الله، ومعمّر، وليبيا وبس. هكذا هتف المؤيدون للعقيد القذافي قبل يومين في العاصمة طرابلس. ومعنى هذا الكلام أن حاكم ليبيا يأتي بعد الله وقبل ليبيا نفسها. يا للتواضع.
ومع ذلك، فإن هذه المقالة ليست عن القذافي، الذي أصبح سقوطه مسألة وقت، بل عمّا يمكن وصفه بالنموذج التحليلي لطراز من الحكّام وأنظمة الحكم في العالم العربي، ومناطق أخرى من العالم.
بدايةً، إذا تكررت ظاهرة في أكثر من مكان وزمان فمن الممكن استنباط قانون عام يحكمها، والتعامل معها في إطار ما ندعوه بالنموذج التحليلي، ووضع النموذج التحليلي نفسه في سياقات تاريخية وسياسية وثقافية أسع.
والظاهرة المقصودة، هنا، هي الجمهورية الوراثية، وإنشاء سلالات حاكمة جديدة. عرفنا هذه الظاهرة في العراق. فصدام حسين كان من الممكن أن يبقى حاكما للعراق مدى الحياة، وكان أولاده مرشحين طبيعيين لوراثة الحكم. وعرفناها في سوريا، حيث حكم الرئيس حافظ الأسد حتى وفاته، وكان مصرا على مبدأ التوريث، إلى حد أن وفاة ابنه الأكبر لم تمنعه من ضمان تنصيب الثاني، الذي أصبح بالفعل رئيسا للجمهورية بعد تعديل الدستور.
وعرفنا الظاهرة نفسها في مصر، حيث حكم الرئيس حسني مبارك ثلاثة عقود، وكان من الممكن أن يبقى حاكما لمصر حتى وفاته، وكان ابنه جمال مرشحا طبيعيا في نظر كثيرين، في النظام وخارجه، لوراثة الحكم. وعرفنا الظاهرة، أيضا، في ليبيا، حيث حكم القذافي منذ أربعة عقود، وأصبح أولاده مرشحين طبيعيين للوراثة. كما وتكررت التجربة في اليمن، التي يحكمها العقيد على عبد الله صالح منذ ثلاثة وثلاثين عاما، والذي أصبح أولاده وأقاربه مرشحين طبيعيين للوراثة. وفي تونس رغم أن بن علي لم ينجب وليا للعهد، إلا أن أقاربه وأقارب زوجته كانوا قادرين على إيصال واحد منهم إلى سدة الحكم، لو سارت الرياح كما تشتهي السفن.
السمة المشتركة بين الحكّام المذكورين أنهم نصّبوا أنفسهم حكاما إلى الأبد، في أنظمة تطلق على نفسها تسمية “الجمهورية”، وأنهم جاءوا إلى السلطة إما من الجيش وأجهزة الأمن، فكانوا استمرارا لأنظمة قائمة، كما في حالة مبارك وبن علي، أو في انقلابات عسكرية على ظهور الدبابات. والمشترك بين هؤلاء أنهم وضعوا الأسس الموضوعية لإنشاء سلالات حاكمة، فكانوا في الواقع ملوكا غير متوّجين، وكانت لأولادهم وأقاربهم كل مواصفات أولياء العهد في الأنظمة الملكية، ما عدا اللقب الرسمي.
بيد أن ظاهرة الحكم إلى الأبد، وإنشاء سلالات حاكمة، وجمهوريات وراثية ليست حكراً على العرب. فقد تكررت في كوريا الشمالية، حيث حكم كيم إيل سونغ مدى الحياة، وأصبح ابنه رئيسا للدولة بعد وفاته. ماوتسي تونغ حكم الصين مدى الحياة، أيضا، ولم يكن له وريث، فقد قُتل ابنه في الحرب الكورية، لكن زوجته كانت مرشحة للخلافة لو جاءت الرياح كما تشتهي السفن. فيدل كاسترو حكم حتى أصبح عاجزا عن الحكم لأسباب طبية، وجاء أخوه من بعده رئيسا لكوبا.
بين كل ما تقدّم من ظواهر سمات إضافية مشتركة. فالمسألة لا تقتصر على الحكم إلى الأبد، وإنشاء سلالات حاكمة، بل تمسّ طبيعة النظام نفسه، حيث يصعب الحكم إلى الأبد، وإنشاء سلالة حاكمة في ظل أنظمة غير شمولية. وكل الأنظمة المذكورة العربية منها وغير العربية أنظمة شمولية.
بيد أن الشمولية ليست الصفة الأهم. فكل الأنظمة المذكورة نشأت باعتبارها أنظمة راديكالية، وفي سياق الحروب ضد الكولونيالية، ونـزع الاستعمار، وتحقيق الاستقلال، وكلها رفعت شعارات العدالة الاجتماعية والحرية والتقدّم. مبارك كان امتداداً لنظام الضباط الأحرار، وبن علي كان امتدادا لنظام بورقيبه زعيم الاستقلال، وصالح والأسد وصدّام والقذافي جاءوا إلى الحكم في انقلابات عسكرية باسم شعارات اشتراكية وقومية، وكيم إيل سونغ، وماوتسي تونغ وكاسترو، كلهم قادوا حركات تحررية استقلالية وتقدمية.
وهنا نسأل: كيف أصبح أشخاص، تبنوا شعارات تدعو إلى الحرية والعدالة والتقدّم، ملوكا غير متوّجين، فأنشأوا سلالات حاكمة، وأنظمة شمولية تفتقر إلى الحرية والعدالة، وفي حالات كثيرة إلى التقدّم؟
ثمة إجابة مريحة تفسّر الأمر بالجوع إلى السلطة، وما في الطبيعة البشرية من احتمالات الشر. وهذه إجابة غير مقنعة. فلا يمكن فهم هذا النموذج خارج التاريخ السياسي والثقافي للقرن العشرين. وقد كان هذا قرن الأيديولوجيات الكبرى، التي زاوجت ما بين العنف والخلاص، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون الأكثر دموية في التاريخ.
في النصف الأوّل من القرن العشرين وُلدت ظاهرة “الزعيم ـ المخلّص”، لا باعتباره سليلاً لعائلة حاكمة، أو مبشراً بدين جديد، بل باعتباره تجسيدا لإرادة شعب، وتحقيقا لوعد من وعود التاريخ. تعود ظاهرة “المخلّص” إلى عصور مغرقة في القدم، لكن إرادة الشعوب في الأزمنة الحديثة، وفي القرن العشرين على نحو خاص، كانت مرفوعة على سواعد جماهير حقيقية وجديدة، تكفلت أيديولوجيات شمولية بتمكينها من ترجمة وعود التاريخ بمفردات سياسية، وشعارات قابلة للتحقيق.
في هذه الدفيئة بالمعنى التاريخي والسياسي والثقافي وُلد النظام الشمولي باعتباره حارسا لأيديولوجيات خلاصية، اشتراكية كانت أم قومية، ووُلد زعماء مثل ستالين وهتلر وموسوليني، رأوا في أنفسهم، ورأى فيهم أنصارهم، تجسيدا لفكرة المخلّص القديم بعد علمنة مكوّناتها الدينية.
وقد انتهى هؤلاء بطريقة مأساوية تماما. بيد أنهم تركوا بصمة نهائية على جبهة القرن العشرين. وبالقدر نفسه تركوا ميراثا قابلا للاستنساخ. فالمكوّنات الدينية للمخلّص، وقد تعلمنت وصيغت بمفردات سياسية جديدة، أصبحت على قدر هائل من الغواية، خاصة في مناطق من العالم، ما يزال “الخلاص” فيها، لأسباب سياسية واجتماعية معقّدة، شأنا يوميا من شؤون البشر.
ولا ينبغي أن تغيب عن الذهن حقيقة أن الأنظمة “الاشتراكية” في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية التي عاشت حتى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، لم تكن جمهوريات وراثية، لكنها كانت أنظمة شمولية يحكمها الأمين العام للحزب إلى الأبد، ما عدا استثناءات قليلة وإشكالية، وكانت نموذجا يحتذى في نظر الانقلابيين العرب، الذين استمدوا منها الإلهام، وأعادوا استنساخ الكثير من سماتها الأمنية والإدارية، بما فيها بيروقراطية الدولة، وفكرة الحزب القائد، والأمين العام للحزب ورئيس الدولة.
لا نعرف مَنْ مِن الحكّام العرب، الذين أنشأوا سلالات حاكمة جديدة، أخذ نفسه ودوره في التاريخ على محمل الجد. لكن واحدا منهم على الأقل، اسمه معمر القذافي، لم يأخذ حتى التاريخ نفسه على محمل الجد، فانخرط في مشروع للهندسة الاجتماعية لا لتغيير ليبيا وحدها، بل لتغيير البشرية برمتها:
ألغى الدولة والشعب، كتب قصصاً وروايات وكتاباً أخضر اللون، حكم أربعين عاما، تصرّف كنبي، وكان كريما مع النفس إلى حد البذخ، فأطلق على نفسه تسمية “أمين القومية العربية”، و”ملك ملوك أفريقيا”، و”عميد الزعماء العرب”، و”قائد الثورة”، و”المبشّر بعصر الجماهير”، وأطلق على نظامه اسما يتكوّن من ست كلمات، كما ابتكر لنفسه ما لا يحصى من الثياب والأوسمة.
اكتملت في ظاهرة إنشاء سلالات حاكمة جديدة، وأنظمة شمولية في العالم العربي، كل عناصر المأساة. لكن “العقيد”، وفي المشهد الأخير، أي قبل إنزال الستارة بخمس دقائق، يرغمنا على إعادة التفكير بحقيقة مفادها أن في كل تراجيديا صافية ما يحيل إلى كوميديا سوداء.
ما أطاح ويطيح بكل ممثلي النموذج التحليلي الذي ذكرناه يتمثل في فكرة ذات غواية مدهشة: فقدت فكرة الزعيم ـ المخلّص، والحاكم إلى الأبد، جدواها ومرجعيتها الأخلاقية والسياسية في مناطق مختلفة من العالم، بما فيها إيران حيث يتظاهر الناس لإسقاط نظام الولي الفقيه، نائب المخلّص وظله على الأرض.
في عالم كهذا، وقبل إنزال الستارة بخمس دقائق، يعيد “العقيد” ترتيب الأولويات، والثوابت، والخطوط الحمر، فيضع نفسه بعد الله، وقبل ليبيا التي يقصفها اليوم بالطائرات، ويفصد دمها “الفاسد” بحراب المرتزقة. يا للمهارة والشطارة والتواضع، ويا لمكر التاريخ..!!
Khaderhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني