كيف نفكّر في الحدث التونسي؟
أولا، ما وقع في تونس ثورة شعبية حقيقية، هي الأولى من نوعها في العالم العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأت بأعمال احتجاج فردية وانتهت بانخراط النقابات والأحزاب المعارضة والشخصيات العامة، إلى جانب الكتلة الرئيسة التي تتكوّن من مواطنين لا ينتمون إلى أحزاب. وفي وقت قصير تحوّلت إلى موجة فيضانية أطاحت برأس بالنظام.
ثانيا، السمة الثانية للثورة الشعبية في تونس تتمثل في لغتها. فقد بدأت بشعارات بسيطة تدعو إلى توفير فرص العمل، وانتهت بالمطالبة برحيل رأس النظام. وفي الحالتين استخدم المتظاهرون لغة تتسم بالمنطق. لم يرفعوا شعارات التخوين، ولا طالبوا بالقتل، ولا تغنوا بالدم والثأر، بل رفعوا شعارات عفوية وحضارية من نوع المطالبة بالحرية والخبز، وفي وقت لاحق أصبحت الحرية أهم من الخبز.
كانت ثورة للنساء والرجال، وكل الذين تكلموا من تونس يومي الخميس والجمعة عبر الفضائيات (شاهدتُ فضائيات كثيرة لم تكن الجزيرة القطرية من بينها بطبيعة الحال) تكلموا دائما عن التونسيين والتونسيات. بمعنى آخر كانت قضية النوع الإنساني والمساواة في صميم ما يشكل في النهاية خطاباً في السياسة وعنها.
ثالثا، في الثورة التونسية كان الواقع أهم من التلفزيون. لم يذهب المتظاهرون إلى الساحات العامة وقد رفعوا أعلام الأحزاب والفصائل وكل الكلام الفارغ، والمسرحيات، التي أصبحت مشهدا مألوفا في مناطق أخرى من العالم العربي، حيث يخرج محترفو المظاهرات والاحتجاج تحت أعلامهم المرفوعة أمام كاميرات التلفزيون.
خرج المتظاهرون في تونس إلى الشوارع بيافطات صغيرة كتبوا أغلبها باليد، أو طبعوها في بيوتهم، ولم يرفعوا سوى العلم التونسي، وبأحجام صغيرة، وبحرص أصغر على الاستعراض أمام التلفزيون. بمعنى آخر انتصرت الثورة في تونس قبل أن يسرقها التلفزيون، ومحترفو النضال المتلفز، وأصحاب التصريحات، والتحليلات، والبيانات. انتصرت قبل أن تتحوّل إلى بزنس ومؤسسة.
رابعا، لم تكن الثورة التونسية عنيفة، فالعنف جاء من جانب أجهزة النظام. وأعمال التخريب التي تحدث في سياق تحوّلات فيضانية كهذه كانت على نطاق ضيّق. وقد اتضح أن الجانب الأعظم من أعمال التخريب نجم عن عمليات قامت بها أجهزة وميليشيات تدين بالولاء للنظام.
خامسا، ثمة ما يمكن تسميته بالضمير المدني. وهذا الضمير هو الذي انتصر في تونس. ولعل حاثة الطيار المدني التونسي الذي رفض يوم الجمعة الماضي، وقبل الإعلان عن فرار الرئيس بن علي، انتظار مجموعة من أقاربه لنقلهم بالطائرة إلى فرنسا، تلّخص المقصود بالضمير المدني. قال الرجل: لم أحتمل أمام مشهد الدم المسفوك، والضائقة التي يعاني منها الشعب التونسي، أن أحمل على متن طائرتي أشخاصا كهؤلاء. ولا شك أن أعدادا لا تحصى من التونسيين قد انخرطت في المظاهرات بدافع ضمير كهذا.
سادسا، لم تهيمن على حركة الاحتجاج التي تحوّلت إلى ثورة أيديولوجيا بعينها، بل كانت عفوية إلى حد كبير، أو كما عبّرت معلّقة تونسية على الأحداث صباح يوم الجمعة: الشعب سبق النخبة. وهذا صحيح إلى حد بعيد.
سابعا، لم يظهر الإسلاميون، الذين يُقال بأنهم الأكثر حضورا في الشارع العربي. وإذا كان من الممكن تفسير غيابهم بأعمال القمع التي طالتهم على يد النظام، إلا أن هذا التفسير يظل جزئيا إلى حد بعيد. فهوية الثورة الشعبية في تونس مستمدة من خصوصية المجتمع التونسي نفسه، وهو مجتمع متفتح ومتعلّم ومعتدل، ومن الحجم الواسع للطبقة الوسطى، ومن التعددية اللغوية والثقافية، وانفتاح وعلمانية النخب التونسية نفسها. بمعنى آخر الشعوب تصنع ثورات على صورتها.
ثامنا، أصيب حاكم ليبيا بالذعر، فوبّخ الشعب التونسي، وشتمه، لأن الأخير تمرّد على بن علي. مصدر هذا الذعر أن كل الثورات التي عرفها العرب، بما فيها ثورة الفاتح الليبية، والثورات الناصرية في مصر، والبعثية في سوريا والعراق، والسودانية واليمنية وغيرها، كانت انقلابات عسكرية أنشأ أصحابها دكتاتوريات عسكرية، وحكموا كملوك غير متوجين، ونجح بعضهم في إنشاء سلالات حاكمة وجمهوريات وراثية. بهذا المعنى لم يكن حاكم ليبيا صوتا صارخا في البرية، بل نطق في حقيقة الأمر بلسان بقية الحكّام العرب، الذين أحرجتهم الثورة التونسية، فأصبحوا خائفين من العدوى.
تاسعا، شخص آخر حاول التعليق على ما حدث هو الشيخ المصري ـ القطري القرضاوي، الذي دعا التونسيين إلى عدم الثقة برجالات العهد السابق، وقدم لهم من النصائح ما يشبه لائحة التعليمات: كيف تشكّل حكومة بعد ثورة ناجحة. وقد نطق في الواقع بلسان دعوة أيديولوجية تريد للداعية ـ الفقيه أن يكون مرجعية سياسية، إلى جانب وظيفته الروحية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنموذج التونسي فإن حظوظ الداعية ـ الفقيه باعتباره مرجعية سياسية كانت قليلة وأصبحت بعد الثورة أقل.
عاشرا، من هنا إلى أين؟ ما الذي سيحدث بعد الثورة؟ هل ننتظر تجربة جديدة أم أن التاريخ سيعيد نفسه؟ هذه أسئلة مفتوحة. المهم أن يبقى الجيش على الحياد، وألا يسرق، مَنْ لم يكونوا في المعارضة ولم ينزلوا إلى الشارع، الثورة الظافرة، وألا تنخرط الثورة في حملة لصيد الساحرات، أي رجالات العهد السابق.
المهم عدم إراقة الدماء، وتمكين القضاء من الفصل في كل ما يتعلّق بالنظام السابق بطريقة حضارية، فالعدالة شيء والثأر شيء آخر، والمهم الفصل بين السلطات بطريقة تضع القاضي فوق رئيس الدولة، وتضع المحكمة فوق النظام، والمواطن فوق الحزب. والمهم أن لحقوق الإنسان والمواطنة والمساواة بين النساء والرجال، وقوانين الأحوال الشخصية، مواثيق ومرجعيات دولية ومعاهدات لا تحتاج إلى شطارة في التأويل، ولا إلى خصوصيات محلية تبرر اختزالها والانقضاض عليها.
ومع هذا كله، وقبله، وبعده، أمد يدي مصافحاً، وفي الذهن الاتحاد العام التونسي للشغل، و”حمة الهمامي” المجنون الذي اتضح بأنه كان العاقل بيننا، أمد يدي مصافحا، وليتني أصافح الآلاف من النساء والرجال الذين نـزلوا إلى الشارع. وفي يناير النور هذا، أهتف معهم، باللسان، والحبر، ونبضة القلب، وقبضة اليد: تحيا تونس.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
الأيام