إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
يترقب اللبنانيون موعد الانتخابات النيابية المقبلة، المقررة في 25 أيار (مايو) من العام المقبل. تأتي هذه الانتخابات وسط متغيرات جذرية مرت بها البلاد خصوصاً، والإقليم عموماً، وهي متغيرات ستُلقي بظلالها حتماً على مسار العملية الانتخابية. فلبنان لم يكن يوماً جزيرة معزولة عن محيطه، بل يتأثر به ويتفاعل معه عبر تاريخه القريب والبعيد.
تراجع النفوذ الإيراني وصعود النفوذ السني في دمشق
من أبرز هذه المتغيرات تراجع الدور الإيراني، ومن خلفه النفوذ والهيمنة الإيرانية على أربع عواصم عربية، من ضمنها بيروت، وخصوصاً دمشق. فقد قطعت سوريا مع النفوذ الإيراني، وتحولت من ممر للنفوذ الإيراني الممتد من طهران إلى بيروت سياسياً وأمنياً، وجنوب لبنان عسكرياً، عبر بغداد، إلى مناصبة العداء للإمامية الشيعية ونظام الملالي. ويعمد الحكم السوري الجديد إلى اجتثاث كل مفاعيل الهيمنة الإيرانية على سوريا، ثقافياً ودينياً واجتماعياً، وبالطبع أمنياً وسياسياً.
تزامناً مع تراجع النفوذ الإيراني-الشيعي، يبرز صعود نجم زعامة سنية في دمشق. فقد استطاع الرئيس السوري أحمد الشرع، وخلال فترة وجيزة، اكتساب ثقة مشروطة من المجتمعين الإقليمي والدولي. ويعمل الشرع على تعزيز هذه الثقة يومياً بجلب الاستثمارات والانفتاح الذي لم تعرف سوريا مثيلاً له منذ أكثر من خمسة عقود. فأصبحت دمشق نقطة جذب للاستثمارات على الصعد كافة. وإذا كانت وجهة الاستثمار اقتصادية، فإن الاستثمار السياسي في زعامة سنية ناشئة سيشكل قبلة أنظار الجمهور السني ليس في سوريا وحسب، بل على صعيد العالم العربي المحيط.
فبعد طول تغييب وتهميش، تبرز زعامة سنية قيد التشكل، مع تلمس اعتراف دولي وعربي بهذه الزعامة. فبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، آخر زعيم سني تجاوز حضوره وحجمه السياسي لبنان، وقبل المجازر التي ارتكبها نظام الأسد في حق سُنّة سوريا، خصوصاً في مدينة حماه، والتي أسفرت عن استتباع سنة لبنان وسوريا معاً لمنطق حكم الأقليات والتخويف والترهيب من الأغلبية السنية، يأتي بروز أحمد الشرع، رئيس سوريا الحالي، ليشكل قطب الجذب السني على أنقاض انهيار منظومة حكم الأقليات ومن خلفها تحالف الأقليات.
ستكون زعامة أحمد الشرع السنية حاضرة في الانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة، ليس من باب ضم مدينة طرابلس شمال لبنان إلى سوريا طبعاً، ولا البقاع ولا مدينة صيدا، فهذه تٌٌُرهات وأضغاث أحلام، لا الشرع في واردها ولا أي لبناني آخر، ولكن ستشكل الحواضر السنية مجالاً حيوياً للنفوذ المرتقب للزعامة السنية في دمشق.
التخبط الشيعي وحيوية جديدة
على المستوى الشيعي، يسود حال من التخبط، نتيجة عدم بلوغ تداعيات انهيار النفوذ الإيراني نهاياتها. فالشيعة اللبنانيون اليوم يعيشون تجاذباً قاتلاً بين استمرار الارتباط بطهران، التي لم تعد قادرة على إمدادهم بكل وسائل الدعم المعنوي والمادي والعسكري كما كانت تفعل قبل المواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبين اتخاذ القرار الجريء بالانضواء تحت مشروع الدولة بشروطها. ومع ما سيمثل ذلك من تخلٍّ عن منطق الغلبة والهيمنة الذي استخدمه حزب الله طوال فترة هيمنته على السياسة اللبنانية بالترهيب والترغيب، فإن هذه أثمان سيدفعها الحزب من رصيده الشعبي والسياسي انتخابياً.
في المقابل، تسجل محاولة لحركة “أمل” ورئيسها الرئيس نبيه بري للنأي بنفسه وبحركة المحرومين عن تداعيات انهيار المشروع الإيراني، ليكون صمام أمان لمشاركة الشيعة في السلطة، وعدم إغراق الطائفة في إحباط غرقت فيه الطوائف الأخرى بعد انهيار رعاتها الإقليميين.
أيضاً، تسجل في الوسط الشيعي حيوية جديدة، أتاحها انهيار المشروع الإيراني، وهي بروز تجمعات وشخصيات شيعية لطالما عبرت عن اعتراضها على مصادرة قرار المواطنين اللبنانيين الشيعة وإيداعه في رصيد نظام الملالي. بات صوت هؤلاء اليوم مسموعاً، وهم ينشطون على أكثر من جبهة لتعزيز وجودهم وحضورهم السياسي.
المشهد المسيحي: تراجع التيار العوني وصعود القوات اللبنانية
على المستوى المسيحي، تبدو الأمور في اتجاه آخر، حيث يتراجع حضور التيار العوني، وهي نتيجة طبيعية لتراجع نفوذ حليفه حزب الله منذ العام 2006 (اتفاق مار مخايل)، ونتيجة ممارسة السلطة بالمباشر لعهد رئاسي امتد لست سنوات، وشهد أسوأ انهيارات مالية واقتصادية واجتماعية عرفها لبنان منذ حرب التجويع التي شنها جمال باشا السفاح على جبل لبنان.
ومع تراجع الدور العوني، يبرز صعود ملحوظ لمنافسه التقليدي حزب القوات اللبنانية، أقله حتى الآن، بمراقبة نتيجة الانتخابات البلدية والاختيارية التي جرت قبل أسابيع.
ضرورة البحث عن معنى ودور جديد للبنان
ولكن ما هي تداعيات وأهمية أرجحية هذا الفريق المسيحي على ذاك؟ ما لم تكن هذه الأرجحية مستندة إلى مشروع وطني يبحث عن تعزيز مساحة المشتركات الوطنية، ليس لتعزيز الوحدة الوطنية وحسب، بل لتجديد معنى لبنان ودوره وسط المتغيرات الهائلة التي عصفت بالمحيط. وهو الدور الذي نجح المسيحيون في تظهيره تزامناً مع نشوء لبنان الكبير، فكان المرفأ والمطار والمدرسة والجامعة والمشفى والمقصد السياحي وواحة الحرية ونظام المصارف المتقدم والصحيفة الحرة وصلة الوصل بين الشرق والغرب. ألم يكن رجل الأعمال إميل البستاني صلة الوصل بين الزعيم جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن؟ ألم يكن الرئيس الشهيد رفيق الحريري وزير خارجية العالم العربي لدى الغرب؟
هذه نماذج قريبة عن معنى لبنان ودوره، قضت عليها العولمة والانفتاح، وليس عليها وحدها بل انتشرت الجامعات والمشافي وحرية المصارف وكل ما كان يميز لبنان في سائر أقطار العالم العربي. ومن هنا ضرورة تكثيف البحث عن معنى جديد ودور جديد للبنان، وهي مهمة لطالما اضطلع بها المسيحيون بالشراكة مع مواطنيهم من كل الطوائف.
ويصبح البحث عن معنى لبنان ودوره مفصلياً، اليوم قبل الغد، في ضوء ما يتردد عن اتصالات مباشرة سورية-إسرائيلية ستفضي حتماً إلى انضمام الرئيس السوري أحمد الشرع إلى التفاهمات الإبراهيمية. ومع ما تعنيه هذه المفاوضات من التقاء مشروعين: سني ناشئ في سوريا، وإسرائيلي منتشٍ بتطوره التقني وتفوقه العسكري، واعتزازه بقدراته التي أنهت النفوذ الإيراني في المنطقة.
وإذا كانت الانتصارات الإسرائيلية لا تجد لها حاضنة شعبية في لبنان، فبدون شك، ستجد التفاهمات الإسرائيلية-السورية طريقها إلى الساحة السياسية اللبنانية بطريقة أو بأخرى، ما لم يتم تحصين الداخل اللبناني بكل مقومات المناعة الداخلية لدرء الأخطار المرتقبة.
الموقف الدرزي ومحنة وليد جنبلاط
في الشأن الدرزي، قد يكون الزعيم وليد جنبلاط أول من قرأ التحولات بعد الحرب الإيرانية-الإسرائيلية-الأميركية، فجدد تأكيده لسورية مزارع شبعا، ودعا إلى تسليم السلاح والدخول في العصر الجديد بإرادة لبنانية، وليس مستتبعين لهذا المحور أو ذاك!
معضلة جنبلاط المزمنة أنه يبحث عن شركاء انتخابيين ولا يريد أن يكون ملحقاً بأغلبية مسيحية أو سنية تتقاطع معهما الدوائر الانتخابية الدرزية، وهو يتعاطى انتخابياً مع كل فريق على حدة، وخلال موسم الانتخابات ليعود إلى التغريد منفرداً بعد صدور النتائج.
في الانتخابات المقبلة، سيجد جنبلاط نفسه محاصراً بين صعود القوات اللبنانية على المستوى المسيحي من جهة، وسطوع زعامة الشرع سنياً من جهة أخرى. فكيف سيدير معاركه الانتخابية ليحافظ على الدور الذي اضطلع به منذ اغتيال والده، بعد أن تراجع دور الحزب التقدمي الاشتراكي من لبنان إلى حدود الطائفة الدرزية؟
دعوة إلى مشروع الدولة وتحريرها من هيمنة الطوائف
لم يكن تمثال السيدة في “حريصا” ليستدير ويخوض معركة الحلف الثلاثي في انتخابات 1968 في وجه الرئيس فؤاد شهاب، لو لم يُهزم مشروع جمال عبد الناصر في حرب 1967. واليوم لن يكون لتمثال “سيدة حريصا” أي دور في الانتخابات المقبلة، ما لم يبادر الرئيس جوزف عون إلى الاضطلاع بدوره مع فريق الحكم، والجلوس على كرسي الرئيس فؤاد شهاب، والعمل على إطلاق مشروع الدولة المتحررة من هيمنة الطوائف وزعمائها.
العهد مدعو إلى ترجمة كل الدعم الذي رافق صعوده للنهوض بمشروع الدولة، فتشكل الملاذ الآمن للمواطنين. وحدها الدولة تعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة، وحدها الشرعية تقيم العدل بين المواطنين.
فهل يستفيق قبل أن يفوتنا القطار ونجد البلد على قارعة الطريق يتسول الإعمار ودرء الحروب؟