إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
انطلاقاً مما سبق، يمكن اعتبار القبلة مدخلاً لبلوغ أعماق النفس والجسد ليصبح التواصل أعمق وأشمل. فالقبلة، هي التتويج لهذه المشاعر و الاحاسيس. إنها موضع اكتمالها ومكان ارتكازها؛ فالقبلة تجمع إلى رهافة العاطفة ورقة المشاعر جموح الاحاسيس لأنها تؤجج الرغبة وتشعل وقود الحب لتفتح للعاشقين بوابة الملاذ الجسدية وتثير شهيتهما للمزيد من التقارب والالتحام.
قبلة العاشق فيها رقة وعذوبة وعناية بهشاشة محتملة لكائن يحمل وعوداً يمكنها ان تحقق أحلاماً بدت أقرب الى الاوهام قبل ان يلتقيه.
والقبلة هي امتحان الصورة التي كونها العاشق عن معشوقه بنظرته الحانية الممتلئة حباً وتقبلاً وثقة وللحنان الذي يشع من العينين لينتشر متوزعاً على كافة الملامح فيكسبها رقة ودفئاً مختلطان بليونة فائقة تكسو الوجه كله بملامحه.
وعندما يترك العاشق نفسه للقبلة سيتحقق حينها من شعوره تجاه من يحب، وإذا ما تسرب الأمان الى كيانه كله سيعرف ان مبعث اطمئنانه حمله اليه ملمس الشفتين الحريري ودفء حرارتهما وحلاوة طعمهما المفاجئان. ليتأكد: هذا من أحب.
ربما يرتبك العاشق لأول وهلة عند التماس الأول، لكن في حالات العشق الحقيقي سرعان ما ستتحول الشفتان الرقيقتان الى شفتين حسيّتين تثيران الشهوة، فتتسعان لتغطيا او لتبعثا حرارة ودفئا في انحاء الجسد المنتظر التعرف على اولى احاسيسه مع من أحبّ.. شفتان تحضنان شفتيه بشكل تام ؛ فتحمل طراوتهما ودفأهما وطواعيتهما نكهة وطعماً كفيلان بجلب لذة ناعمة متصاعدة تحمل نفسها على التسرب الى مناطق خفية فتحركها.
من أين يأتي طيب طعم قبلة من نحب؟ ألانه طيب المذاق أم لأن حبنا له يجعل طعمه طيباً؟
ومن أين تنبع تلك المشاعر والأحاسيس التي تتولد من مجرد التقاء ثغرين ولسانين وبضعة اسنان؟ كيف يتحول فمك ولسانك اللذان لا تفكر بهما عادة الا كأدوات للكلام وللطعام، الى أداتين سحريتين تغيران العالم وتجلبان لك دنيا من اللذة الذائبة بعسل الحياة ورحيق الازهار البرية وألوانها .. قبلة وننتقل الى عالم الجنيات السحريات اللواتي يشعلن الرغبات وتحملن اللذة مع المتعة كي يتغير معنى وجودك وتتبادل احاسيسك الجديدة المدهشة مع من تحب؟
أي نعمة انفتاح هذا الوجود الهائل الاتساع؟
ذلك أن القبلة حين يغوص المرء فيها ينقطع عن كل شيء آخر. متعة القبلة وعمقها متعلقان بمدى الانقطاع الحاصل عن العالم المحيط وحتى عن بعض مكونات الجسد كاليدين والرجلين ومكونات الذات كالذكريات أو مخططات المستقبل. هي المدخل للوصول إلى أعماق النفس وأدق خلايا الجسد ليصبح التواصل أعمق وأشمل.
القبلة هي اللحظة التي نكتشف فيها انطلاق طاقة ما كانت حبيسة في مكان مجهول.. الطاقة التي تتجسد فينا عبر جسدنا فتبعث إحساسات تحوّله وتتحول به ولكن هذا الجسد وهاتان الشفتان هي من يسمح بذلك. والجسد إما يقوم بحبس الطاقة وكبتها وتحويلها الى أحاسيس مزعجة وإما يعمل على إطلاقها وتحويل وجودنا عبرها. فكم مرة مررنا بقبلة لم تثر فينا أكثر من مشاعر فتور او قرف؟ ماذا يكون جسدنا قد فعل بهذه القبلة المرفوضة؟ ولماذا لم تتوهّج أحاسيسنا بل كمدت وكأن جسمنا حبس تلك الطاقة وسرّبها شعوراً بالرفض؟
تبادل قبلة مع من نحب تعبر عن نفسها انطلاقة حرّة تطال الآخر فتنقل اليه أحاسيسنا ومشاعرنا وتعود طاقته تشعّ فينا عبر حواسنا المتلاقية في لحظة اندماج كليّ.
القبلة الاولى؟ ربما القبلات اللاحقة ستكون أكثف واعمق وأكثر إمتاعاً، ولكنها هي الباب الذهبي للجنة التي تتكشف خلفه!!
كيف يمكن لعاشق ان يصف قبلته الاولى؟
ربما كانت الكلمات التي خطّها عاشق مجهول أفضل قارئ للقبلة الاولى لمعشوقه
القبلة الأولى
التقيتها بعد انتظار بدا طويلا
يتملكني شوق عارم
اللهفة تعم روحي
وجسدي
ولم أعد أرى سواها
تلوح أمامي
عن بعد
حين دنوت منها
احتارت يداي كيف تلمسانها
وأين؟
على كتفها
على رقبتها
على وجنتيها
وبعد أن اندفعت
وغمرتها بذراعي
أصبحتُ معها زهرة
أغلقت على نفسها عند المغيب
اصطحبتها برفق لتجلس إلى جانبي
نظرت إليها
تحسّستها
قبّلتُ خدها بعد طول نظر
تحسست يداها الصغيرتان
ملّست شعرها بحذر
ثم أحطتها بيدي اليمنى
واتجهنا معا نحو غرفتنا
دخلنا معا عالمنا الخاص
فتحتُ ذراعاي وضممتها إلى صدري
تمنيت أن تخترق ضلوعي
وتصل إلى حجيرات قلبي
أردتها هناك في قلب أسراري
في رئتاي
في كبدي
دونما أدري
دخلتُ دوائرها المغناطيسية
أطرافها تتجاذبني
أنشغل تارة بيديها
بخصرها بصدرها
وتارة أخرى بضم رأسها إليّ
والتحرش بشعرها
وتقبيل جبينها
وخدها
وما أن استقر فمي على فمها
حتى عمّ سكون وانقطاع
وتوقف الزمن هناك
انقطعتُ عن كل شيء
انقطع سمعي وبصري
انقطع إحساسي بأطرافي
أصبحت بدون ماضٍ
ومستقبلِ
كل ما كان هناك
شفتان ملتهبتان
ولسانان جريئان
ورضاب عذب
العالم اختُصر في فمي وفمها
غرقتُ في عزلة ناسك
يغتسل ويتعبد
في بئر من الحميمية
لساني يستكشف شفتاها
ينافس لسانها
يتحسس ويتذوق
ويتنقل بين شفة وشفة
أمام هذا النبض
لم يعد لنبض القلب أي ضرورة
لم يعد للتنفس أي ضرورة
إنها عودة لنقطة البداية
إلى الرضاعة الأولى
بعد الولادة
حيث لا إحساس بالأنا
إلا فيها ومن خلالها
أغلقنا على أنفسنا
باب البئر المسحور
ليس فيه إلا قصص أساطير جميلة
أميرة فاتنة
وأمير على حصان أبيض
حي ابن يقظان
ورحلات سندباد
وسندريلا
ومغارة علي بابا
وليالي شهرزاد
فيها كل شيء مباح
غرقنا معا في ثقب أسود
يبتلع كل شيء
حتى الضوء
الحركة فيه باتجاه واحد
نحو المركز
نحو بداية التكوين
ونهاية التكوين
لأول مرة أفهم معنى
“لسانك حصانك”
فقد كان فعلا لساني حصاني
لسان متوحش
لحصان برّي جامح
ولم أرغب بأن أصونه
بل أن أدفعه أكثر
نحو المغامرة
فما حاجتي إليه
إن لم يصلني بها
إن لم يأخذني إلى أعماق بحارها
إلى محارها
إلى لؤلؤتها
المخبّأة هناك
في تلك اللحظات
وفي ذلك المكان
كل شيء أصبح دائريا
ولا وجود لزوايا حادة
فقط منحنيات ملساء
وتجاويف دافئة
بل ملتهبة
لا تترك لأي عضلة صغيرة
أو خلية هناك، مجالا للتقاعس
أو اتخاذ موقف المتفرج
وفي لحظة أنتبه لوجودٍ آخر بيننا
وجودٌ لا يمكن تجاهله
ناره مشتعلة
كأنه بركان يتململ
يتوهج
ويتأهب للانفجار
كأنه طوفان يداهمنا
وليس بحوزتنا سفينة نوح
وليس معنا أصناف الكائنات الحية
يداهمنا ونحن عراة تماما
وما لنا سوى الاختباء ببعضنا
وهكذا نفعل
ونضيع
إلى أن يرمي بنا البحر
على شاطئ رملي
لجزيرة استوائية
تبدأ فوقها حياة جديدة
*نص من كتاب “فخ الجسد”، طبعة دار النهضة