إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
*
لَستُ محمد علي كلاي الذي رفض الذهاب إلى “فيتنام” ليقتل ويدمِّر، وإنما “مواطن” سوري مَنتوف جئتُ إلى هذه الدنيا لأجد نفسي محكوما مع بقية أقراني بنظامٍ لم أختر بإرادتي تنصيبَهُ حاكما عليّ. ميلاد نظام البعث 8 آذار / 1963 أما أنا العبدُ الفقير فلقد “نَصَلتني” أمي في يوم 15 شباط / 1963 في يوم بَردُهُ ” يَشَلِّع البسمار ” وناشف كما قالت لي أمي بعدما كبرت . أذكر أنني أجيب من يسألني كم هو عمرك؟: أكبر من الثورة بواحد وعشرين يوما.
لا أذكر من الرؤساء الذين مرّوا على سورية إلا الراحل حافظ الأسد. تختزنُ ذاكرتي وأنا ابن سبع سنين منظرَ والدي وهو يلطم كالنساء لدى سماعه بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
مثلما لم نختر أسماءنا ولا قصرنا أو طولنا ولا لون عيوننا ولا لون جلودنا، كذلك جئنا إلى هذه الدنيا فسمعنا أن هناك حزبا حاكما اسمه حزب البعث وهناك قيادة قومية وأخرى قطرية ومجلس للشعب ومنظمات شعبية، كذلك عبد الحليم خدام وعبد الله الأحمر ومصطفى طلاس ومشارقة والشهابي ورفعت الأسد.. في ذلك الجو ترعرعت، ومن تلك المدرسة تخرجت .
علمونا أن نحب وطننا وأن إسرائيل هي عدونا، لقنونا شعارات كبيرة لم أفهمها إلا بعدما كبرت من مثل، أن سوريا هي رمز الثورة العربية وأن حب القائد هو من حب الوطن وأن الإخوان المسلمين هم عصابة عميلة لأمريكا وإسرائيل ومفاهيم ومصطلحات كثيرة عن التقدمية والرجعية. كنت أطبّق تلك المعادلات فأخلصُ من جرائها إلى أن “معمر القذافي” تقدمي والملك “حسين” رجعي وأن “الاتحاد السوفيتي” “صديق” وأمريكا “عدو” وهكذا .
كنت أخجل من أبي عندما أعود بخفي حنين من الفرن الذي بجوارنا، اذ لم أستطع تأمين الخبز بسبب الازدحام الشديد، وأذكر أنه ضربني ووبخني مرات كثيرة كلما عدّت خائبا من الفرن: متى تصبح رجلا ؟ متى يمكنني الاعتماد عليك؟
أنا ابن السنوات الثمان أو التسع.
لا أحد يستطيع تقدير مدى فرحتي في يوم اعتبرته تاريخيا (بالإذن من الإعلام السوري لاستخدامي تلك المفردة) حققت فيه انتصارا لا يضاهيه في حجمه إلا فتحُ اسبانيا، يوم عدت إلى البيت مزهوا فخورا وأنا أحمل في يميني علبة “سمنة النواعير”. سألني والدي وعلامات الرضا والإعجاب باديات على وجه كيف حصلت عليها؟ وأخذت أشرح له كيف اقتحمت الصفوف المتراصة من بين سيقان الرجال حتى وصلت إلى “كوة البيع” وبين توسلاتي وشفقة البائع تناول مني النقود وأعطاني العلبة.
كلما يزداد عمري سنة فوق أختها تكبر معاناتي وتتناهبني أفكارٌ لا حظّ لها من الانسجام و الاتساق. شعارات كبيرة، والأحلام تتكسر في كل يوم، سنة بعد أختها، أُحس بالخيبة ترتسم على وجوه الرجال، بالتعب، بالعيون الزائغة، بالأحلام الكسيحة. سنةً بعد أخرى، والخديعة تتكشف. يؤرقني وعيي الذي يكبر و”ثورة” تهزل وتهرم وتصغر..
يوم الدخول إلى لبنان، أعلن جُبني وخوفي وهزيمتي ومن كل اللبنانيين أعتذر. لم أجرؤ حتى بالتفكير أن أعلن رفضي الذهاب إلى ذلك البلد الذي لَوَّثَهُ “بوطي” العسكري. كنت أعرف عاقبة ذلك التمرد، فكنت أجبَن من إعلان واتخاذ ذلك القرار.
في يوم نيساني جميل من عام 1988، دنّسَ حذائي العسكري “سويسرا الشرق”.
ابتدأت خدمتي الالزامية. بعد ذلك التاريخ، توالت التواريخ المخجلة. شاركت وسمعت وشاهدت، وكنت شاهد الزور، في “وقائع” شتى، من مقتل الرئيس الشهيد رينيه معوض حتى “دَحرِ” العماد ميشيل عون واختبائه في السفارة الفرنسية، وما بين هذين التاريخين،
تواريخ مخزية لا يقبل بها أي سوري شريف.
شاهدت وسمعت بأذني وعيني اللذين سيأكلهما الدود “ضَبّاطنا” في الدروس الصباحية يحاضرون فينا عن الوطنية والقومية، وعند الانصراف تكتظ بهم باصات المبيت العائدة إلى دمشق وحمص وقد تحولت إلى سوقٍ تجاري تحمل كل ما تحتاجه أسواقُ تلك المدينتين.
شاهدت كيف كانت سيارة ” الزيل” العسكرية تحمَّل حتى”بالبانيوهات” والأبواب والشبابيك ذات الخشب الفاخر التي تمّ اقتلاعها من البيوت التي سافر أهلها وهجروها.
شاهدت بأم عينيّ توسلات اللبنانيين في مناطق “المتن الشمالي” أن يسمح لهم بفرط “أشجار الصنوبر” لكي يعتاشوا منها، فهي مصدر رزقهم، ولم تجدِ توسلاتهم .
لقد تَنَطَّحَ لهذه المهمة جنودُنا البواسل الذين شمّروا عن سواعدهم –ولا حول لهم ولا قوة في هذا – وشووا وكسروا رأس كل صنوبرة، وبِيعَ الصنوبر اللذيذ في أسواق دمشق لحساب …؟
شاهدت كيف يَتبهدل اللبناني عند الحواجز العسكرية السورية و”المحاضرات” التي كان يلقيها عليهم جنودٌ أُميّون في كل صغيرة وكبيرة. شاهدت الكثير، وخجلي يمنعني من سرده عليكم .
من دبابتي، شاركتُ في القصف التمهيدي على مواقع العماد عون والذي استمر لمدة الشهرين بشكل متقطع حيناً ومُنتظم في أحايين كثيرة أخرى، وكان سبَقَنا إلى ذلك بنحو الشهرين أيضا قصفٌ متقطع بسلاح المدفعية على المواقع المذكورة .
اجتاح صدام حسين الكويت، وبعد شهور قليلة كوفئَ النظامُ السوري لمشاركته في حرب “تحرير الكويت” باجتياح كافة المناطق اللبنانية الخارجة عن سيطرته.
يروي لي ضابط صف سوري شارك في اقتحام القصر الرئاسي للعماد عون: أن نفسه العزيزة أبت عليه أن يستولي على أي غنيمة من القصر المذكور سوى شئ واحد فقط:
طائر جميل مع قفصه جلبهما معه إلى سوريا.
خمس عشرة سنة انقضت مذ غادرت لبنان ،وان عدت إليه فيما بعد بلباسٍ مدني. في البال لا زالت “ضهور الشوير”، و”تنورين” و”بولونيا” و”بتغرين” و”تلة البنات” و”تلة الصوان” و:الزرعون”، أماكن أحببتها وأحببت أهلها. لهم جميعا، ولكل اللبنانيين، أقدم اعتذاري. ثقتي كبيرة أن شعبا حضاريا كالشعب اللبناني سيسامح ويصفح.
سوريا – الرقة
نُشرت هذه المادة في “الشفاف”، لأول مرة، في
أقرأ أيضاً:
السوريون ”هكذا باطلاق” !!