إنّ موروثنا «العلمانيّ» كبير! – من حيث لا ندري – وهو مترسّخ في وجداننا الشعبي. فالحديث العظيم الذي يقول: «خيرُ الناس من نفع الناس»، هو ببساطة كلام علماني من دون تنظير.
«خير الناس» يختلف عن «خير العرب» أو «خير المسلمين». فالكــــلام هنا يشمل «أديسون» المسيحي، ذلك الذي أنار بمصباحه العظيم بيوتنا وشوارعنا ومصانعنا وكنائسنا وجوامعنا. و«خير الناس» هو كذلك مخترع البنسلين وصانع السيارة والقطار والطائرة. وصانع الإنترنت، وحتى «شماغ بروجيه!» وواحدنا يخجل من السؤال عن دين هؤلاء، أو قوميتهم أو عن لون بشرتهم. إنهم خير الناس. وكفى! يكفي أن تستعرض أسماء الموسيقيين والرسامين والعلماء والأطباء، وأن تترحم على أمواتهم. أو تدعو بطول العمر لأحيائهم. هذه هي العلمانية ببساطة! إنك لا تسأل عن دين العظيم ولا عن طائفته. بل تسأل عن بلده لأجل المعرفة. وأنت ببساطة قد تُسلم جسدك وحياتك الى طبيب جرّاح، من دون أن تسأل أن كان يهودياً او مسيحياً أو مسلما «أو ليس الأكثر خجلاً أن تسأله إن كان سنياً أو شيعياً؟!».
الجاهل والمتعصب سواء. فكلاهما يضع العلمانية في موضع الإتهام، كونها نقيضاً للتدين. ويضعها البعض في تابوت واحد مع الإلحاد! نعم. ربما تكون العلمانية نقيضاً للدين «الواحد»، غير أنها مع «الأديان» جميعاً! وسوف تسأل: كيف؟! والجواب هو: من حق المسلم أن يرى دينه الأقرب إلى الله. وكذلك من حق اليهودي والمسيحي والصابئي، شريطة ألاّ يقول للآخرين: أنا مؤمن وحدي، وأنتم كفّار. التكفير هو الذي أوجد الحروب الصليبية في ماضي البشرية المخجل، والتكفير هو الذي أوجد محاكم التفتيش– عار أوروبا حتى اليوم – وهو الذي أوجد «القاعدة»، عارنا نحن المسلمين!
نعم. العلماني ليس «متديناً» الى درجة قتل الآخر. إنه يرى الأديان كلها بدرجة واحدة من الإحترام. وعاطفياً، قد يجد دينه الأفضل. لكنه لا يعلن هذا احتراماً للآخر. إنه «متساهل» في دينه الى درجة قد تجعله «كافراً» عند متعصبي دينه!
هنالك حكاية تشبه الأساطير عن أسقف مدينة «كانتربري» الذي طُلب منه أن يصدر «فتوى» ضدّ الشيوعية. فقال الرجل الحكم: لن أقول رأياً في أناس لم أرهم. فسافر الى الاتحاد السوفياتي كي يرى الشيوعية والشيوعيين موقعياً. وبقي هناك زمناً يكفي لإبداء الرأي. وعندما عاد سأله الصحفيون: كيف وجدتهم؟ فأجاب: «وجدتهم يعبدون الله ستة أيام في الأسبوع، ويعصونه يوم الأحد فقط!» أي أنهم يعملون ستة أيام، لكنهم لا يذهبون الى الكنيسة في اليوم السابع. كان الأمر مديحاً واضحاً. ولهذا منحوا الرجل لقب «القسّ الأحمر!».
مغنينا العراقي العظيم عزيز علي كان قد غنّى منذ حوالي السبعين عاماً: «يا جماعة والنبي. من حقوق الإنسانْ. بالعرف والأديانْ. يعيشْ حرّ الرأيّ حرّ الفكرْ حرّ اللسانْ. يعيشْ آمنْ مطمئنْ البال كائنْ مَن كانْ».والأغنية باللهجة الوسطى بين الفصيحة والعامية. وعليك أن تسكّن أواخر الكلمات كلّها. كما أرجوك التركيز على كلمة «الأديان». وكلمة «كائن من كان» .
وأحد أصدقائي اشترى منذ خمسين عاماً مروحة منضدية دوّارة. والدته الأمية رأت المروحة تدور على أولادها النائمين واحداً واحداً. فقالت: «يمّه. هذا اللي سوّاها «صنعها» لازم يدخل الجنّة!». المرأة تتحدث عن «خير الناس» الذي «نفع الناس»، وهي متأكدة من أنه ليس مسلماً. ولا سنياً أو شيعياً طبعاً! إمرأة «علمانية» من دون أنْ تدري!