أن أكتب. أن أكشف نفسي أمام العالم. أمارس الآن ولعي بهذا الشبق المحظور
الليلة سهرت مع مجموعة من الأفكار لأختار منها موضوع كتابتي القادمة. فكرة واحدة تطغى على البقية وتسيطر على دماغي المرهق وهي: لماذا أكتب؟
هل يرغب الكاتب في الخلود؟ هل حلمت أنا بالخلود؟
أم أني أردت المشاركة بتغيير حدث ما أو فكر ما؟
ما كان هدف الكتابة الأولى؟ وبما فكرت حين تجرأت على النشر؟
أقر بأن بداية الحرية تطلبت أن أعلن عن وجودي. أن أكتب
في حوار أجراه معي صحفي قبل عدة أيام، اغتظت حين بدأ بتقديمي بالقول: معي الإعلامية…. قاطعته وقلت له: بل قدمني ككاتبة، أجاب: لكن اللقب إعلامية يضم عملك ككاتبة كذلك، أنت تقدمين برنامج تلفزيوني وتكتبين لذا أفضل أن أقدمك كإعلامية . قلت له: إن كنت تصر فعرف عني بالكاتبة والإعلامية. وضحك يقول: حسناً كما تريدين لكني لا أفهم لما تصرين على ذلك. ليس تمسكي بلقب (كاتبة) لكون اللقب مدعاة فخر. بل لأنك حين تكتب تثبت للكون أنك حي وموجود. أن تكتب يعني أنك تبذل جهداً مخيفاً يقلقك ليل نهار ويحطم أعصابك بعض الأحيان، يستحق كل هذا العناء أن تتم الإشارة إليه لا اختصاره ضمن مصطلح يضم مجموعة من الألقاب الأخرى. كما أني لا أعمل كاتبة. أنا أعيش ككاتبة
ينصحني بعض الأصدقاء فيقولون: الكتابة تتطلب أن تنظمي لها جدولا يوميا. يجب أن تتعاطي مع فعل الكتابة بصفتها مهنة لا هواية، لكني أرى في هواي للكتابة شيئاً يمنعني من اعتبارها واجبا رسميا. أي أني لا أمتهنها، ولن أفعل. أمتهن الإعلام. وهو مهنة أرى فيها نفسي وأحبها لذا أستمتع بتأديتها وإن كانت مرهقة
أما كتابتي فلا أريد لها أن تتحول لمهنة. المهنة تعني عمل بأجر، تعني دخل شهري، تعني إبداع، التزام، دوام ، إدارة، خطة، استراتيجية، إجازة، اجتماع صباحي، التعامل مع أفراد لا تتفق معهم كثيراً….الخ
وعلى النقيض فالكتابة عالم روحي لا يخضع لقوانين العمل اليومي ورسمياته ومتطلباته، وهي في الأساس لا تخضع للعصر ولا ترتبط بالزمان، لا تخضع للأرض ولا للسماء ولا يحدها شيئ ولا يحكمها أمر ولا يتحكم بفعلها إنسان ولا يهذبها أي كتاب أو ينسقها أي ثبات . حين تكتب تدخل بغيبوبة كأن أحدهم ألقى عليك بتعويذة، تنتشي نشوتك تجاه المتع والطيبات. فشبق الكتابة ميل غرائزي لا يقل بهجة عن التمتع ببقية الغرائز. هو كلذة الاستمتاع بالطعام ولذة الجنس ولذة اكتشاف الأماكن الجديدة ولذة الحب ولذة المعرفة. لكن هذه اللذة تتطلب أن تطوع حياتك لها ومن أجلها حتى تطوع نفسها لك. تعتزل لتجتمع بها. وتتحمل الحياة وحيداً أغلب الأحيان، فالاختلاط بالبشر يقلل كمية الاتصال بنفسك وبالكون لأدنى حدوده الروحانية. وتقلق كثيراً وكثيراً أثناء تفتيشك عن الفكرة والكلمة. ذات مرة قررت وزميل لي أن نكتب حول موضوع واحد، أنهى ثلاثين صفحة في يوم وأنهيت صفحتين في عشرة أيام. سخر من تباطئي لكنه لم يكن تباطئاً، كان تواصلاً، كان طقساً لا قيمة للكم أو الوقت في سننه. أن تكتب، يعني أن تخرج روحاً جديدة من روحك. من جسدك وحياتك. تلد نفسك مرات ومرات. من يأبه الآن للمسافات الزمنية ؟
وأن تكتب يعني أن يسمعك الجميع ويعرف عقلك الجميع. سينصحك المحيطين بك بمراجعة ما كتبت. وينصحك العقلاء بتوقع ردود الأفعال والتحسب لها وأخذها في الحسبان. لكنك تعلم أنك إن فعلت هذا كله تغدو شخصا آخر غيرك، تكتب كتابة أخرى غير التي حلمت بها وحلمت بك. صحيح أنك ستطمئن لالتزامك بقانون البشر لكنك ستخدع قانون الكون وتخدع الطبيعة التي اختارتك للتعبير عنها وعن أهلها. وتكون في النهاية واحداً من الدخلاء والأغراب. لن يختارك الخلود إن كنت تحلم به. التزم بقانون الكون في الكتابة وادخل بغيبيوبتك وخالف قوانين النشر والبشر وكل محظور واكشف نفسك أمام العالم
قد يرحب بك الناس ويؤمنون بكل كلمة تكتبها وقد يكرهونك ويمقتون ما تكتبه، لكنهم حتماً سيهتمون بالبحث عن كلماتك وقرائتها. سيبحثون عنك أنت بالذات
Albdairnadine@hotmail.com
* كاتبة سعودية