نعيش في خضم مرحلة انتقالية هائلة. عالم قديم، يعود إلى ما قبل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والإنسان البيونيك، يلفظ أنفاسه. وعالم جديد مختلف نوعياً لم يتبلور بعد. ربما بدأت ترتسم بعض خطوطه العريضة.
سأتناول جانب تقاسم النفوذ بين القوتين الاقتصاديتين العملاقتين المتبلورتين الآن، الولايات المتحدة والصين. حيث من الصعب معرفة إلى أين سيؤدي بنا هذا الصراع المتصاعد على النفوذ.
برز في هذا السياق الاتفاق الذي أبرم، فجأة وبعد تردد، بين الصين وإيران. ما يطرح عدة تساؤلات: لماذا أبرم الآن؟ وكيف سيؤثر على التوازن الصيني – الأميركي؟ ناهيك عن الأوضاع في العالم وفي المنطقة العربية والخليج خصوصاً!! في ظل مفاجأة التطبيع بين إسرائيل و4 دول عربية، و4 أخرى مرشحة.
وخصوصاً انعكاس ذلك على لبنان على ضوء هذه التغيرات في ظل الانهيار العميم وسياسة تدمير قواعد الاقتصاد الحرّ المنهجية.
نعيش في كابوس غير مسبوق. ولم يسبق أن عرفه أي بلد آخر. فيغرق اللبناني في الأحداث اليومية المتتابعة التي لا تترك له متنفسا ليستقطع وقتا، ولو قصيرا، كي يفكر في مغزى ما يحصل له ومن حوله.
في البداية لم يتم الربط بين سياسة الهدر وتصدع البنى التحتية وتراجع الخدمات الكارثي وبين تصاعد هيمنة منظومة الممانعة والمقاومة وحلفائها التي تجذرت في الدولة انطلاقاً من لحظة اغتيال الحريري ومشروعه في العام 2005. وظل للمقاومة وحزبها بعض الصدقية. لكن الثورة السورية وانفجار 4 أغسطس، أسقطا مع الوقت الأقنعة التي خبأت خلفها مشروعها الجهنمي للبنان.
وتظهّرت بوضوح آلية الهيمنة: غطي سلاحي لأشرّع سرقاتك للمال العام. وكل ذلك ربما كان قابلاً للمعالجة. لكن قبل تأثيرات جريمة المرفأ، الذي لم نبدأ بإصلاحه بعد، ذات الأبعاد الكارثية على مكانة لبنان ودوره الاقتصادي في ظل أحداث المنطقة. فإسرائيل تدرس مدّ سكك حديد وخطوط الغاز من الخليج نحو مرفأ حيفا، الأحدث في العالم. إضافة إلى مشروع فتح قناة موازية لقناة السويس. وفي ظل واقع الحال سيكون لبنان خارج الخريطة الاقتصادية والحضارية ربما لعقود قادمة.
لمحاولة تقييم وفهم مجرى الأمور، على ضوء ما يجري في العالم، حاولت العودة إلى مؤلف المؤرخ الموسوعي بروديل “المتوسط والعالم المتوسطي”. فليس أمام غير الضليعين بالجيوبوليتيك أمثالي، غير العودة إلى بعض الكتب المرجعية لمحاولة الفهم.
وبروديل مؤرخ من نوع خاص، جمع الزمان والمكان إلى التاريخ، رفض إقامة قطيعة بين الماضي والحاضر. يرى التاريخ كعملية شاملة تدخل فيها الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد إلى جانب الحكومات والجيوش والحروب والمناورات السياسية. فليس هناك عامل محدِّد وحيد: لا صراع الأعراق ولا صراع الحضارات، لا الحياة الاقتصادية بتقلباتها ولا النمو الديموغرافي، لا التقنيات وتطورها ولا البنى السياسية، لا التفاوت الاجتماعي ولا الاكتشافات الكبرى. فالظواهر الاقتصادية لا تكتمل معانيها ودلالاتها إلا إذا أدرجت في إطار عام وشامل. الاقتصاد هو في الآن نفسه سياسة واجتماع وثقافة، والعكس صحيح، بتفاوت مستويات التأثير لكل عامل منها.
لكنه في تأريخه للرأسمالية بيّن على نحو واضح أن الفرادة والحداثة الأوروبيتين قد تجليتا في واحد من أبرز وجوههما ابتداء من القرن الخامس عشر بغلبة الاقتصادي على السياسي والاجتماعي والثقافي، بينما كان السياسي يسيطر على الاقتصادي ويكبح جماحه في الإمبراطورية العثمانية وفي غيرها من الإمبراطوريات والدول الآسيوية. لذا ربما سيكون الاقتصاد أحد محددات التاريخ المهمة في وقتنا الحالي! على كل هذا ما تقوم عليه سياسة الصين وتمارسه عملياً في خططها وتحالفاتها. فتوّجت زحفها البطيء نحو الغرب في الاتفاق الصيني – الايراني.
لكن الوقائع العميقة هي التي تحكم حياة البشر بالنسبة له: النظم الاجتماعية التي تسجنهم، والقواعد الأخلاقية الواعية واللاواعية التي يخضعون لقيمها، والمعتقدات الدينية والفلسفية التي يعتنقونها، والحضارات التي ينتمون إليها.
لذا نجده ميّز بين ثلاث أزمنة أو طبقات أو وتائر:
أولاً الزمن الجغرافي أي التاريخ شبه الثابت، المستقر، الذي ليس بالإمكان أن نشعر بــ”تقلصاته”. وهذا الزمن التاريخي يخص بالتحديد علاقة البشر مع الوسط الذي يحيطهم. وهو ما يجعل شارل مالك يأخذ بعين الاعتبار تأثير جغرافيا لبنان الصعبة، جبل شامخ وشريط ساحلي ضيق، على شخصية اللبناني منذ حقبة الفينيقيين. فجعلته قادرا على مواجهة التحديات. والحاجز الذي شكّله الجبل صدّ توجهه نحو الصحراء، فانفتح على البحر. ما سمح للفينيقيين أن يقيموا أول “اقتصاد – عالم”، بحسب بروديل. ومهارتهم التجارية هذه جعلتهم أول من طوّر الكتابة واخترع الأبجدية (لحاجتهم التجارية في إبرام العقود بسرعة)، التي شكلت منعطفاً تاريخياً مفصلياً في تاريخ البشرية، يوازي اكتشاف النار أو اختراع الدولاب، على ما يؤكده عالم اللغة ومؤلف “مجرة غوتنبرغ”، ماك لوهان.
أما الزمن الثاني الاقتصادي الاجتماعي فيخص التاريخ “المتحرك ببطء”، ويقصد به بروديل الزمن الاجتماعي الذي يخص فعل المجموعات الانسانية الضمني، أي الذي يحدث في عمق المجتمعات بحيث لا يبدو منه الشيء الكثير على السطح. وهنا يمكن الحديث عن سمات حضارية تنتج “شخصية” شعب ما، على ما فعله جمال حمدان في مصر وعلي الوردي في العراق، أو شخصية اللبناني المغامر دوماً والمهاجر دون أن يفقد ارتباطه بلبنان.
وأخيراً نجد الزمن الثالث السياسي الذي يخص التاريخ التقليدي الحدثي “المتحرك على السطح”، أي الذي يعرف “أحداثاً ـــ منعطفات” في تاريخ المجتمعات كنتيجة للعمل البطيء للمجموعات الاجتماعية على المدى الطويل.
إن تسارع الأحداث من حولنا وتدهورها يجعلنا نعيش دائما على السطح، ولا نأخذ وقتاً كافياً لمراجعة واقعنا على المدى الزمني متوسط.
كانت “تانطات” طهران تعزّين أنفسهن، بعدما تبين وجه النظام الإيراني الدموي والقمعي بعد فترة قصيرة على نجاح ثورة الخميني بالقول، نصبر 40 عاماً ونتخلص من حكمهم. وكأنهن قرأن « بروديل » ومفهومه للحقبة، فتنبأن بمأزق النظام الذي بلغه بعد 40 عاماً مما اضطره لإبرام اتفاق مع تنين ذو مخالب ناعمة، كي يمدد عمره.
ففي خاتمة المحور الثاني الذي يحمل عنوان الحقب الطويلة، ذكر بروديل بأن الحقب التي مرّت في المتوسط خلال القرن السادس عشر قطعتها أربع موجات، استغرقت الأولى 49 سنة والثانية 30 سنة والثالثة 36 سنة والرابعة 46 سنة. وإلى جانب هذا الانتظام الذي رسمته حركة المد والجزر هناك تفاوت في السرعات.
وعلى ضوء كل ذلك سأطرح بعض التساؤلات فيما يتعلق بلبنان والمنطقة.
نعلم جميعاً أن النظام الإيراني يمرّ بمأزق وجودي، خلّصته في المرحلة الأولى الحرب العراقية – الإيرانية وأعطته دفعة استمرار طويلة، يبدو أنها بلغت نهاياتها الآن، خصوصاً بعد اندلاع الثورة في سوريا (2011) ومن ثم في العراق وبعدها في لبنان (2019). ما دعا أحد المسؤولين إلى التصريح مؤخرا أن الثورة في لبنان والعراق، كانت نوعاً من مؤامرة موجهة ضد إيران.
أقصد أننا إذا أخذنا “حقب” بروديل بعين الاعتبار، تشير المؤشرات إلى أن الحقبة الخمينية- الخامنئية قد بلغت نهايتها. ولأن المسؤولين الإيرانيين يستشعرون ذلك، ارتموا في أحضان التوتاليتارية الرقمية المتطورة وصاحبة نظام الحزب الواحد الحديدي الذي ابتدع كاميرات لمراقبة تعابير وجوه مواطنيه كي يضبطهم جيدا ويرصد مشاعرهم.
فهل سيمدد هذا الاتفاق عمر النظام الإيراني بما سيوفره من أدوات قمع رقمية عالية ترفع جودة قمعه؟ هل سيغيّر وجهه تحت تأثير رغبة الصين بالتنمية الاقتصادية التي تتطلب الأمن؟ هل سيحتفظ/يزيد النظام مشاريعه التوسعية العدوانية في المنطقة؟ أم أن الصين ستفضل عدم الدخول في نزاعات وصراعات دموية لتكمل مسيرة “الحزام والطريق” شمالاً؟ خصوصاً أنها بعثت رسائل طمأنة لدول الخليج التي وقعت معها اتفاقيات اقتصادية. هل تتغلب المصالح الاقتصادية والهيمنة التجارية فتنعكس على سياسة إيران تجاه العواصم المشرقية الثلاث التي “تحتلها” لجهة التهدئة؟ أم أن الصين لن يعنيها ما يحدث في هذه البلدان ؟
هل ستساعد الصين إيران على امتلاك القنبلة النووية أم العكس؟
كيف سينعكس الاتفاق على الداخل الإيراني؟ هل رهنت إيران نفسها لربع قرن؟ هل سيرضى الشعب الإيراني، الذي استُغِلَّ طويلاً وأُفقر لصالح شعارات تصدير الثورة وتحرير فلسطين، كي يجد نفسه تحت وصاية نظام شيوعي حديدي كالنظام الصيني الذي لا تزال تجربة البلدان الأفريقية تشهد على نمط تعامله الاستعماري معها ؟
كيف ستكون ردة فعل الاتحاد الأوروبي، الذي تنبه أخيرا لحقوق الانسان في إيران، هل سيواجه أم لا؟ ماذا ستفعل إدارة بايدن؟ هل ستستمر في مهادنة إيران ومسايرتها؟ هل ستغير خططها؟
وإسرائيل؟ كيف ستحصّن نفسها في ظل علاقتها بالعملاق الصيني؟ والطرف الروسي كيف سيتعامل مع الأمر؟ وهل سوف تتغير سياسة أميركا تجاه المنطقة وتتلمس أن مواجهة الصين تبدأ هنا؟
في لبنان، كيف سينعكس الاتفاق الصيني – الإيراني على حزب الله؟ هل سيراجع سياساته؟ هل سيتلبنن؟ هل سينكفيء نحو الداخل؟ أم تتحسن قدرته الاقتصادية فيشدد قبضته؟
بالمقابل، وبعد مرور 40 عاماً على وجود حزب الله، توصل خلالها بالقضم البطيء الخفي إلى أن يستعمر لبنان ويضع يده عليه بالكامل. فهل سينجح بتمديد عمره الافتراضي بمساعدة إيران، رغم ما يلاقيه من رفض لبناني متصاعد لهيمنته من فئات تتوسع كل يوم وتطال شرائح جديدة؟ أم أنه قارب على الانتهاء رغم كل شيء!
وإذا أردنا الاستفادة من فرضيات « بروديل » عن نَفَس الحضارات وخصائصها، سنجد أن التاريخ يخبرنا أيضا أن إيران الفارسية كان حلمها الدائم بلوغ المتوسط وبناء إمبراطورية كما يرددون الآن. لكنها في كل مرة كانت تنكفئ إلى داخل حدودها خائبة. كما يخبرنا التاريخ أيضا أن لبنان استطاع دائما طرد محتليه وأن مدن لبنان كانت شبه الوحيدة التي تقاوم محتليها. وأن بيروت هدمت 7 مرات، وهي تهدم للمرة الثامنة، ويعاد بناؤها. وأن لبنان استطاع دائما الخروج من مآزقه وأعاد بناء نفسه بشكل أفضل مما كان.
مع ملاحظة أخيرة تتعلق بأميركا.
ينقل عن المسؤولين الإيرانيين اعتبارهم أن الحضارة الأميركية أصبحت عجوزا وفقدت دورها. لكن يشير البعض الآخر إلى أن أميركا، عند مقارنتها بالحضارات الألفية الأخرى في العالم، لا تزال بسن المراهقة!
monafayad@hotmail.com