الشفاف – خاص
ذات يوم من حقبة الوصاية السورية على لبنان، بدا لبعض المراقبين أنه لم يعد في “اقليم الشام” سوى رجلين يمكن ان يشار اليهما بالبنان: حاكم سوريا ولبنان والبطريرك المارني نصرالله بطرس صفير، في موقعين متواجهين، وكل على طريقته وبوسائله المتاحة.
وبالرغم من قلة “وسائل”البطريرك – بحسب سؤال “ستالين”الشهير حول عدد الدبابات التي كان يملكها “بابا” زمانه – إلا أن ثباته المعنوي المدهش، المشتق من صفات شخصية ومن إرث المؤسسة التي ينتمي اليها ويرأسها، جعله يبدو “ندا” لحاكم “اقليم الشام”الذي لا يطيق الأنداد ولا يفارق طبائع الاستبداد.
تلك الندية كانت لتكون “مبلوعة” في نظر الحكام السوري، لو أن البطريرك اكتفى بتسجيل تحفظه عما كان يجري، على طريقة “اللهم اشهد اني بلغت” ثم انسحب الى مربّعه الاكليريكي سائلا الله تعالى ان يرفع هذه الغمة عن هذه الأمة! وكانت لتكون “مبلوعة” ايضا لو انه اكتفى بحراسة الشأن المسيحي الخاص، على قاعدة “انا رب هذه الابل وللبيت رب يربّيه!”. وكانت لتكون “مرغوبة جدا “- في نظر الحاكم السوري بطبيعة الحال- لو أن البطريرك وجّه إعتراضه وغضبه صوب المسلمين اللبنانيين، معتبرا اياهم “غاصبي الإمتياز المسيحي”، مسهّلاَ بذلك على الحاكم الأجنبي سياسة “فرق تسد”.
والحال ان ما فعله السيد البطريرك كان خلاف ذلك تماما:
فبدلا من تسجيل الموقف “المبدئي” ثم الانسحاب، تاركاً السياسة العليا الى حكمة “تجار الشنطة”، نهض بنفسه باعباء الدفاع عن القضايا الجوهرية المتعلقة بمعنى لبنان وكيانه. لقد وضع ثقل كرسيه وحيثيّته الشخصية في هذه الكفّة من الميزان، إيماناً منه بأن لا وزن للكرسي ولا للمجد الذي أُعطيَ له اذا ما انهار هذان، المعنى والكيان، امام عينيه، وكان هو شاهداً على بُهتان تاريخي ما بعده بهتان!
وبدلاً من يقصر همّه على حماية “المنزل” المسيحي في “البيت” اللبناني ذي المنازل الكثيرة – بحسب عبارة المؤرخ كمال الصليبي- فقد انبرى البطريرك لحماية البيت كله، على اساس رؤية ذات بُعدين وجوديين:
– ان تصور الكنيسة لشهادتها ههنا لا ينفك عن مشروع الشراكة الانسانية في مجتمع لبناني واحد وتعددي، وأن أنصار “العودة الى وراء أركيولوجي” او “القفز الى أمام افتراضي” انما يسعون خلف سراب لا يمكنه ان يَعِدَ الجماعة المسيحية بمستقبلٍ كريم في هذه البلاد وفي هذا الزمن بالتحديد. بالتالي، فإن تداعي اركان “البيت اللبناني” لا يُبقي على معنىً لمنزلٍ فيه بمفرده، ولو حفظ ماء وجهه بـ”رشوة” يُعطاها زعيم من هنا او هناك.
– أنه لا حلّ مسيحياً للمشكلة المسيحية في الاطار اللبناني، بل هناك حلّ وطني لمختلف المشكلات الطائفية. بالتالي “فإما ان يكون هناك حل للجميع او لا يكون، وبالجميع او لا يكون”.
تلك الرؤية بيّنتها بوضوح لا يقبل التأويل، وربما للمرة الاولى في أدبيات الكنيسة، نصوصُ المجمع البطريركي الماروني الصادرة عن كرسي بكركي بتوقيع سيّدها في أيار 2006.
وبدلا من ان يجعل أولويته في مواجهة المسلمين – على ما كان يرى ويفعل أنصارُ الوصاية السورية من المسيحيين وفق اطروحة “تحالف الاقليات في اقليم الشام، ما بين علويين ومسيحيين وشيعة ودروز إذا أمكن، في وجه الاكثرية السنية”، وعلى ما سيرى ويفعل الجنرال عون بعد الانسحاب السوري، فقد سعى البطريرك الى نسج تفاهم داخلي/ اسلامي ومسيحي، حول اولوية الاستقلال تحت شعار “من حق اللبنانيين ان يحكموا انفسهم بانفسهم، وهم قادرون على ذلك”. وهكذا كانت مطالبته الصريحة بخروج الجيش السوري من البيت اللبناني بعيد انسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان في ايار 2000.
على أي أساس يحكمُ اللبنانيون أنفسَهم بأنفسهم؟
ثمة جواب وحيد عن مثل هذا السؤال نقرأه في خطاب البطريرك على مدى سنوات: تطبيق اتفاق الطائف تطبيقاً سليماً، خلافاً لما جرى في الحقبة السورية من استنساب وتعسف وتعطيل… حتى اذا ما بانت ثغراته، بعد التطبيق، يصار الى سد تلك الثغرات من خلال المسالك الدستورية المنصوص عليها، ومن دون الإخلال بجوهر الاتفاق التاريخي الذي اعتبر المسيحيين “نصف لبنان” بِصرفِ النظر عن متغيرات الديموغرافيا، وما كان منها طبيعيا او قسريا.
ولا يُخفى أن جواب البطريرك – على نحو ما قرأناه – كان ردّاً على دُعاة “تعديل اتفاق الطائف” من دون انتظار نتائج التطبيق في إطار السيادة.
مما تقدم يمكن الاستنتاج ان رؤية البطريرك لحل مشكلة البينت اللبناني، واستطرادا مشكلة المنزل المسيحي فيه، كانت وفق المعادلة التالية: التفاهم الاسلامي – المسيحي قادر على تحقيق الاستقلال، والاستقلال الفعلي يتيح بدوره للبنانيين القدرة على إدارة شؤون بيتهم بدرجة مقبولة – إن لم تكن عالية- من الفضيلة الوطنية.
تلك الرؤية لم تأتِ من فراغ، بل من تجربة تاريخية لعل اهم خلاصاتها- بصدد موضوعنا – إثنتان:
1 – ان الاستقلال الاول،1943، لم يكن ليتحقق إلا بفعل تفاهم إسلامي مسيحي، ساعدته ظروف إقليمية ودولية مؤاتية في ذلك الوقت، وانه (أي ذلك الاستقلال) كان يتعرض للانكسار، او ينكسر، كلما حدث سوء تفاهم بين الطرفين وتراكَبَ سوءُ التفاهم هذا على تدخل خارجي (لا يعتقد كاتبُ هذه السطور بأن التناقضات اللبنانية كانت وحدها في يوم من الايام كافية لإشعال حرب داخلية كما حدث في سنوات 1860 و1975، من دون تدخل العوامل الخارجية، وهو تاليا يستبعد تلك الاطروحة القائلة بأن “التكوين اللبناني التعددي يحمل في أحشائه أسباب انفجاراته الدورية”).
2 – ان تجربتنا مع الوصاية السورية تفيد بأن سياستها في لبنان إنما قامت على ثلاثة أركان متكاملة:
– تسعير الخلافات بين المسلمين والمسيحيين، بحيث تستمر الحرب الساخنة (1975-1990) بصورة حرب باردة (1990-2005)، الامر الذي كان يتطلب الابقاء على المتاريس السياسية والطائفية والنفسية، كما يتطلب في الوقت نفسه ضرب اية محاولة لاعادة التفاهم بين المسيحيين والمسلمين في مهدها (تعطيل موجبات اتفاق الطائف وإسقاط مفاعيله).
– إقناع المسيحيين بأن سعيهم الى استرداد “حقوقهم السليبة” من “المسلمين” لا يمكن ان ينجح إلا ابالتعاون مع سلطة الوصاية السورية. في المقابل، وفي الوقت ذاته، إقناع المسلمين بأن الحؤول دون عودة “الهيمنة المسيحية” لا يتم ان ينجح إلا بالتعاون مع الوصاية ذاتها (الخوف المتبادل هو سيد الموقف). وهكذا يضع الجميع “بيضتهم” تحت “الدجاجة” السورية التي تفقّس لهم ما تشاء وحين تشاء.
– ولكي يؤدي الركنان السابقان وظيفتهما الوصائية على خير ما يرام، كان لا بد من إسنادهما بركن ثالث مفاده، ان اللبنانيين، بطبيعتهم، غير مؤهلين لإدارة خلافاتهم بأنفسهم، وأنهم في حاجة دائمة الى مرجعة خارجية من دونها لا يُؤتمنون على أحوالهم، وقد يسيئون الى الجوار. وقد جرى تسويق هذه الفرضية الظالمة “والبضاعة المغشوشة” على نطاقٍ واسع، في الداخل والخارج، تحت عنوان: “الوصاية السورية تشكل عامل استقرار للبنان والمنطقة”.
لقد شكلت رؤية البطريرك ومواقفه، وطنيا ومسيحيا، الرد اللبناني على اطروحة الوصاية بفذلكاتها وألاعيبها، وبكل الدعم الاقليمي والدولي الذي حُظيت به تلك الوصاية على مدى سنوات طوال. وأي مؤرخ منصف لا يسعه إلا أن يؤمّن على نص المجمع البطريركي الماروني حين قال “لقد مرت سنوات من الجهاد، بالكلمة والموقف والحق والايمان لعبت فيها الكنيسة الماروني دوراً رئيسياً على مستوى الوطن كان من أبرز محطاته النداءُ الشهير في 20 ايلول 2000 الذي جاء بعد تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي. لقد وضع هذا النداء الأسسَ لإنهاء سلطة الوصاية السورية واستعادة السيادة والاستقلال والقرار الحر. (…) وشكلت انتفاضة الاستقلال، إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، لحظة تاريخية فتحت الباب للخلاص الوطني بتوحد الشعب اللبناني على نحو غير مسبوق. وان خروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، بعد ثلاثين عاما من سلطة الوصاية، كان تتويجاً لنضال الشعب اللبناني المقيم والمنتشر، وتوحّده، وبمثابة الحلم الذي تحول الى حقيقة”. (النص 19، الفقرتان 32 و 33).
هنا قد يقول قائل: إذا كان الاستقلال يتيح للبنانيين القدرة على إدارة شؤونهم بأنفسهم – كما تزعمون – فلماذا لم ينجحوا في ذلك بعد نيسان 2005، ولماذا هذا التخبط العجيب على مدى خمس سنوات تنقص شهورا اربعة؟
هذا تساؤل وجيه ومشروع، استنادا الى وصف حالتنا الراهنة، وهو غير دقيق إذا افترض ان استقلال 2005 كان فعليا. ويغدو التساؤل “خبيثا” إذا أريد من ورائه توكيد نظرية الوصاية القائلة بأن اللبنانيين غير مؤهلين بطبعهم وطبيعتهم، لحكم انفسهم بأنفسهم. فالحال ان استقلال 2005 لم يكن “ناجزا”، وما زال كذلك حتى اللحظة. يمكنُ القول، بعبارة اخرى، ان معركة الاستقلال ما زالت مستمرة وبتعقيدات اكثر من السابق ربما، وهي مستمرة تحت عناوين “السيادة الفعلية” بما يتجاوز “الاستقلال الشكلي”.
غير أن هذه المسألة تحتاج الى مزيد من التأمل والتدقيق، من خلال الإجابة عن سؤال آخر =: لماذا لم يصبح الاستقلال ناجزا وفعليا حتى الآن =، بالرغم من انسحاب الجيش السوري، وبالرغم من تلك الانتفاضة الشعبية الفريدة في تاريخ لبنان والمنطقة؟
الإجابة عن هذا السؤال الأخير تستدعي النظر في ثلاث مسؤوليات:
مسؤولية الحركة الاستقلالية نفسها، مسؤولية الحركة المضادة، ومسؤولية التعقيدات الاقليمية والدولية المستجدة بعد الانسحاب السوري، على ان يكون النظر في تلك المسؤوليات الثلا موضوعيا ونقديا لا تبريرياً. ولما كان هذا المقال بحسب تصميمه وعنوانه لا يتّسع للنظر المطلوب من جوانبه الثلاثة، لأنه – أي المقال – مخصص للمقارنة بين خيارين مختلفين للبنان والمسيحيين من خلال البطريرك صفير والجنرال عون تحديداً، فإني سوف اتابع في سياق الموضوع الاصلي على ان الزم نفسي بالكتابة عن الموضوع الآخر لاحقا – علما ان الجنرال عون يدخل في سياق “الحركة المضادة” كما سنرى، مثلما يدخل البطريرك صفير في سياق “الحركة الاستقلالية” كما رأينا وسنرى.
إذاً، فقد رأت الكنيسة المارونية في انتفاضة الاستقلال “خلاصا وطنيا” و”حلما تحوّل الى حقيقة”. وهو ما مهدت له خيارات البطريرك صفير ومواقفه ومبادراته على مدى 15 سنة في سبيل تضامن وطني يحقق الاستقلال: من تقديمه الدعم الضروري والكافي لاتفاق الطائف – 1989 – 1990 (باعتباره اتفاقا لسلام لبنان وعودة الدولة وخطوة إصلاحية كبرى “تأخرت خمس عشرة سنة” – (نصوص المجمع ص 712 – 714) ، الى موقفه الحازم في وجه الاعتداءات الاسرائيلية (تموز 1993 ونيسان 1996… ) الى رعايته مع المرجعيات الروحية الاخرى “اللجنة الوطينة الاسلامية – المسيحية للحوار اللبناني” التي انطلقت من قمة بكركي الروحية صيف 1993، الى رعايته الاعمال التحضيرية لـ”السينودوس من اجل لبنان” منذ 1993 ، الى تسلمه “راية الارشاد الرسولي” 1997، الى إطلاقه ” نداء الاستقلال” في ايلول 2000 ، الى رعايته مصالحة الجبل التاريخية 2001، الى إحتضانه “لقاء قرنة شهوان” 20001 (بوصفه مبادرةُ وصلٍ وتفاهم في اتجاه المسلمين على قاعدة “نداء الاستقلال”)، الى مباركته ودعمه جميع المبادرات التواصلية، منذ 2001 حتى أواخر 2004، التي أفضت الى تكوين أوسع تضامن وطني واستقلالي عشية الانتفاضة خلال “لقاء البريستول”.
*
إذا كانت سيرة البطريرك ما بين 1990 و2005 تخّوله ان يحمل بجدارة عالية لقب “الحائك” الاول لشبكة التضامن اللبناني الذي استولد الاستقلال الثاني، فإن سيرته بعد العام 2005 تشهد انه ما زال “ضمير الحركة الاستقلالية اليقظ والمؤتمن على مبادئها التي بيّتاها سابقا في الحديث عن رؤيته” . كذلك قام البطريرك، قبيل الانتخابات النيابية الاخيرة وبعدها، بلعب دور استنهاضي وتوجيهي عزّ نظيره حين كانت الحركة الاستقلالية تعاني من وهن وارباك فادحين.
أين كان الجنرال من كل ذلك؟
بداية وقف الجنرال ، من موقعه على رأس الحكومة والجيش، ضد اتفاق الطائف. ويا لها من وقفة مفجعة. فقد أدت، مقترنة بنشوة السلطة وبإدارة للصراع السياسي ضيقة الافق شديدة النزق.. أدت الى “حرب الالغاء”، إلغاء الأخوة، التي جرّدت الجماعة المسيحية مما كان يؤهلها لدخول مرحلة اتفاق الطائف بندّيّة مع المسلمين ولمواجهة مشروع الوصاية بفعالية. لذا كَتَب الذين اعدوا الخطوط العريضة لسينودوس الاساقفة من اجل لبنان سنة 1993: “إن كنيسة لبنان جُرحت في صميم جسدها، ولكنها امتّحنت بنوع خاص امتحانا ذريعا في ضميرها. فقد شاهدت ابناءَها يُقتلون ويَقتلون ويتقاتلون…” (الارشاد الرسولي ، عدد 10). هذا، ولم يغادر الجنرال البلاد الى منفاه الباريسي الوثير، إلا بعد ان شاهد الغوغاء، غوغاؤه، تهتك حرمة بكركي وسيدها شخصيا.
بعد ذلك لم يكن للجنرال اي مساهمة تذكر في نسج التضامن اللبناني الذي استولد الاستقلال الثاني عام 2005. نقول هذا من دون ان ننكر على “أبناء التيار الوطني الحر” تضحياتهم، وما تعرضوا له من اضطهاد مع اللبنانيين الآخرين تحت حكم “النظام الامني” السوري – اللبناني”. ولكننا نشدد على معيارية “نسج التضامن الداخلي” لاننا نرى فيه الوسيلة الأنجع والأسلم لممارسة “المقاومة” في التكوين اللبناني الخاص، من دون ان نستثني اية “مقاومة” مارسها اللبنانيون على اختلاف تشكيلاتهم وانحيازاتهم منذ 1996 حتى الآن.
ربما ينبغي مناقشة الجنرال عون في سيرته بعد العام 2005 بنوع خاص. ذلك ان مشكلته مع نفسه، او مشكلتنا معه، لم تعد تكمن في خطأ الأداء – إذا أحسنّا الظن – بل في خطأ الإختيارات.
بعد عودته الى لبنان ، بفضل انتفاضة الاستقلال اياها، والتي كان قد نأى بنفسه عن مسيرة تضامنها، انحاز سريعا الى فريق “الانتفاضة المضادة” تحت مقولات غرائبية عبّر عنها بصورة واضحة او مواربة. من بينها:
“أنا صاحب الفضل الاول في استعادة الاستقلال… وما استشهاد رفيق الحريري إلا حادثة عابرة”! وعليه، فقد ارتكبت “الحركة الاستقلالية ” من وجهة نظره خيانة عظمى لانها لم تستقبله استقبال الفاتحين لدى عودته ولم تسلّمه مفاتيح المدينة! ولسوف يكون لهذا “اللاإستقبال” أثره العميق في نفس الجنرال الذي سيبني على الشيء مقتضاه، والذي لن يرى في المرآة حين يقف امامها، بعد ذلك إلا صورة نبي أنكره أهله قبل صياح الديك! علما ان العارفين بوقائع الامور يؤكدون ان حاشية الجنرال حرصت على عدم مشاركة “جماعة الاستقلاليين” في استقباله إلا افي أضيق حدود، وأن الجنرال نفسه كان قد حزم امره وحقائبه في الإتجاه الآخر قبل مغادرته باريس المحروسة!
“لقد خرجت سلطة الوصاية السورية من لبنان، ولم تعد تشكل اي تحدٍّ للمسيحيين. التحدي الجديد بات يتمثل في الوصاية الاميركية التي سلمت السلطة الى السُنّة”! وعليه فإن معاركه المقبلة ستكون بمثابة “حروب إسترداد” ( reconquista) ضد المسلمين لفظيا وضد “السُنّة” تحديدا وحصريا بالمعنى السياسي. ولسوف يترتب على هذا “الخيار الكيدي” تحالفات تبدأ من هنا الى دمشق فطهران، وتعرّج على الدوحة ذات القلب الكبير الذي يتّسع لحب اميركا واسرائيل ومقاومة “حزب الله” وجهاد الشيخ ابن لادن ، جميعا وفي آن واحد … فتأمل!
“ينبغي تعديل اتفاق الطائف والدستور بما يتيح لرئاسة الجمهورية استعادة صلاحياتها السابقة”. ولما كانت هذه الرئاسة لا تليق إلا به شخصيا وحصريا، فقد كان شعارُهُ، أثناء أزمة الرئاسة ما بين 2005 واتفاق الدوحة، مستلهماً من عنوان المسلسل المكسيكس “انت او لا أحد”.
ولما كان شعار “إستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني” لا يناسب حليفه “حزب الله”، الذي يسعى الى مثالثة سنية – شيعية – مسيحية على انقاض المناصفة المسيحية الاسلامية، فقد رأينا الجنرال عون – مع ثباته على مطلب “إستعادة الصلاحيات”- يروج لفكرة “المثالثة” بدعوى ان “صيغة الطائف لم تعد صالحة للعمل في موازين القوى الجديدة”. كيف يمكن، والحالة هذه، التوفيق بين شعارين متعارضين لدى الشخص ذاته؟ المسألة بسيطة: لا يهم الجنرال من “المثالثة” سوى انها تتيح له – بدعم من “حزب الله” ومن سوريا إذا أمكن – أن ينفرد بزعامة الثلث المسيحي، فيعقد ثنائية مع الثلث الشيعي، ليهزم “بيت القصيد” أي الثلث السني! أم أن تنزل حصة المسيحيين بذلك من النصف الى الثلث فهذا، على ما يبدو، “آخر همه”! وربما تزيّن له نفسه، أو بعض العباقرة المحيطين به، أن الثلث المسيحي بزعامته – وقد أصبح التناقض بين السنة والشيعة تناحرياً لا شفاء منه – يستطيع ان يهزم الثلثين الآخرين ، بعد ان يتكفل كل منهما بإنهاك صاحبه!
تحت هذه المطالعة ذهب الجنرال عون الى توقيع “وثيقة التفاهم” مع حزب الله قبيل حرب تموز 2006. وقد جاء “النصر الإلهي” ليشير الى “بركات” ذلك التفاهم. فما إن وضعت الحرب اوزارها، بفضل القرار الدولي 1701، المؤسَّس على همة الحكمة اللبنانية “المقاوِمة” بحسب رئيس مجلس النواب، حتى اندفع “الجنرالان” عون ونصرالله الى ترجمة “النصر الالهي” في الداخل اللبناني او بالاحرى “على” الداخل اللبناني، رافعين شعار “إسقاط الحكومة العميلة”، ودافعين بجمهورهما الى احتلال وسط المدينة ومحاصرة السراي الحكومي! ولما لم يفلح الحصار، على مدى سنة ونصف السنة، في تحقيق غايته، جاء دور 7 أيار 2008. أعجبُ ما في ذلك اليوم ليس انتهاكُ حرمةِ عاصمة العيش المشترك بالسلاح المليشياوي بل إطلالة الجنرال عون على اللبنانيين مبشرا اياهم بأن “الأمور قد حُسِمَت… وسترون العجائب!”.
والحال أن اجتماع الدوحة قد أَفهمَ الجنرال بالعربية الفصحى، وأحيانا بالفارسية الفصحى، أن 7 أيار لم يستطع إسقاط الحكومة اللبنانية الشرعية بالقوة، ولن يستطيع رفعه الى سدة الرئاسة بالقوة! لقد أُسقط في يد الجنرال ولكنه، بدلا من ان “يستنتج” و”يستدرك”، أوغل في الرهان على سلاح “حزب الله”، الامر الذي يشير الى مدى ارتهانه لهذا السلاح. من هنا رأيناه على “طاولة الحوار” يقترح استراتيجية دفاعية تقوم على “تعويم” سلاح حزب الله ، من خلال تعميم السلاح في جميع المناطق اللبنانية. ولما قال البطريرك صفير إن الديمقراطية والسلاح لا يجتمعان، رد عليه الجنرال: “فليقل لي البطريرك أين أذاه هذا السلاح لأقف بجانبه”.
ردُّ الجنرال عون في المشهد الطائفي الحالي، يُقرأ على المعنى التالي: إذا كان سلاح حزب الله موجها في الداخل نحو جماعة السُنّة، فاي مصلحة للمسيحيين في التصدي لهذا السلاح؟! وحين يقول الجنرال، في معرض رده على البطريرك، “لو كنت املك الاموال الكافية لكنت جلبت السلاح من اجل تحرير فلسطين”، فإنه يوحي للكثيرين برغبته في التسلح من ترسانة “حزب الله”. وعلى اي حال، فإن إخلاص الجنرال لحزب الله دفعه مؤخرا الى التبرع بشهادة ما انزل الله بها من سلطان ولا يطيقها حزب الله نفسه، وذلك حين صرح لصحيفة الشرق الاوسط بأن الشيعة في لبنان – بمن فيهم جماعة حزب الله – لا يؤيدون ولاية الفقيه!…. فتأمّل.
*
لقد بدأ هذا المقال بالحديث عن ربيع البطريرك، ونختمه بـ”خريف الجنرال”… فسبحان الذي بيده كل الفصول.
ربيع البطريرك خريف الجنرال
اللي استحوا ماتوا
ربيع البطريرك خريف الجنرال
شكرا على هذا المقال الرائع. كل ما ذكرته صحيح مائة في المائة.
ربيع البطريرك خريف الجنرال
(ربيع البطريرك خريف الجنرال)
بل (ربيع البطريرك .. خَرَف الجنرال) !!بل ان ما حصل من جنرال الرابية ضد جنرال باريس لا يحصل من قبل مخبول مخرف ضد غيره لا ضد نفسه !!