استفاق اللبنانيون في صقيع فجر السادس من فبراير على زلزال داهمهم وهم بعد نيام، وتمهل كثيرا قبل أن يرحل. ينضم هذا الزلزال إلى قائمة الكوارث التي يعيشونها.
ولكنه أشفق على اللبنانيين فأعفاهم من الأضرار الهائلة التي فتكت بسكان جنوب تركيا وشمال وغرب سوريا، موقعة عشرات آلاف الضحايا وملايين المتضررين.
في عشية ذلك الفجر كنا في خيمة المغدور لقمان سليم، نحيي الموعد الثاني لاغتياله منذ عامين.
تناولت في تلك المناسبة وتحت عنوان “لبنان في عين العاصفة”، ارتدادات العواصف التي تمر في المنطقة وتأثيرها على لبنان. فكثيرة هي العواصف التي هددت، وتهدد، لبنان منذ نشأته. البعض ينسبها للداخل وتكوينه ونظامه الطائفي والبعض للخارج والمحيط العدائي.
فهل النظام اللبناني وطوائفه هم المسؤولون عن اهتزاز الوضع اللبناني؟ أم المحيط الخارجي والموقع الجغرافي؟
يشير ليبهارت، منظّر الديمقراطية التوافقية، إلى أن لبنان، قبل عام 1975، تعرّض لانفجار الصراع الأهلي عدة مرات، ولكنه تمكن من البقاء رغم ذلك وأبقى ضررها محدوداً؛ من ذلك الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1958، والتي يجد أنها كانت “حربا أهلية سلمية بصورة استثنائية”. فلبنان يتميز أنه مجتمع تعددي ويحتوي على عدة فئات، لكنها كلها أقليات، وكانت في حينها متساوية تقريبا، لذا ظلت تحافظ على نوع من التوازن. وكانت المخاطر الخارجية في حدها الأدنى.
ففي زمن الكفاح من أجل الاستقلال ضد السيطرة الخارجية التي كانت تمارسها سلطة الانتداب الفرنسي في عام 1943، توحّدت الطوائف الدينية.
وينقل عن حسن صعب “كل مشاكل المجتمع، والحياة اللبنانية العميقة الأخرى أخضعت لهذا الشاغل الغالب. فالقضايا الاجتماعية الأعمق غورا كان من شأنها أن تقسّم، أما الحاجة الملحّة فكانت للتوحد وراء هدف التحرير الوطني العام”. ولكن بعد الاستقلال تفاقمت صراعات الشرق الأوسط. ما أخل بالتوازن.
وبؤرة الصراع في الشرق الأوسط قضية فلسطين، عام 1948. دخل لبنان عين العاصفة منذ ذلك الحين؛ وإن بشكل متقطع ومتناوب الحدة والخطورة.
زاد اللجوء الفلسطيني حينها عبء الدولة، التي استقلت قبل خمس سنوات فقط، وكشف عيوبها التي ستتفاقم مع الوقت. فاحتلال فلسطين هجّر أعدادا كبيرة من الفلسطينيين إلى لبنان، ويرى ليبهارت أن هذا اللجوء تسبب باختلال التوازن، لأنه فرض أعباء استيعاب أعداد كبيرة حينها.
نتج أيضا عن الاحتلال هجرة سكانية جنوبية نحو العاصمة بسبب انقطاعهم عن مجالهم الحيوي في فلسطين. وغالبيتهم من المزارعين الشيعة والريفيين غير المهرة. وانطلقت مقولة: “عمال مرفأ ونظافة” مثلا وشعارا.
لم تكن العدالة الاجتماعية مركز اهتمام من الطبقة الحاكمة تحت سلطة المارونية السياسية. لكن فؤاد شهاب تنبّه إلى مخاطر اللاعدالة والتنمية غير المتساوية، وحاول معالجتها. ففتح المدارس الرسمية وعفى عن الطفار ونجح في إرساء دعائم دولة قانون ومؤسسات تضمن حسن سير القضاء وآليات المحاسبة.
لم تتحمله الطبقة الحاكمة من العائلات المارونية التي ميّزها الانتداب الفرنسي، خصوصا التي تعاونت معه. فانقلبت هذه الفئة على شهاب الذي لقّب بالمسلم، ولم تقبل التنازل عن أي من مكتسباتها للشركاء الآخرين في الوطن.
في عام 1969، وطمعا بكرسي الرئاسة، وبضغط من رشيد كرامي باسم المسلمين، تم التنازل عن السيادة مع اتفاق القاهرة الذي أدخل السلاح الفلسطيني.
وَجدت ما عُرف بالحركة الوطنية، وغالبيتها من المسلمين، فرصتها للانقلاب على المارونية السياسية المتعنتة ضد المطالب الاصلاحية، بواسطة التحالف مع الفلسطينيين وسلاحهم. يشير ليبهارت إلى أن ذلك ما وضع الفئات المسيحية في مواجهة المسلمين الميالين إلى العرب في عدة قضايا.
ويستخلص ليبهارت أن واقع انهيار النظام الديمقراطي، في عام 1975، يجب أن يعزى إلى بيئة لبنان الدولية غير المؤاتية، المتردية بصورة متزايدة، والمقرونة بالعيب الداخلي المتمثل في الجمود التوافقي.
على هذه الخلفية انفجرت الحرب الأهلية برعاية الجيرة المتحفزة للقضاء على النموذج اللبناني المتمسك خصوصا بالحريات. لكن حافظ الأسد احترم الدستور والقوانين شكليا ولم ينسفها كما فعل حزب الله لمصلحة الهيمنة الإيرانية.
مقابل استجارة المسلمين بالسلاح الفلسطيني وقضيته، لجأ الطرف المسيحي إلى إسرائيل العدوة التي احتلت لبنان.
تزامن ذلك مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران، التي تحاول التمدد في لبنان منذ ما قبل الثورة. كمجيء موسى الصدر، واختلاف الآراء والتحليلات حول مرجعيته وأدواره.
استطاعت إيران بعد ركوب قضية فلسطين، التسلل تحت شعار “مقاومة الاحتلال الإسرائيلي”. واحتكرت المقاومة، بعد مناورات ومسيرة طويلة من العمليات الإرهابية وخطف الرهائن وقتل المفكرين والمقاومين، ناهيك عن الحروب الصغيرة بين المكونات الشيعية ومع المكونات اللبنانية الأخرى. وأعلنت أنها “المقاومة الإسلامية في لبنان”. بعد ذلك أصدر الخميني فتوى ألزمت الثنائي الشيعي، الأخوة – الأعداء، بالتحالف الحديدي.
استتب الأمر للمقاومة الإسلامية في لبنان إلى حين خروج الاحتلال الإسرائيلي عام 2000.
لم يعترف الحزب والممانعة، تحت راية حافظ الأسد ومن خلفه إيران، بالتحرير. ووجدوا ذريعة مزارع شبعا للحفاظ على السلاح.
بعد اغتيال الحريري، سمح تراخي ومصالح القوى، التي عرفت بـ “14 آذار”، لحزب الله التمكن وقضم مساحات الدولة اللبنانية ببطء، باستخدام وسائل متنوعة: حرب مع إسرائيل وقمع واغتيال وغزوات وإغراءات. ثم تحالف مع طرف مستميت لكرسي الرئاسة وجمع المكاسب، وأطراف مهادنة، إما خوفا أو تواطؤا، ومصلحة خاصة مالية وسلطوية. وقاموا بتغيير وجه النظام بواسطة اتفاق الدوحة، إثر غزوة بيروت الشهيرة.
نحن الآن رهينة الاحتلال الإيراني بواسطة ذراعه اللبنانية، حزب الله، بما هو فرقة في الحرس الثوري في نفس الوقت.
وكما نرى، لبنان يقع على خط فيالق زلزالية جغرافيا وسياسيا. وكلما مرّ الوقت، ضعفت الدولة ومؤسساتها وازداد السماسرة، الذين يتزعمون الطوائف ويصادرون قرارها، ارتباطا وارتهاناً كل للخارج الذي يراهن عليه للاستقواء على منافسيه على السلطة.
يزداد الوضع في لبنان تعقيدا كل يوم. فالوضع العالمي والإقليمي يتشابك بشكل كارثي.
وهناك رأيان حول تأثير ذلك على لبنان، الأول يقول إننا لسنا على رادار أحد وإن لبنان متروك لمصيره وعليه تدبر أمره مع محتليه الذين أنتجهم بنفسه؛ والآخر يرى أن لبنان غير متروك، وهناك محاولات جدية لإخراجه مما هو فيه. لكن نجاح ذلك يعتمد على مسؤولية الداخل في القيام بواجباته وفي توضيح مطالبه وتوحيدها والقيام بالخطوات الإصلاحية.
في هذا الوقت يستمر التدهور المعيشي والاقتصادي وعض الأصابع بانتظار من يصرخ أولا.
هل يعني ذلك الاستسلام؟ أبدا، لكنه يتطلب رفع مطلب تحرير لبنان من الاحتلال وعدم الخضوع لابتزاز حزب الله وحلفائه، ومتابعة النضال، كل من زاويته الصغيرة.
فليقم كل منا بواجبه من زاويته الصغيرة وألا يعتقد أن مساهمته غير مهمة. التغيرات الكبرى تحصل نتيجة تراكمات صغيرة. هكذا يمكن أن نراكم خروقات وخدوشا صغيرة لتهز جدار السلطة المنيع.
لم يتوقف لقمان سليم عن النضال والقيام بواجباته رغم التهديد والمخاطر التي كان يتعرض لها.
فلنحاول أن نكون كلقمان سليم والنساء الإيرانيات الشجاعات اللواتي يواجهن الدكتاتورية باللحم الحي.
monafayad@hotmail.com