لا يتعلق الأمر بجني المغانم السلطوية في سيرة بيت الأشراف إذ أنهم يعملون وفق مقولة قالها الشريف حسين في تأبين عميد الأسرة: “أنتم ملك للشعب السوداني” تركة ثقيلة وإرث
الخرطوم – حسن محمد على
لو كنتم تظنون أن أسرة الشريف يوسف الهندي منتقصة في دورها الوطني بمقاييس المشاركة الحالية للعشائر والأسر في السلطة فلا تقلقوا كثيرا! فالشريف “صديق الهندي” أحد عتاة الأسرة الباذخة يتمنى مزيدا من الانتقاص لأن مجرد النظر لتمثيل في الواقع الحالي “ديكور”، حسب ما يرى سليلُ الأسرة الهندية. لكن إذا كنتم تبحثون عن مخلص وملهم جديد من أصلاب “الهنود” فالرغبة ملحّة لدور بيتٍ طالما رفد الوجع الوطني بدواء ناجع، وكان قادتها وأبناؤها لقيا مواعيد القدر كلما ضرب لهم موعدا التقاهم أهبة الوقت زمانا ومكانا.
(1)
بشكل دقيق يمكن اعتبار رسالة الأشراف الوطنية بما يقرأ عن مسيرتهم في أنها أوسع من مجرد رسالة سياسية، وحسب متابعة سيرتهم فهي ممارسة في دورهم لأن أسرة الشريف الهندي لما جاءت قبل (570) عاماً كان عميدها معلما للقرآن وبث الوعي حتى تفرعت بعد ذلك..
ولما جاء العمل السياسي كانت لهم رسالة وطنية واسعة بكل معانيها بما فيها الموقف ضد الظلم ومناصرة الحق أينما وجد، وفي الحركة السياسية فإن الشريف محمد الأمين ناصر الثورة المهدية وأيدها واستشهد ابنه الشريف علي حاملا راية الأنصار في معركة سنار ثم تسلم الراية من بعده ابنه الشريف يوسف الهندي وكان صغيرا في عمره لم يتجاوز الثالثة عشرة، وحارب في سنكات والقلابات، وبعد ثماني سنين حبسه الإنجليز في “برّي” وحدد المستعمر إقامته ومنعه من الرجوع لمنزله وأهله في الجزيرة لمدة أربعة وثلاثين عاما لاتهامه وإدانته بمناصرة الثورة المهدية حتى توفاه الله في منفاه القسري. ولما جاءت الحركة الوطنية كان الشريف يوسف من أول المبادرين قبل قيام نادي الخريجين حيث أنشأ صحيفة الحضارة في العام (1919)، ثم بعد ذلك منح داره للخريجين لتكون مقرا لهم، وتوفي الشريف قبل نشوء الأحزاب السياسية، لكن أبناءه انخرطوا في الأحزاب. فخليفته الشريف عبد الرحمن لم يمارس عملا سياسيا مباشرا حتى لا يدخل المريدين في صراع حزبي، بل كان موقفه وطنيا باعتبار أنه لا صراع حول القضايا الوطنية، ومتروك الخيار لهم ومارس أبناؤه السياسة حيث كان شقيقه الشريف إبراهيم عضوا في الجمعية التشريعية، لكن بمجرد أن تقلد خلافة الطريقة توقف عن العمل السياسي وكذلك الخلفاء من بعده. ورغم أن الخليفة أحمد الموجود حاليا على قيادة الطريقة يعتبر من السياسيين حيث شارك في الجبهة الوطنية وتدرب في إثيوبيا لكنه لا يتحدث الآن في السياسة مطلقا في مجلسه، ومن الناحية الموضوعية يترك هذا الالتزام مزيدا من التماسك.
(2)
لايبدو الأمر مهما في جني المغانم السلطوية في سيرة بيت الأشراف، فهم يعملون وفق تركة ليس جلها من القصور والأموال والذهب وإنما مقولة تركها عميد الأسرة الشريف يوسف الهندي قالها ابنه الشريف حسين في تأبينه حيث تقول الوصية الغالية مخاطبا أبناءه “أنتم ملك للشعب السوداني”، ورغم أن أسرة الأشراف تحسب ضمن البيوت الدينية بحكم أنتمائها الصوفي لإحدى أكبر الطرق الصوفية في البلاد وهي الطريقة الهندية، إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون لهم رأي متقاطع عندما يتعلق الأمر بالسياسة وممارستها، وللشريف حسين أيضا رؤية واضحة عبر عنها بمقولته الشهيرة “لا قداسة مع السياسة”، وأيضا “نحن ضد الكهنوت السياسي”، ومنع ذلك الاعتقاد رغم ارتباط أبناء الأشراف بالمنظومات السياسية وانخراطهم في العمل الوطني من استغلال إسمهم الديني لتحقيق المأرب السياسية، وهي ميزة لا يختلف حولها اثنان إذ يفصلون بين انتمائهم لطريقتهم الدينية والصوفية تماما بعكس آخرين لا يبعدون انتمائهم الصوفي من السياسة بل يمتطونه دائما لتحقيق المكاسب السياسية.
(3)
يعود الشريف صديق الهندي للتذكير بأن أبناء الطريقة الهندية وكعادتهم ليسوا من بيوت السلطة وإنما عاشوا مع الناس في قراهم ومدنهم وبعيدا أيضا عن زخم العاصمة، ويقول: “لم يكن مسموحا لهم العيش في رحاب الخرطوم”، ويستدل على ذلك بأن الشريف يوسف لما حددت إقامته الجبرية التي امتدت لخمسة وثلاثين عاما لم يصطحب معه أبناءه بل بناته اللائي زوجهن لأسر في ضاحية بري الكائنة الآن، وقال إن الشريف منع من الخروج وكذلك خلوته لكن كان الناس يأتون إليه في مقامه، وينوه الشريف بقوله: “لما كانت الأسر حاكمة نحن كان جدُّنا مسجونا”.. ويلفت إلى أن الأراضي الحالية لأسرة الشريف لم يمنحها لهم الإنجليز بل اشترى بعضها والبعض الآخر منحت له من قبل أصهاره وآل الفرحاب، ويرى أن ذلك منحهم حرية الممارسة السياسية واحترام الرأي ويستدل بعضويته لسكرتارية اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في عهد رئيسها علي عثمان محمد طه دون أن يؤثر ذلك على وجوده في مسيد الأشراف رغم أن الشريف حسين كان ملء السمع والبصر وكذلك الشريف زين العابدين.
(4)
يقطع الشريف صديق بأن موقف أسرتهم الوطني لن يتغير ولن يستطيع أحد أن يغيره، ويقول إن المحافظة على هذا الموقف يسهل من ظهور مبادرة حتى من داخل الأسرة لو قدر لها أن تكون، لكنه يرجع ويقول إن طبيعة النظم تختلف من السابق والآن، وهل من كان لديهم استعداد لسماع الآخر موجودون الآن بخلاف الحاكم؟، باعتبار أن الحاكم لم يكن مهما في كل المبادرات التي قادتها الأسرة وأبناءها، وهو لم يكن جزءا من الرضا أو المخاطبة، يرد بنفسه أن هذا غير متاح، ويشير إلى أن العقبة الأساسية في الحوار هي السلطة نفسها باعتبارها الأكثر مسؤولية وتعنت وتردد وهي لا تضارع في ذلك، وحول الاشتراك الحالي للأسر يصفه الشريف صديق بأنه استيعاب فقط، يرى الشريف رغم ذلك أن الذهن الشعبي يتفرس طبيعة تكوين الأنظمة والحكومات بمقولة شهيرة “الحكم ده فيهو منو؟”، وهو سؤال حسب الشريف موجه للسلطة، لكن العبرة في استخدام القيمة المعنوية إذا ما ربطنا الأمر بمشاركة صريحة لأسرة الأشراف في السلطة، ويردف: “كيف يجوز لنا أن نستخدم قيمة وميزة لأسرة أو قبيلة برزت على مدى طويل جدا فيها تضحيات الدنيا والعالمين تقوم ببيعها بوزارة لمدة سنتين؟”، يرفض الشريف صديق ذلك ويقول إنها غير متناسبة، ويقول إن هنالك مجموعات كبيرة تشارك في السلطة لكن ماذا تعمل وماذا تبيع قبور آبائهم وعليهم أن يجيبوا على السؤال “لماذا وضعت هذا الكرت؟”، ويأمل مسترسلا في حديثه: “لو أن أحدا سيشارك لتأتينا المن والسلوي فلا مانع من ذلك لكن أين هي؟”.
(5)
كنا نقصد على الدوام الأثر المعنوي لمشاركة أسرة الشريف الهندي في الهم الوطني ونحن نعد هذه المادة، وبدا أن شقة استطالت بعد رحيل الشريف زين العابدين وقبله شقيقه الشريف حسين لكن ما تركوه من إرث كان كفيلا بالاستمرار بذات منهجه رغم أن الأمر لا يبدو كذلك خاصة في الحزب الذي ينتمي اليه أبناء الأشراف وهو الحزب الاتحادي الديمقراطي، فبالنسة للشريف صديق يرى أن المبادرة التي قادها الشريف زين العابدين الهندي ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر وعلم أن مصيرها أن تستوعب الحزب وتفعل به ما فعلت لدرجة التلاشي المذل لم يكن ليقودها، رغم أنه قد عبر عن رفضه لكن صديق يتأسف ويردد أن الاستغلال السياسي مازال مستمرا باسم المبادرة، فيما لا تتوانى الشريفة مريم الهندي القيادية الشابة بالحزب وهي تقول إن ما يحدث خلف لافتة الحزب الاتحادي الآن هو في الحقيقة ترويج لمشاريع شخصية وأطماع لأشخاص بعينهم، رغم أن الأصل هو الترويج للفكرة والمدرسة التي انتمينا إليها، ومثلا نحن في الحزب الاتحادي الديمقراطي تركنا شعارات وأهداف الحزب التي تنادي بـ”حرية الفرد ديمقراطية التنظيم حكم المؤسسة” وهرولنا ناحية أشخاص بعينهم.
(6)
لكن هذه المشاركة هل كانت مقنعة حتى للشريف زين العابدين نفسه الذي فجر مبادرة الحوار الشعبي الشامل قاصدا إدارة حوار مع الشعب والسلطة لا حصد المغانم والالقاب؟، يجيب الشريف الأمين الهندي بقوله: “أنا آخر من كان يرافق الشريف في ألمانيا التي توفي فيها وهو لم يكن راضيا عن ما آلت إليه المبادرة”، وينوه الشريف الأمين إلى أن وزراء الحزب في الحكومة كانوا يعلمون تماما عدم رضا الشريف عن أدائهم في الحزب والحكومة وكثير من الناس يشهدون بذلك، ويضيف: “لذلك أنا أعتقد جازما أن أسعد الناس بعد وفاة الشريف زين العابدين الهندي المشاركون في حصة الحزب في الحكومة بل كانوا يعتقدون أن وجوده وحياته كانت مهددا لهم، خاصة بعض من يهللون الآن باسمه، ولدي ما يثبت صحة حديثي بالمستندات”..
(7)
مثلما يبدو السؤال قائما عن دور لرجال الأسرة الهندية فكذلك نساؤها هن الاخريات تملي عليهن تركة ثقيلة وإرث نضيد أن يكشفن عن دور أكثر لتلك السيرة وحفاظا عليها، ورغم أن البعض يرى أن دور المرأة في الأسرة الشريفية قد يكون منعدما إلا أن مريم الشريف الهندي وهي إحدى الناشطات في العمل السياسي وترجع بانتمائها للأسرة ترى خلاف ذلك.. حيث تقول: ليس صحيحا أننا كبنات في الأسرة الشريفية نتقاعس عن القيام بدورنا، أما في ما يلي الممارسة السياسية للمرأة في أسرة آل الهندي فلا أتفق معك في عدم الظهور نهائيا ولكن قد يكون الحديث صحيحا في نسبة ظهورها وسطوعها، فالسيدة آمنة الهندي شقيقة الشريفين حسين والزين خاضت أصعب فترة نضالية في عهد النظام المايوي، ولها شرف نقل الخطابات وأشرطة الكاسيت التي تحوي رسائل وتسجيلات الشريف حسين، وأيضا الشريفة شموم زوجة الشريف صديق الهندي لها دور وطني وتاريخي لا تخطئه العين.
(8)
لكن البعض نحا إلى أن آخرين استفادوا من اسم الشريف ووضعه التاريخي لتكوين أمجاد شخصية ربما قد لا تتواءم مع الأدوار التاريخية التي لعبها السابقون، وبانعطافة سريعة نحو وقائع وحيثيات الوضع في الحزب الاتحادي الديمقراطي يمكن قراءة ذلك بصورة جلية، فالتاريخ يشهد بأن الشريف حسين طوال فترة سنيه في الحكم لم يقدم أحد أفراد أسرته أو شقيقه الشريف زين العابدين بل ظل الأخير عضوا فقط في الجمعية التأسيسية إلا بعد وفاته، وذات الأمر طبقه الشريف زين العابدين فرغم أنه رشح ابن أخيه الشريف صديق الهندي لتقلد إحدى الوزارات الاتحادية إلا أنه رفض ذلك لأن الترشيح كان مقصودا منه استخدام الاسم، لكن عكس ما يحدث الآن فقد قام الدكتور جلال الدقير الأمين العام للحزب الاتحادي وخليفة الشريف زين العابدين الهندي سياسيا بتقديم شقيقه لتولي منصب وزاري في حكومة ولاية الخرطوم، وأعاد الثقة فيه لدورة جديدة لم تبدأ بعد، وهو ما يؤكد انفراط الادب الشريفي الذي كان يغطي على الممارسة السياسية في الحزب ويحجب عنه الانتهازية بالزهد الذي عرف به أهله، ولتأكيد أن المشاركة قد تأخذ هذا المنحى فالمعلوم أن الشريف زين العابدين الهندي صوت ضد المشاركة في الحكومة والإبقاء على الدور المعارض للحزب في الطريق الثالث.
(9)
ويتجاوز دور الطريقة الهندية وأبنائها مجرد السهم الوطني إلى أدوار على المستوى الإقليمي فقد زار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر سرايا الطريقة الهندية النبوية في العام (1968) متزامنا مع مؤتمر اللاءات الثلاثة والذي لعب فيه الشريف حسين الهندي دورا بارزا من خلال إجراء المصالحة التاريخية وعدم الاعتراف بإسرائيل وتخفيف هزيمة النكسة، وعرف الشريف حسين بمساندة ودعم حركات التحرر فى أفريقيا والعالم العربي في الكنغو والجزائر والثورة الفلسطينة، لكن ما يزال الناس يأملون في دور للأشراف في هذا الزحام عرفوا به قبلا وينتظرونه الآن.