قرر شخص ما إضافة اسمي إلى قائمة الموقعين على بيان باللغة الإنكليزية ينتقد موقف السلطة من تقرير غولدستون. لا أعرفُ ذلك الشخص. لم اطلع على البيان. ولم أوافق على التوقيع عليه. ولم أعط تفويضا لأحد بالتوقيع نيابة عني.
بهذا المعنى يكون فعل الاستباحة كاملا. هذا على الصعيد الشخصي. أما على الصعيد العام فثمة ما يبرر القول إن عددا من الموقعين على البيان ربما تعرضوا للقدر نفسه من الاستغلال، أي لم يطلعوا على البيان، ولم يوافقوا عليه. بين الأسماء الواردة في ذيل البيان عدد من الأشخاص الذين أعرفهم جيداً، وأكاد أجزم بأن ما أصابني أصابهم، أي أن الشخص المجهول أضاف أسماءهم دون الحصول على موافقة مسبقة.
وحتى إذا تجاوزنا هذا الأمر، ثمة ما يبرر الارتياب في النوايا الحقيقية لشخص لم يتوّرع عن استغلال واستباحة أسماء الآخرين. الارتياب، هنا، لا يطال الشخص نفسه بل وينسحب، أيضا، على فحوى البيان. وهنا بيت القصيد. فالبيان عبارة عن رسالة مفتوحة إلى الرئيس محمود عبّاس، وردت فيها انتقادات حادة على ضوء موقف السلطة الفلسطينية من تقرير غولدستون.
وعلى الرغم من اعتراضي على عبارات بعينها وردت في الرسالة/البيان، إلا أنني لا أجادل في حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم، وفي تبني سياسات معارضة، وفي الدعوة إلى إصلاحات جذرية في بنية وسياسة السلطة الفلسطينية. فالمشكلة ليست هنا بل في مكان آخر.
وأعني بذلك أن وظيفة العاملين في الحقل الثقافي العام تتمثل في الدفاع عن الذاكرة والقيم، وفي ممارسة دور الرقيب الأخلاقي، ومحاولة النظر إلى الغابة بدلا من التحديق في كل شجرة على حده، أي الابتعاد عن النسبية والانتقائية. وهذا ما غاب، للأسف، عن الرسالة/البيان. والأهم أن هذا ما يغيب عن السجال السياسي الذي يعيشه الفلسطينيون في الوقت الحاضر.
ونتيجة هذا الغياب تصبح الرسالة/البيان جزءا من الحملة الدعائية التي شُنت ضد الرئيس والسلطة، في ضوء ما اكتنف تقرير غولدستون من ملابسات، والتي بلغت بعض تجلياتها في غزة، وفي الفضائيات، حدا غير مسبوق من البذاءة.
ونتيجة هذا الغياب، أيضا، تضيع الفوارق بين علمانيين وأصوليين، بين ديمقراطيين، وفاشيين، بين وطنيين وتجار وطنية، بين مثقفين وصنّاع دعاية، بين مناضلين ومرتزقة. يبدو للوهلة الأولى وكأن الجميع أصبحوا في خندق واحد ضد السلطة التي جلبت البلاء إلى البلاد والعباد.
ولكي يصبح الجميع في خندق واحد، ويستقيم الحِجاج لا بد من إفساد اللغة، والرهان على الداروينية السياسية. فالمقاومة كلمة سحرية تعلو لا يعلى عليها، مطلقة، عصية على الواقع والتحليل، نهائية وناجزة، والسلطة مصدر الشرور، حتى تكاد تكون صفة دنيوية للشيطان. فإذا أطاحت هذه بتلك استقامت أحوال فلسطين وأهلها. فهل هذا صحيح؟ هل ستستقيم أحوال فلسطين وأهلها إذا أصبحت حماس على رأس السلطة ومنظمة التحرير؟
ولنفرض أن حماس شكّلت سلطة جديدة موّحدة في الضفة الغربية وقطع غزة، فهل ستبقى هذه السلطة يوما واحدا على قيد الحياة دون موافقة إسرائيل؟ وهل ستبقى يوما واحدا على قيد السياسة والدبلوماسية في الإقليم والعالم دون التأقلم مع موازين القوى القائمة؟
البقاء على قيد السياسة والدبلوماسية يعني التفاوض حول دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإدارة شؤون البلاد والعباد من خلال التنسيق مع إسرائيل ومصر والأردن، فهذه شروط الجغرافيا قبل أن تكون شروط السياسة. بمعنى آخر ستفعل سلطة حماس ما سبق وفعلته السلطة الفلسطينية.
وإذا فعلت سيندرج كل ما تشنه الآن من حملات وما تسوقه من اتهامات، وما تثيره من ضوضاء، وما تنسجه من خيوط وتحالفات، في باب السعي إلى السلطة، ويكون كل ما جناه الفلسطينيون أنهم غيروا حاكما بحاكم دون أن يربحوا شيئا. وإذا لم تفعل ستكون مضطرة للتنازل عن السلطة، أو مجابهة الحصار، ويعود الشعب الفلسطيني إلى نقطة الصفر: منظمة تحرير متأسلمة في دمشق والدوحة وطهران، ومقاومة محاصرة ومعزولة في مربعات جغرافية وراء الجدار في الضفة الغربية، ودويلة كسيحة في غزة، فهل ستنشئ أنفاقا للتهريب تحت نهر الأردن، كما أنشأت أنفاقا للتهريب في رفح، أم تنتظر ثورة شعبية في مصر والأردن تنضم إلى طلائع فضائية الجزيرة، والجيوش الإيرانية والسورية لتحرير فلسطين؟
إذا لم يكن هذا هو العبث، فماذا يكون؟
شخصيا، لا اشعر بالامتعاض من أصوليين ينتقدون السلطة، فمواقفهم تنسجم مع قناعاتهم، لكنني أزدري علمانيين لا يتورعون عن السخرية من العلمانية وما يسمونه بالواقعية السياسية، كلما سنحت الفرصة، بينما لا يقلقهم ما في مشروع الأصولية للاستيلاء على الحقل السياسي الفلسطيني، باسم المقاومة، من عبث.
السلطة ليست علمانية، ولا أعتقد أن أصحاب نهج “الحياة مفاوضات” يجيدون فن التفاوض. ولكن، وبالقدر نفسه من الصراحة والنـزاهة الأخلاقية، لا أعتقد أن في تبني نهج “الحياة مقاومة” على طريقة حماس، ما يدل على الحكمة وبعد النظر.
أخطر ما يجابهنا منذ وقت لم يعد قصيرا يتمثل في الداروينية السياسية ونسبية القيم. مثلا، يعيب حاكم انقلب على أبيه، ولم تعرف بلاده التعددية السياسية والحزبية، حقيقة أن الحكّام العرب لم يتغيروا منذ ثلاثين عاما، بينما غيّرت إيران عددا من الرؤساء، ويعيب مفكر يشتغل عنده على السلطة الفلسطينية عدم احترامها للانتخابات في فلسطين. الأوّل لا يَنتخب ولا يُنتخب، ويحتمي بأكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، والثاني يشتم على بعد أمتار منها “سلطة دايتون” في رام الله.
إذا لم تكن هذه داروينية سياسية فماذا تكون؟
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني- برلين
عن جريدة الأيام
إذا لم تكن داروينية سياسية فماذا تكون؟ (رائد طه) مؤلف ومسوق هذه العريضة , حصل على وظيفة (كاتب) في المكتب السياسي لعضو مجلس النواب السابق ورئيسة حزب (الخضر) والمرشحة للرئاسة الامريكية (سينثيا مكيني) .. وهي مناصرة قوية لحقوق الشعب الفلسطيني وتم قصف قارب المعونات الذي كانت تقوده اثناء العدوان على غزة وتم اجبار القارب على الرسو على الشواطىء اللبنانية , وواصلت سعيها للوصول الى غزة وتم اعتقالها من قبل السلطات الاسرائيلية لبضعة أيام ومن ثم ابعادها .. الملفت هنا ان (الاعلام العربي) لم يهتم بتغطية هذا الخبر , فقبل يومين من العدوان شاهدنا على (الجزيرة) رسو آمن لقارب معونات قطري… قراءة المزيد ..