يوم استشهاد الطيار في الجيش اللبناني ”سامر حنا”، قال رئيس تكتل ”التغيير والاصلاح“ ميشال عون: ”ماذا كان يفعل الجيش اللبناني فوق (في سجد)؟“. استغرب الجنرال في ذلك اليوم أن يتنقل الجيش اللبناني بطائرة هيليكوبتر في الأراضي اللبنانية من دون إذن من ”حزب الله“، مع أن هذا الاذن كان طلبه الجيش من ”المقاومة“! ومع ذلك صمت الجنرال في ذلك اليوم بعدما حمّل الجيش مسؤولية التنقل في الأراضي اللبنانية، كما صمت يوم إطلاق النار على سيارة للجيش اللبناني في البقاع الذي أدّى إلى استشهاد أربعة من عناصره على يد أشخاص فروا إلى سوريا وهم الآن في حضن النظام السوري الذي رفض تسليمهم إلى الدولة اللبنانية،
هذا الصمت انسحب أيضاً على الجنرال يوم حرب نهر البارد، حيث كان الأمين العام لـ ”حزب الله“ السيد حسن نصر الله قد قال إن المخيم خط أحمر، فأتى الطير ووقف فوق رأسه. ولكن الجنرال في هذا الوقت يرسل ”الجماهير“ لإغلاق الطرق واحراق الاطارات كما حصل أول أمس، رفضاً لمحاكمة الضباط الذين كانوا موجودين لحظة اغتيال الشيخين محمد عبد الواحد وحسين مرعب في عكار، كأنما هناك صيف وشتاء لدى الجنرال تحت سقف واحد.
استغراب الجنرال وصمته على قضايا تعرض فيها الجيش للاعتداء كثيرة، ومنها أيضاً صمته على محاكمة ضباط الجيش وعناصره بتهمة إطلاق النار على متظاهرين بالقرب من كنيسة مار مخايل في الشياح في العام 2007،
هذان الصمت والاستغراب لا يشبهان بالتأكيد الحملة التي يقوم بها الجنرال حالياً على مطالبة أهالي الشيخين محمد عبد الواحد وحسين مرعب بمحاكمة المسؤولين عن قتل ولديهما. فهذه الحملة المنظمة التي ترافقها حرب شائعات أطلقها الجنرال من “الرابية” بشكل لا يمكن للعقل أن يتقبله، فتحت الباب للتساؤل عن مدى صدقية مواقف الجنرال من القضايا الحساسة التي يمر بها لبنان. وبدلاً من المطالبة بتحقيق جدي، بدأ برمي الشائعات عن وجود مشروبات روحية في سيارة الشيخ وأسلحة، كأنما هو بذلك يريد استفزاز الأطراف اللبنانية المعنية إلى مشكلة كبيرة بدلاً من التهدئة.
منذ أول أمس والشارع الذي يديره ”التيار الوطني الحر“ صار محباً للجيش ويريد الدفاع عنه. يغلقون الطرق باسم أنصار الجيش، ويشعلون الإطارات، ويتنقلون في المناطق رافعين رايات ”التيار“، متناسين صمتهم الكامل يوم استشهاد سامر حنا وغيره من عسكريين، في مرحلة كان مطلوباً منهم أن يرفعوا الصوت أمام الاغتيال المقصود، ولكن ما يحصل هذه الأيام في ظل اقتراب سقوط النظام السوري، يشير الى فقدان البوصلة لدى كثيرين ومنهم ”التيار البرتقالي“.
في الطريق الواصل بين بيروت وطرابلس، عند منطقة جونية لم تصدق المرأة التي تلبس برمودا لون ”باج“ و”تي شيرت“ برتقالية اللون أن الفرصة سنحت لها لتعبّر عن رأيها وموقفها السياسي بما يحصل بالبلد من خلال التحرك بالشارع، جرّت ابنها الصغير وجرّت معه إطاراً مطاطياً ووقفت تريد إشعال إطارها، تتجه إلى السيارات تريد إيقافها، يقترب ”كميون“ قاطرة ومقطورة يريد العبور قبل أن تنقطع أوصال المنطقة ولكن المرأة تستعجل لقطع الطريق عليه، الابن بدأ يحس وكأن جبلاً بدواليب يقترب منه، خاف من عجلات ”الكميون“ ولكن الأم التي تنتمي بقلبها ووجدانها لـ”التيار” قرّرت أن تطحش بشكل أسرع وتغلق السير على الدنيا غير آبهة لا بالسيارات ولا بركابها، تبتسم المرأة للكاميرات فهي اليوم تظهر صورة جديدة للتيار البرتقالي غير المعروفة عنه سابقاً.
فجأة انقلب التيار وبدلاً من النقاش والتظاهرات السلمية والاعتصامات الهادئة تحول هذا الجسم السياسي إلى مجموعات ترمي حجارة على الحلفاء المعتصمين أمام باب شركة الكهرباء ”المحسوبين على حزب الله وحركة أمل“ وتهددهم بالعقاب إن لم يفكوا هذا الاعتصام ويرحلوا إلى بيوتهم، وكذلك تعمل لاغلاق الطرق والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
إنه التيار العوني في صورته الجديدة، في مشهد جديد من ظهور متفاوت على طرق البلد، مشهد مختلف عن كل ما قد يتبادر إلى الذهن من تاريخ ناشطي التيار الوطني الحر قبل العام 2005، حيث كانوا شيئاً وصاروا اليوم شيئاً آخر. فـ ”التغييريون“ حملوا اطارهم في مناطق وحجارتهم في مناطق أخرى وانتقلوا من نخبوية أعوام ”الوصاية“ إلى جمهور يتحرك حسب العرض والاختلاف السياسيين.
في أعوام التسعينيات كان شبان ”التيار“ يتنقلون كالمبشرين بين الناس لدعوتهم إلى مواجهة نظام الوصاية السورية، كانوا يرفضون التظاهر بعيدا من جامعاتهم، يوزعون مناشير تحمل أقوال الجنرال بعد نفيه من لبنان إلى فرنسا، وكانوا يشترون الخضار والفاكهة والكعك ويبيعونه كلبنانيين في مواجهة العمالة السورية الذين أتوا إلى لبنان. ولكنهم ورغم موقفهم الواضح في تلك المرحلة الماضية لم يقوموا بقطع الطرق او إشعال الاطارات وذلك لعدة أسباب أولها اعطاء صورة المواطن الصالح الذي تعرض للكثير فبقي مصراً على رفض السلاح خارج الشرعية المتمثلة بالجيش اللبناني، وكذلك رفض قطع الطرق لأن الاقتصاد اللبناني يجب أن لا يتدهور لأن نجاحه سيكون جزءاً مساهماً في اخراج السوريين، أما الإطارات المطاطية فهم كانوا يرفضون إحراقها لأنها تدمر البيئة وصحة الأطفال.
إذا، ذاك النموذج ”العوني“، حمل شنطته وترك التيار مسافراً إلى عمله في الخارج إما في إفريقيا مهندساً في شركة نفطية أو مهندساً معمارياً في كندا أو عاملاً في مجال البيئة في أوستراليا، أو جلس في منزله هنا يتلقط أخبار السياسة من بعيد، ويرى من يدورون في فلك ”الرابية“ ممن كانوا يعتقلون الناس أو ”يؤدبونهم“، ينتظر هنا أن تتغير الدنيا، أو أن تأتيه السماء بنعمة فرصة عمل في الخارج.
ولكن ”العونيون“ الجدد هم هذه الأيام فئة أخرى غير المجموعة النخبوية التي اخترقت المناطق اللبنانية والسياسة في تسعينيات القرن الماضي، هنا والآن، خليط من بعض قدامى كانوا في التيار وجمهور جديد مختلف كلياً عن تلك النخبة، إنه جمهور تفاهم العام 2006 الذي بدأ نشاطه بدورة تدريبية على إشعال الإطارات يوم 23 كانون الثاني 2007 تحت يد مدربين خبراء من ”حزب الله“ وحركة أمل.
انتقل ”العوني“ من ”المسالم“ و”الغاندوي“ إلى رافعاً لأصبعه مهدداً ومتوعداً، اختلف كثيراً عن الصورة المشرقة التي أرادوا في ذلك الزمن أن يظهروها، فاللون البرتقالي المأخوذ من الحياة الهولندية الهادئة كان فكرة استقال من التيار مقتبسها، وكذلك إشارة ”الصح“ التي لا تشبه الحروب والمأخوذة أيضاً من شعار عائلة ”دي أورانج“ حاكمة البلاد الهولندية لا تعني في بلادها إلا السلم وتوابعه.
فجأة وهنا، تحول ”العونيون“ إلى حاملين للاطارات السوداء ومشعلين لنيرانها وكذلك رماة للحجارة على ”المياومين“ المعتصمين في شركة الكهرباء ومهددينهم بالعقاب وشره، إضافة إلى قيامهم قبل فترة باعتصام أمام مبنى كهرباء لبنان في الجمهور رافضين نقل أحد المحولات إلى محطة الزهراني الجنوبية، حيث يسكن جمهور الشريك الأكبر في صناعة تحالف الشياح – مار مخايل، كأنما الآخر في الوطن يجب أن يعاقب ولو كان حليفاً.
يروي أحد أساتذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أن النموذج ”العوني“ قبل سنوات هو غيره اليوم، فذاك المثقف النخبوي، كان يسجل أعلى العلامات في الجامعات كما يسجل في الوقت نفسه أعلى علامات الحراك السياسي، يقول الأستاذ إن الأمور تغيرت في ”الديسبلين“ العوني، وإن النظم تبدلت فرحل من لم يحتملها، وأتى من يحمل هذه النظم في وجدانه، فالعونيون الجدد ”بقديمهم القليل وحديثهم“ تعلموا بعد وثيقة التفاهم على يد الأخوة أن يقطعوا الطرق وأن يسدوا مداخل الأبنية مثل اعتصامهم في وسط بيروت وقطعهم أرزاق الناس لأكثر من عام ونصف، وكذلك تعلموا أن يقطعوا الطرق بالاطارات المشتعلة، ولكن ما لم يدركه ”المعلم“ أن تلميذه ”نجيب“ زيادة عن اللزوم، فبعد أن فشّ العونيون خلقهم وصاروا مدربين جيداً على أعمال ”العنف“ إنقلبوا على المعلم، وبدأوا فيه أولاً، من تهديد المياومين المحسوبين على أمل وحزب الله، ومحاصرتهم في شركة الكهرباء ورمي الحجارة عليهم وتهديدهم بأسوأ العواقب، متناسين أن لبنان لا يحتمل هذا الصيف ضروب زائدة في المشاكل.
أحد الحكماء كان يقول ”الجدية ما بتعلم امها الرعية“، و”علمناهم عالشحادة سبقونا عالبواب“، هكذا كما يقول الرجل صار مع ”حركة أمل“ و”حزب الله“، تركوا للجنرال ما يريد أن يفعل مقابل أن يأخذو ما يريدون، فما طابق حساب البيدر تعداد الحقل، ولذلك يعود الرجل إلى حكمة أخرى وهي ”اللي طلّع الحصان عالميدنة.. ينزلو“.
oharkous@gmail.com
كاتب لبناني – بيروت