لم تكن الازمة المصرفية وليدة الصدفة او المفاجأة، ولا اعتقد ان الاستدلال على وقوعها كان يحتاج لشهادة او خبرة مالية.
ومن يتابع المسار الانحداري السياسي والاقتصادي والمالي الذي تدحرجت عليه مقومات البلد الاقتصادية ومكوناته السياسية ومراكزه النقدية والمالية، بعد الفورة النسبية التي استفادت من قدرة النظام المصرفي اللبناني المرن على امتصاص جزء من الاموال الهاربة من الازمة المصرفية التي ضربت اميركا والغرب عموما سنة ٢٠٠٨، والتي ساهمت برفع نسبة النمو بلبنان الى ٨ و٩ بالمائة، يرى انها بدأت بالانحدار بعد اسقاط حكومة سعد الحريري الاولى والتي اخرجت دستوريا باستقالة الثلث الضامن للتعطيل في عملية استعراضية، اخرجها حزب الله واعلنها جبران باسيل من الرابية. علما ان اعادة تكليف الحريري قد افشلت بواسطة فائض القوة التي رمز لها بهرولة اصحاب القمصان السود.
شكل حزب الله، مستفيدا من التكيف او الخوف الجنبلاطي، حكومة اللون الواحد التي ترأسها الرئيس ميقاتي، معززا بوزير سني اضافي، وبحشد وزاري طرابلسي غير مسبوق.
مثلت هذه الحكومة تحديا كبيرا للمجتمعين العربي والدولي اللذين لطالما شكلا الداعم الرئيسي للبنان خلال المراحل الصعبة والمعقدة التي طبعت حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدستورية، منذ انفجار الحروب والاجتياحات، خصوصا خلال مرحلة اعادة البناء والإعمار للبلد المدمر ، حيث كرست مؤتمرات للدعم والمساندة شكلت باريس حاضنة لمعظمها.
كما أن مطالبة الجهات الداعمة بالاصلاحات لم تتوقف بموازة الدعم، ولم تصل هذه الاصلاحات لاي نتيجة، حتى أن قانون الهيئات الناظمة الذي اقره البرلمان لمواكبة مؤتمر باريس٢ سنة ٢٠٠٢ لم يشهد التنفيذ حتى الآن للممانعة المعروفة.
لم يتوقع احد ان تقوم هذه الحكومة “الممانعة” بأي اصلاح، حتى انها اقترفت جريمة اضافية بمتابعة نفخ القطاع العام بكل الوزارات، خصوصا في وزارة الاتصالات الدسمة حيث “اممت”شركتي الفا وتاتش في عهد الوزير نقولا صحناوي، مما سهل التوظيف السياسي وأرهق الخزينة، كما أخر برامج تطوير الانترنت بواسطة الالياف الضوئية الممتدة عبر البحار الى ترمينال طرابلس.
وللتذكير، فقد بدأ في هذه الحكومة مسلسل السلاسل الجديدة في القطاع العام، بدءا من القضاة واساتذة الجامعة اللبنانية، وصولا لباقي القطاع العام والعسكر والتي دخلت سلاسلهم بمرحلة طبعت سنوات وحكومات بطابعها، ويمكن اطلاق عليها اسم “صراع السلاسل” وهو الصراع الذي انتهى باقرار سلسلة فضفاضة دون اي اصلاح، وبدت كرشوة جماعية ساهمت فيها السلطة بجميع اطرافها والنقابات والروابط بجميع قطاعاتها. ولم تنفع التحذيرات التي انطلقت من اكثر من جهة اقتصادية ومالية ونقدية، مطالبة بترشيد موضوع الرواتب ليواكب اصلاح وترشيق القطاع العام من اول حلقة عند القضاة الى اخر حلقة في السلسلة.
ومن سوء طالع هذه الحكومة التعيسة والتي بدأ معها العجز المالي والتجاري يزداد صعودا والنمو الاقتصادي ينحدر نزولا، بموازة كرم الانفاق غير الاستثماري في الغالب، ان انفجرت الثورة السورية المتحولة لاحقا ونتيجة القمع العاري لحروب ودمار ونزوح.
لم تنفع المناشدات باستيعاب النازحين بمخيمات على الطريقة التركية والاردنية لاحتواء وتخفيف التداعيات ولتعزيز وترشيد المساعدات الدولية، مما زاد الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي على البلد المعاق اصلا، خصوصا حين انخرط حزب الله بطلب من راعيته ايران بالمشاركة بقمع الثورة السورية الى جانب النظام السوري الفئوي.
أدى هذا التدخل السافر لانعكاسات وتداعيات خطيرة على لبنان، خصوصا في طرابلس الاكثر قربا من الفوالق السورية. لم تطبق سياسة النإي بالنفس ولا إعلان بعبدا، مما زاد في عزلة البلد وفي عجزه المالي وفي تدهور اقتصاده وفي تعقيد واقعه السياسي نتيجة تحكم حزب الله في الحياة السياسية ومد يده للحياة الاقتصادية والاجتماعية، وصولا لفرض انتخاب الجنرال عون رئيسا للجمهورية، بتسوية مع القوات والمستقبل على انقاض بقايا ١٤ آذار.
ادت مفاعيل التسوية خلال بضع سنوات لمشارف الانهيار الشامل، خصوصا بعد انتخابات نيابية على اساس قانون انتخابي بالغ السوء، اعطى لحزب الله وحلفائه فائضا نيابيا شرعيا اضافه لفائض قوته المسلحة، تاركا للمهتمين بصحة التمثيل الطائفي على حساب صحة البلد متعة التلذذ ببضعة مقاعد نيابية لا تسمن ولا تغني عن جوع.
بعد بضعة ايام على انفجار انتفاضة الغضب وقبل ان تغلق المصارف ابوابها لاسبوعين، ظهر توجه داخل بعض المجموعات نحو تحميل المصارف بما فيها المصرف المركزي وزر الازمة المالية والنقدية وحتى الاقتصادية، وخصوصا بعد الهجوم الهلعي للمودعين وبدء توافد مجموعات من المنتفضين الشباب لفرض ايقاف فروع المصارف عن العمل، رغم تعارض هذا التوجه مع مصالح الناس القلقة والمتسارعة لسحب ما يمكن سحبه من اموالها، او لتغيير طبيعة الوديعة من الليرة للدولار، طالما بالامكان ذلك. فالليرة كانت تتابع انحدارها الذي بدأ اصلا في ايلول والذي تسارع بعد انفجار الانتفاضة الشعبية، ثم انهار بعد قرار عدم دفع مستحقات اليورو بوند في آذار دون اي خطة تفاوض مع اصحاب السندات، خصوصا الخارجيين.
لم الجأ لدولرة مدخراتي سابقا، الا في نطاق ما اضطرني لحاجات أولادي في الخارج، رغم استشعار الخطر مبكرا. لا اعرف هل كسلا او وطنية او لا مبالاة. ومع ذلك فقد ذهبت في الايام الاولى للانتفاضة الى المصرف محاولا الاستفسار والاستدلال وربما الاستدراك. وفي هذا اليوم تحديدا بدأ بعض الشبان والشابات بالتوافد امام المصرف لتعطيله، واخرجوني على نشيد هيلا هيلا هيلا هو ، يالله بدنا نسكر المصرف ياحلو. وللمفارقة فقد وجدت عند خروجي، مرتبكا وكأنني كنت اقوم بعمل مشين، بعضا ممن كنا سويا في الليلة السابقة نهتف ونناقش في ساحة وزوايا الانتفاضة المتألقة في طرابلس.
عادت بي الذاكرة الى فترة الرومانسية الثورية التي كنا نناضل فيها ضد الرأسمالية والامبريالية، وخصوصا ضد المصارف درة التاج في النظام الرأسمالي، وكانت البلد بالكاد قد خرجت من ازمة بنك انترا، والعالم الثوري يسير على وقع التغييرات المجتمعية التي أحدثتها انتفاضة ١٩٦٨ في فرنسا، وعلى ملحمة غيفارا مات.
لم ينكر الثنائي ماركس وانجلز الدور المركزي للبنوك في النهضة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، وفي صعود الحداثة التي طبعت الحضارة الغربية بواسطة سحر الاعتماد المصرفي( credit)، بل ذكرا في المانيفستو ان البروليتاريا المتكدسة في المصانع ستنتصر في الصراع الطبقي على مستغليها وسيبنى لاحقا نظاما شيوعيا، لن يكون فيه بالطبع بنوك تجارية او اي وسيلة استغلال.
هناك فارق بين زمن تكدس البروليتاريا في المصانع وبين زمن تدفق المعلومات عبر الالياف والاقمار الصناعية. بين زمن الرومانسية الثورية وثورات التحرر وزمن الذكاء الاصطناعي وثورة البيوتك والمصالح الجيوسياسية العابرة للقارات وربما للكواكب. علما ان اموال عائدات البزنس، خصوصا لاقطاب صناعة الانترنت كأبل وامازون و “علي بابا” ما زالت تتكدس في المصارف، وان كان بعضها ديجيتال.
هذه تغييرات هائلة، وعلى اليسار واليمين والوسط أيضا، وربما على الانسانية التفكر بمسارها ومآلها وانعكاساتها الدراماتيكية على البنى المجتمعية والفكرية والسياسية، وعلى الحضارة الانسانية عموما.
ينتمي بعض هؤلا الشباب الى مجموعات تعتبر ان حكم المصرف هو المشكلة، وفي ساحة الانتفاضة كان يوجد زاوية لمجموعة تتطالب بتأميم المصارف وتقدم حساء للمنتفضين، وربما هم غير مدركين بان في الصين يوجد اهم المصارف الخاصة في العالم، وان كيم جونغ اون كان يحاول مع ترامب، مقايضة التحول في الاقتصاد الكوري الشمالي بما فيها بناء مصارف تجارية، بالابقاء على حكم سلالة كيم الذهبية، وطبعا بضمانة صينية.
لا نلوم هؤلاء الشباب والشابات على توجيه الاتهام للمصارف، خصوصا ان اصحابها وكبار المساهمين فيها لم يقصروا في سوء ادارة اموال المودعين، كما اتبع معظمهم في ادارتهم للازمة مسارا غير اخلاقي، سواء بموضوع التحويلات في غياب الكابتال كونترول، سواء بطريقة احتواء هلع المودعين وتدفقهم على المصارف، وطبعا باقتناص النسب على المعاملات على طريقة السلطة في فرض الرسوم، وهو ما تناسب مع الانحدار الاخلاقي الاجمالي في البلد، خصوصا في صفوف الطبقة السياسية والنخب عموما.
ما نريد ان نؤشر اليه، ان هذا الوضع شكل ثغرة لنفاد قوى السلطة الفعلية لتوجيه كل الغضب نحو المصارف للتعمية عن المشكلة السياسية الأساسية المتمثلة بفقدان الدولة سيادتها،
ولاستكمال ضرب القطاع المصرفي عصب الاقتصاد اللبناني، حيث شهدنا حرق وتخريب مصارف بموازاة التركيز على المصرف المركزي واعتباره محور الشر.
وفي التدقيق في سردية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وما يحيط بها من استهدافات وملابسات تتعلق بالدعم والتهريب والتهرب واستنزاف الاحتياط، بتنا نشهد مزيدا من الاصطفافات الطائفية، وكأنه أصبح للفساد انتماء طائفي.
ان مشهد اخراج بعض ملفات الفساد لظباط على شبهة الاثراء غير المشروع، مع اهمال متابعة ملفات فساد تطال وزارات عدة، في مقدمها وزارة الطاقة، مع ان احد الموظفين الكبار اتهم وزيرا للطاقة بالتزوير، زاد منسوب التوجس من التسييس.
وادا اضفنا ما عكسته الاستدعاءات الاخيرة في جريمة المرفأ المروعة من اصطفافات طائفية، معطوفة على اجواء القلق التي تخلقها اخبار أمنية ومخابراتية والتي عززتها دعوى حزب الله على شخصيات سياسية، تجرأت على التساؤل حول دور الحزب بموضوع المرفأ والعنبر رقم ١٢ وما يحيط بكل سردية نتيرات الامونيوم، بدءا من استئجار السفينة من قبل وزارة الطاقة لنقل معدات للاردن على ما قيل وصولا للانفجار المروع، بموازاة بقاء المدان بتفجير الحريري ورفاقه سليم عياش حرا طليقا، نستطيع ان ندرك حجم الخطر الكبير الذي يحيط بالبلد.
فعوض عن تشكيل حكومة مهمة الانقاذ من اختصاصيين كفوئين ومستقلين، يجري الرقص العبثي والانتظاري على حافة الانهيار الشامل، ما يجعل الحاجة ملحة للتدقيق السياسي والتدقيق السيادي الى جانب التدقيق القضائي. لقد صدق من قال أن رأس الفساد هو في عدم تشكيل حكومة المهمة، وكأنه يريد ان يقول : مرتا مرتا تقولين اشياء كثيرة والحقيقة واحدة.
هذا الواقع الأبوكاليبسي دفع وزير خارجية فرنسا للقول، ان لبنان بات يشبه سفينة التايتنك ولكن دون موسيقى.
لن ننتظر الموسيقى الجنائزية، فلهذا البلد المتنوع وظيفة في عائلته العربية، لا يمكن ان ينزعها منه احد. ويقيني أن اللبنانيين، المعصوررين ألما، سيبتدعون وسيلة سلمية لاستعادة سيادتهم وانقاذ بلدهم وان بكلفة عالية. فلطالما اصطدم فائض القوة الفئوية المستقوية بالخارج، بعمق طبيعة التعايش والعيش اللبنانية العصية على الكسر.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس
المعضلة ان انعدام الثقة في جسخم قضائي مساتقل هو العائق في بدء التدقيق ومحاكمة المرتكبين…لا يجوز المطالبة بال ٦و٦مكرر فيما خص المحاكمات .يجب ان نبدأ من نقطة ما وسوف تكر السلسلة