ها هو سرطان الفوضى يتغوّل ويتفشّى ويضع توقيعه على تقرير الحالة الراهنة واليومية في اليمن، وعلى كافة المفاصل والأرجاء، ليفترس الكائنات والأشياء بما في ذلك الذين اعتمدوا الفوضى نظاماً لتأطير وتدبير شؤون البلاد والعباد، ونمطاً سلوكياً وممارسة يومية ميدانية، واعتقدوا أنها -أي الفوضى- أنجع وسيلة لتجديد الطاقة، وتأبيد البقاء في سدة الحكم وإدارته لمجرد أنهم فشلوا في إنجاز نصاب السياسة، وبحكم أنهم غير مؤهلين ذهنياً ونفسياً وثقافياً لاجتراح معجزة بناء دولة القانون أو حتى “بناء أية مؤسسة مركزية للدولة غير مركزية القمع والنهب والفساد” حسب أبو بكر السقاف.
ها هو تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”، ومن معقله الرئيس اليمن، ينفّذ وعيده وتهديده بزلزلة الأرض وإحراقها تحت أقدام عملاء الأمريكان، ويضع الرئيس علي عبدالله صالح ونظامه على رأس أهدافه المستعجلة.
ها هو ينفّذ أخطر عملياته على الإطلاق، وفي مستهل النهار والدوام الرسمي، في الهجوم الذي استهدف مقر جهاز الأمن السياسي في عدن، صباح السبت الماضي، 19 يونيو 2010، وأسفر عن أكثر من 10 ضحايا من أفراد الأمن السياسي، وعشرات الجرحى سقطوا في بوابة المقر وفي أروقة ومكاتب المقر التي زرعت بعبوات ناسفة موقوتة، وأغلقت لتتفجر في ما بعد، وتشيع أجواء الذعر في أرجاء مدينة التواهي وعدن واليمن بعمومها.
واللافت أن هذا الهجوم الصاعق كان يهدف إلى توصيل رسالة مدوية للخارج قبل الداخل، مفادها أن النظام الحاكم في اليمن هو قاعدة “القاعدة”، فهو مخترق ومتداخل ومتقاطع معها، وما هو أكثر من ذلك.
وكان لافتاً أيضاً أن هدف هذا الهجوم الصاعق كان مقر جهاز المخابرات. ولعل قادة تنظيم “القاعدة” الذين خرج معظمهم من معقل جهاز الأمن السياسي بصنعاء في أشهّر عملية فرار مطلع العام 2006.. لعل هذه القيادة تقصدت أيضاً استعراض عضلاتها في هجوم السبت الماضي، على مقر جهاز المخابرات بعدن، وهو عرين حصين ومرهوب الجانب والجدران من عهد الاستعمار البريطاني ومخابراته، وطوال فترة الحكم الاشتراكي الشمولي، حيث كان مقر جهاز المخابرات الذائع: أمن الثورة، ثم أمن الدولة، وما كان يخطر على بال أحد أو بحسبان أي كان، من أصحاب الخبرات والتجارب والمعارف التي اعتجنت ونضجت أرغفة حكمه جمرها ورمادها تحت وهج الحرارة اللافحة لشموس تلكم الأيام، أن يأتي اليوم الذي يستباح فيه ويُنتهك العرين والحصن الحصين المحمَّل بالأسرار الرهيبة والسحرية للثورات والانقلابات الدراماتيكية والاغتيالات والمؤامرات والهواجس والمغامرات الثورية والرومانسية والعجائبية التي تجرأت على تجسيد فكرة الحلم بتغيير العالم عبر إجراءات وقرارات وممارسات وشطحات فورية، صبيانية، دونكيشوتية، لم تلهب الخيال الروائي لأي “سرفانتس” يمني الطبعة، مع الأسف، بقدر ما أضفت المزيد من الغموض والغرابة والمهابة والرهبة على “الجهاز” ومقره، إلى أن جاء صباح “القاعدة”، وانقصم ظهر الأسطورة العجوز التي طالما تكرست لحماية “جمهورية الخوف”. وشاءت الجدلية الضارية للقتل في البلاد أن تطالعنا بصورة الأرانب المذعورة وهي تفر من داخل هذا الجهاز، حين تكشف أن الخوف قد ارتد على صنّاعه ومشيّعيه يوم سقط عشرات الضحايا في جريمة مروعة ما كان لها أن تكون حدثاً فارقاً وصاعقاً إلا بفعل حالة التفلت والإنهيار وانفجارات القوة العارية والعمياء، التي تشهدها الكثير من أرجاء البلاد .
وما كان على “النظام” الحاكم أن يتعجب ويستغرب ويكذب كعادته عند مخاطبة الخارج، لأن ما حدث جاء ليقطع بحقيقة أن الحراب غدت ترتد إلى نحر من أقام سلطانه برؤوسها، وأن حرائق الحروب صارت تطاول من دأب على إشعالها من باب الاعتقاد بأن تفكيك المجتمع إلى جزر متناثرة ومتنافرة هو خير وسيلة لحكمه، وفات عليه أن يدرك أن هذا الطريق سيفضي إلى هلاك عام وانهيار معمم.
وفي ما خص الحرب مع “القاعدة” وعليها، يبدو أن السلطة الحاكمة هي آخر من يحق له الكلام في هذا المقام، بحكم أنها كانت وإلى أجل غير معلوم، متحالفة مع “تنظيم القاعدة”، وقد انحصرت مهمة الحلف غير المقدس هذا في قطع الطريق على كل إمكانية لبناء دولة حديثة في اليمن.
إن هذه السلطة التي ألحقت المسجد بالقصر، وموّلت “جامعة الإيمان”، أكبر معقل للمحتسبين والتكفيريين، ولاذت ولا زالت تلوذ بعتاة المتشددين المتطرفين عند كل منعرج حرج، ووظفت الدين في حروبها، وأعلنت حرب “الردّة” على الجنوب المستباح والمنهوب، وغلّفت حروبها بأردية دينية، وزجّت بالمقدس في معترك إلغاء الخصوم، كانت هي الولاّدة الرئيسة لـ”القاعدة”، كما كانت سبباً رئيساً في تدمير كافة محاولات الاندماج الوطني في البلاد، وفي تفكيك المجتمع، وفي تغذية عوامل التآكل والتناحر والتفسخ والعنف، وفي إشاعة مناخات ازدهار وتعاظم دور جماعات التكفير والتفسيق و”القاعدة”.
إن هذه السلطة تتحمل النصيب الأعظم من المسؤولية إزاء هذه الانفجارات والمذابح، وإزاء تفلت نظام الغرائز البدائية والفوضوية، غرائز النهب والثأر والغنيمة والحروب المعممة التي زجت بالبلاد في فلك الموت، ووضعتها على خط القتل.
إن هذه السلطة قاعدة “القاعدة”، وهي اللامعقول حين يشطح في عبقرية الأفول.
Mansoorhael@yahoo.com
• رئيس تحرير صحيفة “التجمّع”- صنعاء