية التركي الذي قبل بفصل الدين عن السياسة، كما تفعل الاحزاب المسيحية الديمقراطية في اوروبا بشرقها وغربها، وبذلك حقق نجاحات كبيرة سياسية واقتصادية وضعت تركيا في مصاف الدول الحديثة والمتقدمة.
كما ان هناك اختلاف آخر بين الموجتين الثالثة والرابعة من ناحية الانزلاق للعنف في الصراع بين الاطراف المختلفة، ففيما عدا يوغوسلافيا السابقة، التي ربما تكاد اوضاعها تقترب قليلا من شرق المتوسط، فان الانتقال للديمقراطية في شرق اوروبا تم بوسائل سلمية. في العالم العربي انزلق للعنف في سوريا وليبيا واليمن، ليس فقط بسبب من تمسك الانظمة بالسلطة، ولكن ايضا بسبب طبيعة التيارات الاسلامية السياسية الرافضة للديمقراطية وخاصة قبول الآخر ومنافسته سلميا، فالسيف “بيني وبينكم!” هو الذي يقرر الغلبة لمن، فيما ان الطريقة الحضارية تعتمد صندوق الاقتراع الذي يقود لتداول سلمي للسلطة.
لا حل للاختلاف حسب عقائد التيار الاسلام السياسي الا بالتصفية الجسدية والتطهير المذهبي والطرد من البلاد، ليبقى المذهب الواحد الوحيد الصحيح، والباقي كله الحاد وبالتالي من المفترض انهاؤه فلا حل وسط أو تعايش معه. ثقافة اللون الواحد التي لا تقبل الحياة المتعددة الالوان والاشكال، اختارت اللون الاسود لرايتها لكونه يغب جميع الالوان الاخرى اذا اختلط معها فلا يظهر لها اي أثر.
ومن العنف ورفض الديمقراطية العلمانية وتجريم الآخر المختلف ينبع “الارهاب” كميزة خاصة لا شيء يشابهها في شرق اوروبا، ليعقد مسار التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. وهذا ما حصل في سوريا والعراق حيث الى جانب الاطراف الثلاث النظام، والحركة الشعبية الديمقراطية، والاسلاميين الساعين للدولة الدينية، برز تنظيم “داعش” خارجا من عباءة التيار الاسلامي ليمارس ارهابا، يهدد استقرار المنطقة باجمعها والعالم مستقبلا. علما ان انتشار المنظمات الارهابية تحت مظلة الثورة، لعب دورا اساسيا في عزوف العالم عن التدخل لانهاء النظم الاستبدادية حيث باتت اغلبية تخشى من ان سقوطها سيأتي للسلطة باسوأ منها.
الاختلاف امر طبيعي بين التحول الديمقراطي في شرق اوروبا وشرق المتوسط وجنوبه، ولكننا نرى ان العوامل المذكورة التي اعاقته في الموجة الرابعة، لن تغير من المحصلة العامة للمسيرة الانسانية، في كون العالم بكافة دوله يمر في مرحلة الانتقال للديمقراطية، ولكن الفرق الرئيسي ان المنطقة العربية ستدفع ثمنا كبيرا لهذا التغيير، الآتي رغم طول الزمن وكل الاعاقات. قد يكون هذا نوع من “الايمان” ولكنه ربما “اضعف الايمان”، فالامل عامل انساني له دور الى جانب العوامل الاخرى.
لماذا نجح التحول الديمقراطي في شرق اوروبا وأعيق في شرق المتوسط الأديان لعنه شعوبنا، إرث ثقيل على كاهلها، وخاصه الاسلام الذي يعني الخنوع كمبدأ وتحييد العقل والمنطق حتى وان واجهت “الموءمنين” ببراهين واضحة كالشمس ، ومنه فان الخنوع او الاستسلام لله او محمد او عيسى يسهل تقبل الخنوع للدكتاتوريات المجرمه التي برأيي ليست اكثر اجراما من الأديان والعقائد القرن أوسطيه. للعارف بالتاريخ الاسلامي والمسيحي لا يرى داعش الا غيض من فيض للإجرام الذي مورس لنشر الاسلام بحد السيف ولا ننسى ممارسات الأوربيين بفتوحاتهم كمسيحيين لانقراض شعوب باكملها. في ساحه وسط مدينة بروكسل عاصمه بلجيكا والاتحاد الأوربي تمثال للملك ليوبولد وما… قراءة المزيد ..