الشفاف- بيروت
على أبواب المتغيرات على الساحتين الاقليمية واللبنانية، ومع اعادة خلط الاوراق والتموضعات والتحالفات السياسية، ومع التحولات الدراماتيكية في العلاقات العربية- العربية واللبنانية- اللبنانية يتساءل البعض عن ماهيّة الدور المسيحي في المرحلة المقبلة.
بالتزامن مع هذا التساؤل برز حدثان يُعنى بهما اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً. الاول تمثل في طرح موضوع “وثيقة المبادرة المسيحية” على بساط البحث وذلك قبل ان يتم الاعلان عن مضمونها أو تحديد موعد لإطلاقها. أما الحدث الثاني فقد تمثل في ما ورد على لسان أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من تحذير لمسيحيي لبنان تحت عنوان “النصح”.
فهل في ذلك ربط بين المبادرة المسيحية المزمع اطلاقها في موعد لاحق وبين خطاب نصرالله الاخير؟ وهل كلام نصرالله هو ضربة إستباقية لتحذير المسيحيين من مغبّة ما سيقدمون عليه من خطوات اعتراضية على سلوك حلف دمشق- طهران في بيروت؟
قد يكون كلام نصرالله متوقعاً في كل زمان ومكان فلا ينتظر وثيقة يطلقها المسيحيون اللبنانيون الذين لا يشاطرونه نظرته العقائدية والايديولوجية والسياسية. ولكنه يخشى طبعاً من مبادرة جديدة تنعش ما عمل جاهداً هو وحلفاءه وأتباعه على اطفائه خلال السنوات الخمس المنصرمة. فمع اعادة رسم المشهد السياسي الجديد في لبنان يبدو جلياً أن السوريين استفادوا من الخلل الواقع في النظام اللبناني (وهم أصحاب الفضل الكبير في ذلك) ليعودوا ويكتسبوا بعضاً من مواقعهم التي خسروها منذ انطلاقة “ثورة الارز”. هذا الدور السوري القديم- الجديد المنوي احياؤه مجدداً سيكون محور الصراع السياسي مجدداً في لبنان. ومواجهته لن تقتصر على مسيحيي لبنان فحسب كما كانت الحال منذ نشوء هذا الصراع. فالوحدة المسيحية- الاسلامية التي نشأت وترسخت غداة استشهاد رفيق الحريري كانت الاساس في ما أدى الى رفع اليد السورية عن المؤسسات اللبنانية. وقد ادت نتائجها الى جلاء الجيش العربي السوري عن لبنان بالاضافة الى كل المكتسبات التي نتجت عن انتفاضة الاستقلال وأبرزها انتزاع اعتراف سوري علني بسيادة لبنان عبر تحقيق التبادل الديبلوماسي ولو أنه يبدو فولكلورياً وباهتاً في بعض المحطات. وبات يعرف القاصي والداني أن هذه الصلة المسيحية- الاسلامية هي الضمانة لمواجهة مشاريع التوسع السوري واعادة الورقة اللبنانية الى “قصر المهاجرين”. الا أن التسوية العربية التي تجسدت في الانفتاح السعودي على النظام السوري قد فرضت على رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري نوعاً جديداً من التعاطي مع دمشق.
فالحريري لم يذهب بعيدأ في علاقته المستجدة مع سوريا. اذ يحافظ على خطاب سياسي كان له الدور الاكبر في اطلاقه، ولكنه يعرف تمام المعرفة أن العلاقة المتوترة مع دمشق ستمنعه حتماً من اطلاق مسيرته في الحكم. فهو محاصر في مجلس وزراء تمكن نظام الشام من السيطرة على الكثير من مفاصله، كما ان ظروف الحريري الذاتية والموضوعية لا تسمح له بأن يُتَّهم بأنه حجر عثرة في تحقيق الرهان الذي يبدو مستحيلاً حتى الساعة في تحقيق فك ارتباط سوريا بالجمهورية الاسلامية الايرانية. وبالرغم من أن الهدنة المفروضة لم تمنع فريق 14 آذار من الالتزام بالسقف السياسي مع مواقف لافتة لبعض نواب وشخصيات تيار المستقبل، الامر البارز جلياً في مواقفهم وتصريحاتهم، الا ان الهواجس المسيحية في منع محاولات اعادة عقارب الساعة الى الوراء تبدو جائزةً ومشروعةً. وربما قد يكون البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير هو أول من أطلق الشرارة الاولى خلال تشكيل الحكومة وبعده. فانطلق مسيحيو الرابع عشر من آذار في ورشة تحضير وثيقة تطرح جملة من النقاط والثوابت لمواجهة المرحلة المقبلة. أما اطار تحركهم فيبدو انه لن يتعدى او يتخطى حركة الرابع عشر من آذار. وهم ينفون احتمالات انشاء أي تجمع مسيحي على غرار “قرنة شهوان” سابقاً خارج اطار قوى 14 آذار. فالسقف السياسي لهؤلاء سيبقى ضمن اطار الحركة الاستقلالية التي يتمسكون بها على اساس الشراكة المسيحية- الاسلامية. ويؤكد معظمهم أن هذه الوثيقة تستلهم الارشاد الرسولي ومقررات المجمع الماروني واتفاق الطائف في مسعى الى اخراج المسيحيين من السياسات والاهتمامات الصغيرة الى دورهم في لبنان والمنطقة. فمسيحيو الرابع عشر من آذار يؤكدون على جملة ثوابت ابرزها الخيار اللبناني للمسيحيين المرتكز على الشراكة المسيحية- الاسلامية التي تتمثل في التحالف العريض الذي تمثله الامانة العامة لقوى 14 آذار. كما تشدد هذه الوثيقة على خيارات المسيحيين العربية وتحدد موقفاً واضحاً من الصراع العربي- الاسرائيلي ومن القضايا العربية وتؤكد على الدور المسيحي اللبناني والمشرقي في مواجهة بروز قوى اقليمية اسلامية غير عربية.
ويقول احد اركان هذه القوى المسيحية أن على مسيحيي لبنان ان يشكلوا الرافعة للمسيحيين المشرقيين بعد ضمور دورهم في سياق اعادة رسم سياسات المنطقة من جديد.
هذه الوثيقة ستكون خارطة الطريق التي ستحدد سقف شريحة كبيرة من اللبنانيين من الذين يرفضون التعايش مع سلاح “حزب الله” أو أي سلاح آخر خارج الشرعية اللبنانية. فالاساس الذي ينطلق منه مسيحيو ثورة الارز هو بناء دولة مستقلة وسيدة على كامل أراضيها والتي تشكل الضمانة لوجودهم الحرّ.
الا ان هذه المبادرة، والى جانب ما تحمله من ثوابت هي من صلب التوجه التاريخي لمسيحيي لبنان، يمكن اعتبارها احتياطاً لمواجهة الايحاءات السورية التي ترغب بعزل المعارضين لسوريا ولأخذ الاحتياطات بعد أن تصاعد الكلام عن تحويل البطريرك الماروني ومسيحيي الرابع عشر من آذار وعلى رأسهم القوات اللبنانية الى كبش محرقة المرحلة المقبلة. هذه الخطوة الاحتياطية التي تبلورت غداة تشكيل الحكومة اللبنانية شكلت ردة فعل عند بعض المسلمين السياديين الذي رأى بعضهم أن هذه الخطوة قد تساعد سوريا على استفراد القوى الاستقلالية ومفاوضة كل منها على حدة. الا ان اوساط معدّي الوثيقة تؤكد ان هذه المبادرة هي موقف مسيحي تاريخي يذهب باتجاه اعلان التضامن مع المسلمين السياديين مع التشديد على عروبة مسيحيي لبنان الذين يفترض أن يشكلوا الرافعة الاساسية لمسيحيي الشرق.
وتعتبر هذه الاوساط أن هذه المبادرة يجب الا تكون محطّ شكوك أو خوف عند مسلمي الرابع عشر من آذار حتى ولو نتج عن هذه المبادرة اي تجمع أو لقاء مسيحي. وتضيف الاوساط أن “هذا التجمع لن يغرّد خارج سرب تجمّع الرابع من آذار وسيكون له كل الحرية في قول ما قد يُمنع حلفاؤنا من قوله نظراً للاعتبارات الداخلية والاقليمية”.
لذلك لم يعد من مبرر لتأخير أو لمنع اطلاق “المبادرة المسيحية” بعد خطاب امين عام حزب الله الاخير الذي سيكون عاملاً اساسياً في تفريع النقاشات لاطلاق الوثيقة. فالتهديد الذي لبس ثوب “النصيحة” كان له وقع سيّء على مختلف شرائح المسيحييين لا سيما عندما استحضر واقع مسيحيي العراق لا في سياق الادانة والاستنكار انما في سياق التحذير. فمنهم من عبّر عن استيائه ومنهم لم يعبّر. فالسيد نصرالله الذي حذر المسيحيين من أن يصبح مصيرهم مشابهاً لمسيحيي العراق قد حرك مخاوف دفينة عند المسيحيين اللبنانيين. وسواء كان كلام نصرالله يتعلق باستراتيجية تهدف الى اخضاع المسيحيين ليبقى خيارهم الوحيد الالتحاق بمشروع الحزب الالهي من اجل حفظ رؤوسهم أم يتعلق بتكتيك آني يذهب باتجاه الضغط على المسيحيين من أجل خفض سقفهم السياسي وعدم الذهاب في خطوات تصعيدية في معارضة سلاح حزب الله ومواجهة السياسة السورية الجديدة في لبنان. لذلك فهو سيواجه بتحرك مسيحي وطني يرتكز الى المبادىء والثوابت والنضالات المسيحية التاريخية التي توجهتها ورسّختها ثورة الارز.
riadtawk@hotmail.com