لكل نظام استبدادي شمولي طريقته في الموت، سواء في صراعه مع شعبه أو القوى الخارجية. ومنذ أن نشأت الأيديولوجيات الشمولية في النصف الأول من القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر فقد تتابعت الكوارث التي أحدثتها، بسبب طموحات قادتها، وربما جنون عظمتهم وأوهامهم.
حشدت النازية والفاشية الجماهير في ألمانيا وإيطاليا، وحققت تطورات اقتصادية سريعة، لتريقها في اندفاع مجنون للسيطرة على العالم في الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بهزيمتها الساحقة، بعد أن خسرت أوروبا أكثر من 50 مليون قتيل، في أفدح الكوارث الحربية عبر التاريخ.
وأقامت الأنظمة الشمولية الثورية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي السابق، أنظمة بوليسية محكمة أساسها الحزب القائد وعلى رأسها الرفيق القائد. وتحققت في هذه البلدان تطورات اقتصادية مهمة في المراحل الأولى، ولكن بثمن باهظ دفعته الملايين تنكيلا وقتلاً ومعتقلات سرية وعلنية.
وتحولت بنية الاتحاد السوفيتتي في العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى مجرد هيكل بلا مضمون، وتطورت فيه بعض نواحي الاقتصاد على حساب أخرى. وجاء غورباتشوف ليحاول إصلاحه، ولفوات الأوان، فقد تكفَّل إيلتسين من بعده بإطلاق رصاصة الرحمة على هذا النظام المتداعي، بعد أن تكشَّفت تلك المفارقة الكبيرة بين الدعاية والنفاق السياسي والحزبي من جهة، والواقع المعاش من جهة ثانية.
وانهارت أنظمة الاستبداد الملحقة بالاتحاد السوفييتي واحدة بعد أخرى كهزات ارتدادية للزلزال السوفييتي. وسقط تشاوشيسكو بثورة عارمة ومفاجئة، بصورة دراماتيكية.
وفي السبعينات انهار نظام فرانكو في إسبانيا بعد موته، وربما كانت تلك حالة استثنائية، وتم التحول التدريجي نحو الديمقراطية. كما سقط نظام بينوشيت في تشيلي تحت وطأة المظاهرات الشعبية، مثله مثل معظم دكتاتوريات أمريكا اللاتينية.
وسقط نظام صدام حسين بالضربة القاضية من الخارج بعد أُنهك مجتمعه بالقمع والعقوبات الدولية. ولاقى نظام طالبان القروسطي المصير نفسه.
وهبت الموجة الديمقراطية الجديدة في منطقتنا، بدءاً من تونس ومصر، والآن ليبيا التي يلفظ نظامها الاستبدادي الفريد أنفاسه الأخيرة. وبدأت الثورات تدق أبواب الأنظمة الأخرى بقوة، أو أنها أضحت شبحاً يحوم في سمائها، ويقض مضاجع مستبديها.
إن أهم ما تتميز به الثورات العربية هذه هو التخطيط المسبق لها على شبكة الإنترنت وإنشاء نموذجها وشعاراتها، ومن ثم الانتقال لتطبيقها على أرض الواقع، ما يقلل من الوقت والكلفة بالنسبة لتحول اجتماعي كبير. وتخطى إلهام هذه الثورات الشرق الأوسط ليبلغ الصين، فهل سيقول الصينيون: “تعلموا الثورات… ولو في بلاد العرب.”! ثمة إذن مهنة جديدة هي هندسة الثورات، والتي يمكن أن تتحول إلى فرع يُدرَّس في نطاق هندسة الحاسوب.
عرَّت الثورات كل الأنظمة في منطقتنا كسلطات مستبدة وسارقة لخيرات شعوبها، وأنها تحتمي بالخارج وتستجديه وتفاوضه، ولكنها تواجه شعوبها بالقمع والرصاص. وتستخدم العداء مع الخارج كسياسة متفق عليها، كشكل من أشكال التزييف. فالأنظمة الشمولية الاستبدادية في منطقتنا بشكل خاص، لا يمكن أن تكون وطنيةً، طالما أنها تعادي شعوبها وتسخر خيرات البلدان لحاشية الحكام وأعوانهم، أيا كانت شعاراتها ومبرراتها.
الثورات الجديدة لا ينفع معها جمع المعلومات وتسطير الملفات الأمنية للأفراد أو المجموعات الحزبية أو حقوق الإنسان أو المجتمع المدني، تمهيداً للبطش بها. ولأن التحرك الحالي شعبي، ولكنه واعٍ لأهدافه وليس عفوياً، فلا يمكن الوقوف في وجهه مدة طويلة، وسيشق طريقه كالسيل. وسيبدأ العد العكسي لانهيار أي نظام من اللحظة التي يبدأ فيها هذا التحرك.
وبينما يحاول النظام الليبي الآن فعل المستحيل للبقاء، فإن نهايته تقترب بخطىً متسارعة. وتشعر الأنظمة الأخرى، جميعها، باقتراب هذه النهاية، وبسبب من قصر نظرها وفسادها، لم تجد مخرجاً سوى تقديم أصناف الرشاوى، كشكل آخر من إذلال الناس وإفسادهم.
ومهما تكن التناقضات كبيرة في المجتمع، من دينية وعشائرية وقومية وغيرها، فهي صنيعة الاستبداد؛ فمعه تبدو لعنة، وبدونه غنىً وتنوعاً وحياة، وباستغلاله لها، قد يخيف الاستبداد بعض المكونات ويزيد من تكلفة التغيير، ولكنه لا يستطيع منع ما ليس منه بد. وعندما يقرر الناس تجاوز مخاوفهم، وأخذ مصيرهم بأيديهم، سيكتشفون منبع الخوف الذي كان يقلقهم ويكبلهم ويحرمهم من إقامة علاقات سوية فيما بينهم… إنه نير الاستبداد.
الحقيقة الأكيدة هي موت النظام الشمولي، هذا قدره، ولكن السؤال هو كيف؟ وعلى يد من؟
mshahhoud@yahoo.com
د. منير شحود، كاتب وأستاذ جامعي سوري
* دمشق